ساحة الساعة (صباح أخير مع ميّ سكاف)

Magritte, La Durée poignardée, 1938

جولان حاجي

شاعر ومترجم سوري كردي

ودّعتُ ميّ أمام مدخل المغادِرين في محطة أوسترليتز، على مبعدة خطوات من أشجار البتولا التسع التي ترفرف أوراقها على ضفة السين كفراشات فضيةِ الأجنحة يطعنها النسيم بإبرٍ لا نراها، فلا تستطيع التحليق عن الغصون مهما علا الألم، إلا إذا حانت ساعتها وحملتها الريح، ولا كلمات عندها سوى الصمت والحفيف الهادئ كتمتماتٍ في الظلّ، بعدما تبدّدت أطنان الغيم فوق باريس لتصفو السماء في ذروة الصيف نقيةً كاليُتْم زرقاءَ كالفقدان.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

06/12/2018

تصوير: اسماء الغول

جولان حاجي

شاعر ومترجم سوري كردي

جولان حاجي

مقيم في فرنسا

الروزنامة الفرنسية

على الطريق إلى المكتبة الوطنية في جنوب باريس، صعدتُ الدرج الكهربائي المفضي إلى مخرج لا أسلكه عادة عند الخروج من محطة ليون، وهو المؤدي إلى وزارة الاقتصاد، فصادفتُ عند ناصية شارع فان غوغ، لصق واحدة من إشارات المرور العديدة، مقابل مخبز بول، ميّ سكاف تتحدث بالهاتف وهي تشير براحتها اليمنى مشدودة الأصابع إلى الساعة في البرج الرئيسي للمحطة. كان العقربان الأسودان يشيران إلى التاسعة والنصف. قبّة البرج، الرمادية كأسطحة باريس، تشبه خوذ فرسان في لوحات دافيد، أو جرساً سيرفعه الربّ عن مائدةٍ لا نراها ويهزّه ثلاث مرات فتدبّ الحياة في التماثيل ويهرع إليه الملائكة والقديسون الذين تزخر بهم كنائس باريس ومتاحفها وشوارعها المستقيمة. البرج العالي، ذو الساعات الأربع، ترصّعه وجوهُ أسُود نُحتت في الحجر، ولوهلةٍ تراءت لي شبيهةً بوجه ميّ، فصيحةَ الملامح، جميلة، غاضبة. حين لمحتني استمهلتني ريثما تنهي مكالمتها وهي تقارب أصابع يمناها ككوز صنوبر مقلوب يعلو ويهبط زيادة في التأكيد، ثم دارت يدها كالمروحة من برج غاما إلى فندق مركور. لم أفهم ما كانت تشرحه بإشاراتها، ووراء رأسها صورة عملاقة لزرافة داخل إعلان أصفر يطوّق مبنى عالياً لم ينتهِ تشييده.
Roger Schall, La Gare de Lyon, Paris, 1930

كنتُ قد دخلتُ للتوّ متجراً ألفظ اسمه “إكس ك وجزرة” ولم أشترِ شيئاً بسبب شحّ الشطائر في ساعات الصباح وفظاظة العامل، ثم قلتُ سآخذ خبزاً بالزيتون من “بول” فصادفتُ ميّ. منتظراً أن تنهي اتصالها، وقفتُ داخل المحلّ في طابور صغير يخلو من الفرنسيين. كان هناك سيّاح، إنكليز وألمان وإيطاليون يتحدّثون الإنكليزية أو الفرنسية، كلٌ وفق لكنته، والجميع يتنشّقون الرائحة الحامضة لزبدة الكرواسان. كان هناك ثلاثة فتيان في الخارج، كان أحدهم يتصفّح دليلاً سياحياً عن المرتفعات في أعالي سكوتلاندا التي اشتقتُ فجأة إلى اخضرارها الماطر، وإلى جانبه يقف فتى نحيل وشريط أبيض يمتدّ بين السماعة في أذنه والهاتف في جيب بيجامته، منتظراً خروج أمّه بأكواب الكابوتشينو. ثم ظهرت نحلة (أو ربما زرقطة- واحدة من تلك المخلوقات النقية التي تظهر أحياناً متثاقلة في طيرانها فوق طاولات المقاهي وصناديق الفواكه في البقاليات، لتتنقّل من أكواب العصير الفارغة المتروكة على الطاولات إلى بقايا الخبز المحلّى بالعنب). خاف الفتى الصغير، الطويل النحيل، فهشّ النحلة وناورها بحركات سريعة، متراجعاً إلى الوراء حتى أوشك يصطدم بسيدة عجوز كانت تجرّ حقيبتها على الرصيف فصدّته رافعةً يدَها ولامست بكفّها كتفه. تبادلا التحديق من دون كلمة واحدة. دامت ثانيتين أو ثلاثاً تحديقةُ الفتى الإسكوتلندي الذي جرحته العجوز الفرنسية بعينها وأكملتْ طريقها. قلتُ لنفسي إني أعرف هذه النظرات الجريحة جيداً، أعرف السهو الذي قد يجعلني أرتطم بأكتاف المارّة وأيديهم فتحبطني نظراتهم حينذاك، وإذا جُرحت عيناي كهذا الفتى، الآن وهنا، لداويتُهما بالذهاب إلى رواق اللوحات الذي تشوب ظلاله خضرةٌ وزرقةٌ خفيفتان، وتفرّجتُ وحدي على تلك الجداريات، كمَن ينتظر وصول قطار تأخر عن موعده، والانتظار هنا لا يلفت ارتيابَ أحد، تحت سقف المحطة المصنوع من معدن وزجاج، المائل كأهراءات الحبوب. مراتٍ ومرّات، متمهّلاً وسط زحام الركاب والمسافرين الذي تخلّلته الراياتُ الفوسفورية لعمال السكك الحديدية المضربين عن العمل، ملاصقاً الحائط المسيّج بألواح الترميم وستائره في رواق المصوّرين، الشبيه بممرٍ في قطار نوافذهُ هي اللوحات، شاهدتُ المدن الفرنسية المرسومة على الحائط الطويل المقابل كأنني أتصفّح روزنامة قديمة تزيّنها المناظر، والحائط تقويم لا تُقلب صفحاته ولا تُتنزع أوراقه. مستمتعاً برحابة السماوات في تلك الرسوم وكأنني لم أصِلْ بعدُ إلى هذه البلاد التي أعيش فيها، كنتُ أتريّث في المشي من مونتيكارلو ومونبلييه مارّاً بتولون ومرسيليا وأفينيون لأنتهي في فونتينبلو، ثم أعاود رحلتي بالاتجاه المعاكس، ذهاباً وإياباً بين القاعتين الأولى والثانية في محطة ليون، أعود أدراجي حين ألمح بطرف عيني مطعمَ “القطار الأزرق” وآرمته البيضوية كشعار ذهبي ملصَق إلى قطعة شوكولا فاخرة. جميلٌ ما يُرى في الأوقات المستقطعة. تبدو لي تلك الممرات عالية السقوف المغمورة بالشمس أو المقلّمة بالمطر، الضاجّة بالعابرين وأصداء العزلات، صورةً مكبّرة عن حياةٍ معلّقة بين مجهولَين، لا تعلم إلى متى ستستمرّ، كيف ستعود، هل ستُطرَد، إلى أين ستذهب.

Grande fresque de la gare de Lyon

 

بنت شوارع

“ماذا تفعلين هنا؟” سألتُ ميّ وأنا أقاسمها الخبز بالزيتون، بعدما أنهتْ اتّصالها المطوّل، فقالت: “أبحث عن امرأة سورية لا أعرفها. إنها تنتظرني عند برج الساعة”. أشارت بيدها إلى البرج مرة أخرى وهزّتها أكثر من مرّة، وكأنها تحاول أن تتذكر أغنية نسيتَها، أغنية لبربارة عن محطة ليون، أو ربما إديت بياف التي كانت لازمتها “non, je ne regrette rien” رنّة المنبّه على موبايل ميّ في الشام منذ عشر سنين، وأيقظتْها مرّة من غفوتها على المقاعد الخلفية أثناء حضورنا سوية فيلماً في سينما الكندي شبه الخالية، فاستعجلنا الخروج، ضاحكين من سكّة التجهيز حتى زقاق شيكاغو، زقاق الخمّارات التي تحوّلت إلى محلات للتصوير، وربما لا تزال مسكونة بأشباح سكارى كانوا أحياناً يرهنون طقوم أسنانهم الصناعية مقابل كؤوس من العرق. (ذات مساء ممطر في آذار، بعدما قرأنا “أنشودة المطر” معاً في أمسية للشعر العراقي، توقفنا أمام الدرَج الذي وُلدت عليه بياف في حيّ العمّال، على الرصيف في شارع بلفيل، واسترجعتْ ميّ الأغنيةَ نفسها: “وأنا أيضاً بنت شوارع، ولستُ نادمة على شيء…”).

سألتُها: “الستّ حمصيّة؟ اليوم أربعا.” فأجابت على طريقتها المعهودة لدى مَن يعرفها: “بلا غلاظة. شكلها ضايعة”. لم أدرِ مَن الضائعة حقاً في تلك اللحظة. والآن تكفي كلمة كهذه “ضائعة” لتهبّ على الروح عاصفة من الصور والمشاهد- من ضوضاء البلياردو في مقهى الرواق في العفيف حارة طفولتها الدمشقية؛ إلى أغنيات رشيد طه عن المسافرين والغرباء في مرمر والأوبِرج؛ إلى قفص العصفورين الفستقيّين اللذين استأمنني عليهما صديقي في ركن الدين، وكانا يغرّدان في صباحات آذار مع جوقة العصافير في منزل خالد بكداش، وقد راق هذا الجوار الشيوعي لميّ، فاعتنت بالعصفورين أثناء سفرنا إلى عيد النوروز في قامشلي، وسقتهما من ماء الفيجة وأطعمتهما القنبز، وكانت تعرف بضع كلمات كردية، إحداها “ورا” التي تعلّمتها أثناء تصوير فيلم “صهيل الجهات”، في سري كانيه أو ديريك، حين سمعت المخرج ينادي على المتجمهرين بمكبّر الصوت ليرجعوا إلى الوراء وينفضّوا عن موقع التصوير فكانوا يتقدّمون أكثر كلّما ناداهم “لَوَرَا، لَوَرَا”…

لا أنسى طعم المجدّرة التي أعدّتْها حين ذهبتُ إلى ضاحية دوردان جنوب باريس، ذات مساء هطل فيه ثلج نادرٌ كثير، لأعزّيها بوفاة شقيقتها لمى في دمشق، فسألتْ في المطبخ، وقد موّه تقطيعُ البصل دموعها: “علامَ نبكي حين نبكي؟”، فقلتُ ما قد يقوله عجائز أكراد تحت خيمة عزاء: “كلٌ يبكي على موتاه”، مستغرباً استفسارها ومستغرباً جوابي، سألتُها عن جود وكرة السلّة، ولم أكمل السؤال… لا أزال أحتفظ وسط علبة صغيرة لدبابيس الأوراق ببطاقة قطار ثانية لم أستخدمها لأني لم أزُرْ دوردان مرة أخرى. لا أستطيع، دون أن تُعتَصر أحشائي، إطالة التفكير في الصداع الرهيب الذي دهمها هناك وهي وحيدة، فتطوّحت مرتطمةً بالأثاث القليل في غرف شقة من شقق السكن الاجتماعي، وأرسلتْ بالهاتف حروفاً مشوّشة إلى أصدقاء كانت ستخرج معهم في نزهة إلى إحدى الغابات المحيطة بباريس. كانت تلك هي استغاثة اللحظات الأخيرة، ربما بعد الصيحات التي سمعها جيران لا يعرفونها وقبل أن يطبع الارتطام كدمةً على صدرها، ختماً أزرق كامداً في موضع القلب، مثل خارطة لمكانٍ لا يمكن الدخول إليه، مثل “بيتها” الذي أصلحه متطوّعون في جمعية خيريّة كاثوليكية وأقفلت الشرطة بابه بالشمع الأحمر ريثما تنتهي التحقيقات وينجلي سبب الوفاة، ثم لم تغفل رئيسة البلدية، متأسّفةً في كلمتها على منصة التأبين، الإشارةَ إلى أنّ ميّ لم تنَلْ بطاقة القطارات Navigo المجانية، ولنقصٍ في الأوراق اللازمة رُفِض طلب المساعدات CAF الذي قدّمَتْه ثلاث مرات.

غرافيتي لإديت بياف في بلفيل الدائرة الباريسية العشرين في الذكرى الخمسين لرحيلها 2013

 

الشجرة الناجية

قلتُ: “اسألي الستّ قبل ما يخلص شحن تلفونك”، ثم سجّلتُ رقم السيدة لديّ. وحين سألتُ أكثر علمتُ أنها كانت تنتظر ميّ عند ساعة أخرى، في ساحة محطة أوسترليتز، على الضفة اليسرى من السين. ناولتني هاتفها، ولا أعلم كم مرة ضاع هاتفها أو سُرق، ولا أعلم كم اتصالاً وكم رسالة كانت تتلقّى يومياً، ولا أزال عاجزاً عن محو أرقامها المسجّلة عندي تحت تسميات عديدة: “ميّ بعد السرقة”، “ميّ بدل ضائع”… شرحتُ العنوان بالتفصيل للسيدة، فأخبرتُها إننا قادمان إلى هناك، كي تلازم موضعها ولا تتحرّك من تحت جسر الحديد المقنطر الذي يعبر فوقه المترو، قطار الخطّ الخامس ذي اللون البرتقالي.

“إذن طريقنا واحد”، قلتُ، ورحنا نقطع جسر شارل ديغول. كانت الشمس قد أزالتْ رطوبةَ الأحجار التي تراكم في شقوقها غبار القرون. تبخّرتْ نداوة الهواء وبلَلُ الإسفلت فانحسرت الظلال وتوارى الحزن. أخيراً، توقّف انصبابُ المطر الذي صدئت تحته سقوفُ الكاتدرائيات وتماثيلُ الملوك والعباقرة حتى اخضرّ نحاسُها، وانتهى لمعان القطرات التي تتنقّط من المظلات على البلاط في مداخل البنايات وطُويت الإشاراتُ الصفراء التي تحذّر من الانزلاق على العتبات والأدراج. اجتزنا النهر الذي يشترك معه جدّ ميّ الأرمنيّ في الاسم نفسه “سين”، إلى يسارنا أدخنة تتصاعد من مداخن عالية لمصانع بعيدة ورافعاتُ بناء ومراكب راسية ومبنى مدينة الموضة والأزياء بواجهته النهرية التي تبدو لي مثل جوربٍ أو تمساح ضخم من البلاستيك، وإلى يميننا أرتال السيارات وباص صغير كهربائي، “صديق للبيئة”، قيد الاختبار يسير فارغاً على مهل، والسين المتدفّق إلى الشمال متشعّباً كلسان ثعبان حول جزيرة سان لوي، ومن ثم مطوّقاً كاتدرائية نوتردام. كان الوقتُ مبكّراً على قرعِ أيّ كنيسة أجراسَها، وثمة مهلة قبل أن تدوّي صفارات الإنذار، كما تدوّي عادةً عند الساعة الثانية عشرة في أول يوم أربعاء من كلّ شهر، لتذكير الناس باحتمالات الهروب إلى الملاجئ. كنّا على جسر شارل ديغول، اثنين آتيين من الضواحي، جزءاً ضئيلاً من الرقم الكاسح في “أزمة اللاجئين” التي ما عادتْ حديث الساعة، وللحظة رأيتُ في أربعةٍ من المارة متعجرفين يروننا بؤساء، فيتذمّرون من اجتياح المُعدَمين لعاصمة الجمال والأناقة وتلويثهم إياها، إذ كان بعض العرب والسّود الذين من دون أوراق قد خيّموا بأسمالهم وأكياس حياتهم تحت مدينة الموضة والأزياء، على ضفة السين، قبل أن ترحّلهم الشرطة بالقوّة. غذذتُ خطاي لمجاراة ميّ في إسراعها للحاق بالسيدة التي كانت قد سهَتْ وأبكرتْ في الوصول إلى الموعد ساعة كاملة لأنها لم تكن تستخدم هاتفاً ذكياً فلم يتغيّر التوقيت لديها. أسرعتُ المشي، لا مخافة المطر هذه المرة، فالشمس كانت قد محتْ شحوب الأشياء، وحجبتْ بضيائها إحساسَ النحس الذي ينتابني أحياناً، وميّ منطلقة في مشيتها الرياضية التي كانت ترفع عقبيها عن الأرض قليلاً مع كل خطوة، مرتدية بنطلوناً أسود وقميصاً أسود مطرّزاً، وريح خفيفة تفرّق شعرها “الكستنائيّ” الجعِد الذي تسارع ابيضاضه في فرنسا حتى شابَ كلّه، فاستوقفتُها وقلت: “تلك هي السفينة”، وكأنني أنوّه بشيء كنتُ قد تحدّثتُ عنه للتوّ. ظلّلتْ عينيها بيدها، فأشرتُ بيدي إلى مركب كبير بنفسجي الطلاء، بمحاذاة جسر سيمون دو بوفوار، أشرب البيرة الشقراء على سطحه أحياناً في مساءات الربيع والصيف، بعد ساعات القراءة في مكتبة فرانسوا ميتران التي أسمّيها أرضَ الأبراج الأربعة، المرصوفةَ بأخشابِ غابةٍ كاملة من أشجار الأمازون. “هل ترين الأصيص قرب المرساة؟ تلك هي شجرة الزيتون الغريقة”. كنتُ أتفقّد تلك الشجرة الصغيرة التي أغرقها فيضان السين أكثر من مرة ولم تمُتْ، ولفرط ما كنتُ قد ردّدتُ قصتها ظننتُ إنني قد رويتُها لميّ أيضاً، فقالت ضاحكة: “لا أرى شيئاً. أنت واهم! حسناً، سأتخيّلها معك. أظنّها شتلة وليست شجرة”. شتلة أنقذها غطّاسٌ من الموت، ارتطم أحد السكارى بأصيصها فهوتْ في النهر، ثم انتشلوها بالحبال والسلاسل من فوق جسر بيرسي وأرجعوها ككنزٍ غريق إلى مطرحها الأوّل، بعدما جرفتها فيضانات حزيران التي أغرقت المحطات وأقفلتْها على امتداد الضفّتين وسدّتِ الأنفاق بالوحول، ورفعتْ مركب المسابح “جوزفين بيكر” حتى صار بمستوى الشارع. شجيرة الزيتون تلك تزهر في أيار. لم يقتل البرد جذورها.

Madame De Sade by Ingmar Bergman

حلويات طوكيو إلى مدام دو ساد   

منتظِرَين سيدةً لا نعرف عنها سوى أنها قد وصلت للتوّ من سوريا، قادمة من بيروت، تزور باريس للمرة الأولى ولا تعرف الفرنسية، جلسنا على مقعد حجري في ساحة أوسترليتز، فيما كانت السيدة تقطع الجسر متّجهة إلى محطّة ليون. بدأت ميّ لفّ سيجارة من كيس تبغها وهي تزمّ جفونها تحت الضياء الغامر لشمس تموز في الصباح، مغمضةً إحدى عينيها لتنظر إليّ فيختفي اختلاف اللون بين حدقتيها العسليتين. كانت إحدى عينيها، إذا حزنت، تغور قليلاً في محجرها. حدّثتني عن رجل في أمستردام لا يزال يقرأ الروايات لزوجته الراقدة في غيبوبة مديدة، عن احتمالات سفرنا إلى إسطنبول لقراءة الشعر في الخريف، عن صديق بحاجة ماسّة إلى النقود ولا يستطيع العثور على أي عمل هنا، في هذه المدينة باهظة النفقات… وأثناء الحديث كانت ميّ تتلمّس حنجرتها، ربما لأنها كانت تستعدّ لعملية الغدّة الدرقية، ولهذا أحسستُ بجفاف راحتها حين أمسكتْ بمعصمي لتوقفني عن الكلام ثم نسيتْ ما كانت تنوي قوله. كنتُ قد طمأنتُها مراراً حين قرأتْ لي على الهاتف نتائج التحاليل الطبية والصور الشعاعية، وشرحتُ لها ما هي الخزعة بالتجميد وما هي دواعيها. كنتُ سأرافقها يوم دخولها إلى المستشفى لإجراء الجراحة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من تموز الماضي، أي بعد يومين من استباق الموت الجميعَ إلى مرافقتها. لم أحتمل حضور الجنازة. سافرتُ نهاية الشهر نفسه، راكباً القطار السريع من محطة ليون إلى جبال البيرينيه، قبل موجة الحرّ التي خوّفتِ العجائز والمتقاعدين، وكانت تسدل الستائر في آب وتغلق مصاريع النوافذ منذ العاشرة صباحاً، فتشتعل معها المصابيح التي تبقى مضاءة عادة أثناء نهارات الشتاء في منازل باريس.

أخبرتُ ميّ إنني هذه الأيام غارق في الأدب الياباني (متذكّراً النزفَ الذي أنهى أيامها بعدما هدّدها أعواماً وأعواماً، حقل الألغام المنسية والقنابل الصغيرة المهمَلة في الشرايين التي انفجر أحدها داخل رأسها، أضيف الآن: “كي أفهم مُويا مُويا جيداً”)، ثم استدركتُ: “نسيتِ أنك كنت تنوين العمل على مسرحية ميشيما “مدام دو ساد”؟” طلبتْ نسختها من رواية “هندباء برية” التي كنتُ أترجمها حينذاك، وقد جزمتْ بجمالها من دون أن تكون قد قرأتْ شيئاً منها. كانت أيام ميّ صاخبةً ومليئة بالكثير من المشاريع الجميلة المؤجّلة. كنتُ ذاهباً إلى المكتبة الوطنية الفرنسية للاطلاع على كتاب سيسيل ساكاي “العتمة المضاءة بنورٍ قليل”، وأعمال أدبية أخرى كتب كاواباتا مقدماتها مثل “فصول كيوتو الأربعة” التي دوّن فيها وصفاً موجعاً لجذور الأشجار.

ودّعتُ ميّ أمام مدخل المغادِرين في محطة أوسترليتز، على مبعدة خطوات من أشجار البتولا التسع التي ترفرف أوراقها على ضفة السين كفراشات فضيةِ الأجنحة يطعنها النسيم بإبرٍ لا نراها، فلا تستطيع التحليق عن الغصون مهما علا الألم، إلا إذا حانت ساعتها وحملتها الريح، ولا كلمات عندها سوى الصمت والحفيف الهادئ كتمتماتٍ في الظلّ، بعدما تبدّدت أطنان الغيم فوق باريس لتصفو السماء في ذروة الصيف نقيةً كاليُتْم زرقاءَ كالفقدان.

“لَكْ يا زلمة، ليش مستعجل؟ الشمس حلوة، خلّينا نشرب قهوة وندخّن سيجارة. آه، صحيح أنت بطّلت”، قالت ميّ، وأنا برّرتُ استعجالي بأنّ لدي موعداً مع سيدة في الأرشيف ستدلّني إلى مراجع وأفلام يابانية، ولا أستطيع التأخّر. “نلتقي قريباً. سأجلب لك معي “حلويات طوكيو””، قلتُ وعانقتُ ميّ للمرة الأخيرة في ساحة أوسترليتز، أمام نوافذ المحطة الواسعة ذوات الإطارات الرفيعة الحمراء كحافات الجفون بعد بكاء حارّ، وكانت الساعة متوقفة عند العاشرة وخمس وعشرين دقيقة. لا يزال العقربان ساكنين عند ذلك التوقيت نفسه. رأيتُهما منذ أيام وأنا أبدّد بالمشي كآبةَ المساء، بعد خروجي من معرض في حديقة النباتات حول المذنّبات والشهب والنيازك التي تتعذّر مشاهدتها في ليل باريس، لكني حينذاك لم أنتبه على الفور إلى جمود العقربين، ربما لاختلال إحساسي بالزمن بعد تيهٍ في الأفلاك والمجرّات، أو ربما لأنني حاولتُ أن أقرأ سلسلة طويلة من دعايات صغيرة زرقاء نُصبت مؤخّراً، “احتفاءً” بالذكرى السبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي أصغر بكثير من باقي الدعايات التي تسوّر مشاريع البناء هناك. كان عاملٌ أسود يصعد سلالم الترميمات التي لا تنتهي، حين توقّفتُ عند هذا البند: “لا يجوز اعتقال أيّ إنسان أو حجزه أو نفيه تعسّفاً”. ردّدتْ ميّ هذه العبارة نفسها في اعتصامٍ مسائي أمام الجامع الأموي في دمشق، حين كانت إسرائيل تقصف غزة شتاء 2008؛ أراها تصيح: “إذا ضاقت الأرض، فسآخذ هذه الكلمات معي إلى كوكب آخر”، وفي يدها شمعة بيضاء كمئذنة العروس، قبالة أعمدة جوبيتر، محاطةً بالشبّان في ساحة المسكيّة حيث لا تُحقّرُ الحمامة بأنها جرذ طائر، ولا حمامات عرجاوات شرِهات قد تثير الغثيانَ أقدامُهنّ المبتورة، وربما أكلتِ الجرذانُ مخالبهنّ.
 

المسكية في دمشق، في خمسينيات القرن العشرين
الكاتب: جولان حاجي

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع