كثيرًا ما انطوى فن الرسائل على فن السيرة، وتمثل رسائل فريدا كالو، التي جمعتها مارثا زامورا وترجمتها سيزار كبيبو لدار نينوى، سيرة مجتزأة؛ توحي أكثر مما تشير وتلهم أكثر مما تصور حياة قديمة ومنتهية.
تعتبر فريدا مثالًا عن الفن الذي ينصف صاحبه، إنّها مثال فريد عن الموهبة التي تمثل المواساة لا لصاحبها فقط وإنّما لجمهورهِ أيضًا. أصيبت بشلل أطفال أعاق استخدام قدمها اليمنى، وتعرضت لحادث ملأ جسدها بالكسور ومخيلتها بالعذاب، كان جسدها، لفترة، مشيدًا من أربطة ودعائم حديدية، كما لو أنّه جسر أو منشأة أو تمثال، حتى أنّها حضرت أحد معارضها وهي محمولة على السرير.
إنّ هذا الحال، الذي ظاهره مأساوي، حال إبداعي ومحفز في جوهره. إذ إنّ فريدا راحت ترسم باستخدام مرآة معلقة فوق السرير بورتريهات شخصية تلتئم فيها المعاناة مع الرشد، وتظهر الرأفة إزاء أقدار سيئة، تعي كالو آلامها وتخرج منها إلى فضاء أرحب، لتصنع حالة فريدة ومؤثرة. إلى جانب وضعها الصحي لقد شكلت قصة الحب التي عاشتها مع دييغو عالمها النفسي والعاطفي، عبر خياناته المتكررة لها وشغفها الشديد به. إنّ فريدا المثابرة والتي تكابد آلامًا جسدية مبرحة، عرفت آلامًا أشدّ بسبب حبيب لا يعرف الولاء ولا يعد بهِ.
تعرف فريدا بالمثل، عشاقًا آخرين بدافع من تشفٍ وازدارء، أشهرهم هو المناضل الروسي تروتسكي. في رسائلها إلى عشاقها تكشف فريدا عن أنثى جامحة، تعرف من الحب أن تمنح وحسب، وبهذا فإنّها تمسك بسر العاطفة وبمنبع الألم بالقبضة نفسها. نجدها مستعدة لوهب سعادتها خلال حياتها كاملة، مقابل قبلة واحدة من أليخاندرو أرياس، وبعد ست سنوات من افتراقهما، ترسل لهُ: “ليتك تكتب لي من حين إلى آخر، حتى لو كانت ثلاث كلمات فقط. لا أعرف لماذا أطلب منك هذا، وكل ما أعرفه هو حاجتي لأن تكتب لي.” بتحليل بسيط لرسائلها إلى دييغو الذي آمن بموهبتها وصار زوجها ولرسائلها إلى أليخاندر حبها الأول. يجد القارئ أنّ فريدا تسلك السلوك العاطفي ذاتهُ مع الرجلين، والامتياز في قصتها مع دييغو، يجيء من أسباب غير عاطفية ومرتبطة بشخصية دييغو، على العكس ممّا يوحي ألمها الإبداعي. إذ إنّ دييغو رسام معروف وطموح وإشكالي، لا يركن للأخلاق العامة وإنّما يعمل بصورة دائمة على تحطيمها. حتى أنّ خيانات فريدا لهُ، جاءت ردة فعل على خياناتهِ لها، تحديًا لهُ، وسعيًا مريرًا لإنصاف أنوثة مهدورة. قبل أن تستسلم لطبيعة زوجها وترسل لهُ: “لمَ لا أفهم أن كل هذا لا يتعدى كونه مجرد نكتة، وأنّنا في أعماقنا متيّمان ببعضنا البعض؟ رغم أنّنا خضنا مغامرات لا حصر لها، ألم نعشق بعضنا البعض طوال الوقت؟ أعتقد بأنّ ما يحدث هو أنّني غبية وحمقاء بعض الشيء”.
لقد باتت فريدا ترى خياناتهُ جزءًا من طبيعة حبهما، وأدركت بعد سبع سنوات مع دييغو بأنّها تحبه أكثر من جلدها. لقد دفعها عبر سلوكه الصلف والذي بدا، خارجًا عن سيطرتهِ، إلى أن ترسل لعشيقها المصور الهنغاري نيكولاس موراي: “مارس الحب فقط في حال وجدت فتاة عابرة، ولكن لا تقع في حبها”. يبدو عمق التأثير الذي أحدثه دييغو لدى فريدا في رسائلها إلى عشاق آخرين، ويكاد يخلو زواجها للمرة الثانية منه من المشاجرات، لأنّها توقفت عن التحري وراء النساء اللواتي يظهرن فجأة في حياته ثم يأسرن قلبهُ. عندما تكتب عنهُ فإنّها لا تنوح لهول معاناة العيش مع شخصٍ مثلهِ وإنمّا تذكر التالي: “لا أعتقد أن ضفتي النهر تشتكيان من جريانهِ، أو أنّ الأرض تتذمر من المطر، أو تضيق الذرّة ذرعًا بطاقتها”. لقد أحالت طبيعة زوجها الاستثنائية إلى جزء بديهي من الطبيعة الفطرية.
تذكر فريدا فلسفتها الخاصة في العمل كفنانة، إذ إنّ حافزها إلى العمل عفوي ونابع من أحاسيسها، لا تنتظر سوى شعورًا بالرضى يسببه الرسم. واقتصرت مواضيع لوحاتها على حالتها الذهنية والآثار النفسية لصراعها مع الحياة. في تحليلها للوحة موسى، تذكر أنّ “السبب الذي يدفع الناس لصناعة أبطال وآلهة أو تخيلهم هو الخوف المحض”. تتحدث في رسالتها إلى رئيس المكسيك وهي تدافع عن واحدة من جداريات دييغو الإشكالية عن “الضمير الثقافي للشعوب” والذي منع تحول سقف كنيسة إلى مبنى سكني، إنّها تجد في الفن “صوت التاريخ”. عندما تكتب بورتريها عن دييغو في معرض أقيم لتحيتهِ، تصف الكلمات بالألوان غير المألوفة بالنسبة لها. إلا أنّ فريدا في الرسائل جميعها، إلى أطبائها وأصدقائها وعشاقها، أبدت براعة في استخدام هذا اللون غير المألوف. وقد جاءت لغة الرسائل لغةً عذبة وسلسة، تتوقد بالأفكار وتكتنف العاطفة.
عندما تتحدث فريدا عن الرسم فإنّها تدين لموهبتها حدًا ينفي سعادتها خارج الفن، تذكر في سيرتها الذاتية:” الرسم أكمل حياتي. فقدت ثلاثة أطفال وباقة من الأشياء الأخرى، التي كانت لتزين حياتي المريعة. شغلت لوحاتي مكان كل هذه الأشياء. أعتقد أنّ العمل هو أفضل شيء نفعله”.