في ملف خصصته له مجلة “الحياة المسرحية”، العدد 56 / 2005، حين تسأل أمينة عباس، في لقاء المسرحي ممدوح عدوان: ما هو العمل المسرحي الذي كتبته وتشعر بكماله؟، أجاب: هناك أكثر من عمل مثل: محاكمة الرجل الذي لم يحارب، ليل العبيد ، هاملت يستيقظ مؤخراً، زيارة الملكة.”
نشوء الإسلام برواية العبيد:
لوهلة يبدو لنا خيار ممدوح عدوان في مسرحية “ليل العبيد”، هو كتابة مسرحية تروي حكاية صعود الإسلام، وانتشار دعوة محمد خلافاً لإرادة أسياد قريش. إنها القصة المتعارف عليها في بدأ محمد بالتبشير، ولحاق الأتباع به، صراعه مع قريش، انتهاءاً بانتصاره وتزعمه على العرب. يعتقد المتلقي للوهلة الأولى أنه أمام نسخة مسرحية من فيلم “الرسالة” لمحمد العقاد (1976).
لكن هذا الحدث التاريخي، يختار ممدوح عدوان أن يرويه من رؤية شخصيات ثلاثة أساسية في المسرحية، ثلاثتهم عبيد يعانون من الرق بأنواع متفاوتة. من هنا تأتي أهمية إعادة رواية صعود الإسلام والسلطة التي انبثقت منه وحكمت العرب، في “ليل العبيد”، نحن نرى الحدث من وجهة نظر العبيد. ذلك يصنع مفارقة للقارئ، ويجعله يعيد النظر في تأويل الحدث التاريخي ومساءلته، ما يبحث عنه ممدوح عدوان جاهداً في مسرحه ككل.
لا يلبث قارئ مسرحية “ليل العبيد” أن ينتبه إلى أن العوامل الإقتصادية والتجارية لعبت دوراً هاماً في هذا الحدث التاريخي الذي غيبت عنه. في بعض مقاطع “ليل العبيد”، نشعر أن الصراع بين محمد وقريش ممثلاً بأبي سفيان، كان يتعلق بالسيطرة والتحكم بطريق التجارة بين مكة والشام. خصوصاً إذاً أضفنا الغنى والثراء المادي الذي كان عليه محمد، مما يجعله فعلاً منافساً لأسياد قريش التقليديين على تجارة الشام.
في “ليل العبيد” يحاول عدوان أن ينقل لنا تلك الأحداث التاريخية من خلال ثلاث شخصيات أساسية في المسرحية، وثلاثتهم يعانون العبودية بأنواع مختلفة، (الحطيئة، بلال، ووحشي)، الحطيئة كان شاعراً متنفعاً، يركز اهتمامه بكسب المال لعيشه وإعالة عائلته، هو من بين الثلاثة ليس رقاً، لكنه لا يمانع من التبعية وحتى أحياناً التذلل لكي يستمر على قيد الحياة ويعيل أسرته، إنه يمثل شخصية براغماتية تدرك أن عليها متابعة الحياة وفق الشروط المفروضة عليها، ولذلك فهو ضحية نظام ما قبل الإسلام وما بعده.
في حين يجسد (بلال) شخصية العبد المثالي الذي ما إن أعطاه الإسلام حريته، بعد أن اشتراه (أبو بكر)، حتى منح نفسه بالكامل للدعوة الإسلامية، مؤذناً ومقاتلاً ومدافعاً ووفياً. هل يزكي كاتب المسرحية هذا النموذج؟ كلا. الشخصية الرئيسية في “ليل العبيد” هو (وحشي).
(وحشي) عبد عند آل قريش يحلم بالحرية، ينتظر من قوته وقدراته القتالية أن يحصل عليها، يقول: أنت يا حريتي، أنت يا حريتي، إنهم يحاربون من أجل ثأرهم وتجارتهم وأنا أحارب من أجلك أنت. تمنحه (هند) حريته حين يقتل (حمزة) برمحه. يعتبر أنه نال حريته وعتقه بجهده، لكن حريته وتحقيق ذاته مرتبط بإمتلاك ما يمتلكه الأسياد حسب رأيه، إنه يشتهي سيدته (هند)، ولكنه لا يصل إليها أبداً. يكتشف (وحشي) بدايةً، أن الحرية لا تعني امتلاك ما يملكه الأسياد. وحين يسأله الحطيئة: أتقتل رجلاً في سبيل حريتك؟ يبدأ وعي (وحشي) بالتشكل، عبر التواصل مع هذا النوع من أسئلة (الحطيئة).
يقول الحطيئة، لوحشي: ها أنت حر وأن تموت جوعاً. هذه هي حريتك الوحيدة الآن. لقد تحررت من سيادة جبير عليك فوقعت تحت سيادة الناس كلهم.
التمييز العنصري
في مقاله بعنوان “النمور تتعلم الرسم” (1974)، يتطرق ممدوح عدوان بوضوح صارخ لموضوعة التمييز العنصري، وهو لا يكتفي بإدراك أهمية المساواة في الحقوق، بل يذهب أبعد من ذلك، ويطالب بالتنبه لوجودها في الخطاب الثقافي اللغوي العربي، فيخاطب القارئ: حين تقرر موقفك ضد التمييز العنصري، وتقرر أنك، كتقدمي، تؤيد حركة الزنوج في العالم، فهذا يعني أن عليك أن تعيد النظر في مجموعة القيم الراسخة عبر التاريخ، والمتسللة إلى لغتك وأمثالك الشعبية وحكاياتك، ثم إلى القيم المرتبطة بالعنصرية. فالتاريخ الذي صنعه أبيض فرز قيماً بيضاء معادية للسود.
يطالب هنا عدوان التنبه إلى المصطلحات العنصرية التي يتأسس بها الخطاب اللغوي: القلب الأسود، سود الله وجهك، سوداوي، ويرى عدوان أن ما ينطبق على مسألة الزنوج ينطبق على مسألة متعلقة بالمسحوقين، من نساء وفلاحين وعمال وفقراء ومنبوذين. ويأخذ مثالاً من من أحد أناشيدنا الوطنية: لا يطيق السادة الأحرار أطواق الحديد – إن عيش الذل والإرهاق أولى بالعبيد.
ويكتب عدوان عن هذا النشيد: إن هناك موروثاً ثقافياً جعلنا نردد هذا النشيد دون الإهتمام إلى هذه المسألة، وهذا الموروث طبقي وعنصري ومستمد من مجتمع الفروسية الجاهلي والبدوي والقائم على الرق.
الشخصية الوجودية
في الفصل الثاني من مسرحية “ليل العبيد”، تنتصر الدعوة الإسلامية لكن الصدمة تأتي للطبقات الفقيرة والعبيد حين يُنادى بالناس حين دخول محمد إلى مكة: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. إذاً، إن السلطة الإقتصادية المهيمنة قبل الإسلام ستستمر من بعد نشوئه. هذه الإشارة الأولى للعبيد على أن السلطات والقوى والطبقات ستتكرر ذاتها حتى بعد انتصار الإسلام. وهنا تجري أجمل حوارات المسرحية بين (الحطيئة، بلال، ووحشي) أصبح لكل منهم رؤية حول الإسلام، وأصبحوا متباينين في الحماس أو الارتداد عنه.
يترك الحطيئة الدعوة الإسلامية بعد أن يدخلها لبعض الوقت، وذلك لأن محمد قد منعه عن قول الشعر الذي يريده، تجري حوارات مميزة عما يجب أن يكون عليه الشعر، وما هي موضوعاته بين (الحطيئة) و (حسان بن ثابت). أما (بلال) فيبقى مأخوذاً بمثالية الدعوة الإسلامية دون أن يرى عيوبها وأخطاءها. أما (وحشي)، فيقول: أنا لم أصبح حراً، فتحت باب سجني وخرجت متوهماً أنني حر، فوجدت نفسي في سجن أوسع.
هذه هي حكاية شخصية (وحشي) في المسرحية، إنه الباحث عن معنى الحرية: هل الحرية بأن تحب من تشاء؟ هل الحرية بأن تجالس الأحرار والأسياد؟ هل الحرية أن تموت إيماناً بعقيدتك؟ هل الحرية سلوكيات؟ هذه الأسئلة التي تحاول شخصية (وحشي) أن تتلمس إجابة عنها دون جدوى. إنه شخصية وجودية.
في مسلسل «الزير سالم» (2000، إخراج: حاتم علي)، أيضاً يعود كاتب السيناريو ممدوح عدوان إلى التاريخ، وأيضاً ليقدم معالجة وجودية لشخصية تاريخية. إنه (الزير سالم) الذي كان سكيراً لاهياً فحوله مقتل أخوه (كليب) أول ملوك تغلب وبكر، راغباً في الإنتقام. استمرت الحرب أربعين عاماً، امتدت لأجيال، وولدت وماتت في أثنائها قرابات باتت لا تذكر السبب الرئيسي الذي قامت لأجله الحرب. لكن (الزير سالم) يرغب الإستمرار في القتال: لم أعد أعرف لما نقاتل، صار الثأر بعيداً، لكنني آمركم ألا تتوقفوا عن القتال، هذا اللاهي السكير في ماضيه، وجد ما يمنحه شعوراً بوجوده وذاته، إنها الحرب. ينهي ممدوح عدوان مصير (الزير سالم) مقتولاً من أعرابي مجهول، عابر سبيل، يُقتل البطل المحارب الشبه أسطوري من قبل مجهول عابر سبيل، هي (خفة الكائن التي لا تحتمل) التي كتب عنها (ميلان كونديرا)، في رواية تحمل هذا العنوان.
رسم ممدوح عدوان، (الزير سالم) شخصية وجودية باحثة عن الذات في القتال والحرب، أما شخصية (وحشي) في (ليل العبيد)، فسؤالها هو الحرية. ماذا يعني أن يكون المرء حراً؟ سؤال حري بالشخصيات الذهنية عند (فيودور دوستويفسكي)، أو بوضوح أكثر عند ما أسسه له أدباء التيار الوجودي (ألبير كامو، وجان بول سارتر).
في مقاله «المثقف الزعيم» كتب أنور محمد عن شخصية (وحشي): وحشي الذي قتل حمزة عم الرسول ثمناً لحريته، وجد في نفسه أن هذه الحرية لم تمح عبوديته. بقيت الحرية في هذه الحالة، مثل العبودية، فهي لم تلزمه، ماذا يفعل بها؟ الموت لم يعد موتاً، مثلما الحرية لم تعد حرية.
يبين الناقد أبي حسن أن هناك دوماً عوامل سوسيولوجية وسيكولوجية تربط بين ممدوح عدوان وبين شخصيات مسرحياته: عالج مفهوم البطل بأكثر من طريقة وعلى أكثر من مستوى، والرابط الذي كان يجمع بين هذه الطرق المتباينة أن البطل كان لديه دائماً تراجيديا، فضلاً عن انطواء حياته التي – غالباً ما كانت تنتهي نهاية فجائعية – على عنصر مأساوي في سيرورتها.
كيف تركت السيف؟
في “ليل العبيد”، يختار عدوان الحدث التاريخي نشوء الإسلام وانتشاره، ليعالج موضوعة الحرية كما رأينا. أما في مسرحية “كيف تركت السيف”، فتذهب إلى مرحلة تالية، إلى نشوء الدولة الأموية، مما يسمح بمراجعة مرحلة الخلفاء الراشدين الأربعة أيضاً.
في مسرحية “كيف تركت السيف؟” تظهر بوضوح القراءة الإقتصادية لنشوء الإسلام وانتشاره. في هذه المسرحية يحاكم الحاضر الماضي، وتحضر شخصيات من التاريخ على المسرح مثل (أبي ذر الغفاري، عثمان بن عفان، ومعاوية، ومروان) في هذه المسرحية تظهر بوضوح رؤية عدوان عن استمرارية السلطة لأغنياء وتحكمهم بمصير الناس حتى بعد انتصار الإسلام وانتشاره، وتشييد حكمه. فيها يكشف المؤلف عن ممارسات حكام المسلمين بمحاباة الطبقات الغنية، والتصرف بأموال الناس دون رقابة، ما يمكن أن نطلق عليه حالياً عنوان “الفساد”، ويبين بوضوح أن الحكم الإسلامي فشل في التغيير الاجتماعي الذي أراده، وأن الحكام حين أصبحوا بالسلطة أصبجوا مجبورين على محاباة الأقارب والحلفاء، على حساب باقي فئات الشعب.
ومن هنا يأتي عنوان المسرحية، “كيف تركت السيف؟”، السؤال الموجه إلى الشخصية التاريخية التي تحضر في المسرحية أي (أبو ذر الغفاري)، الذي كان رائياً للوضع التي آل إليها الإسلام، وكان صادقاً في قول آرائه وانتقاداته، إلا أنه آثر التشبث بفكرته على الدوام: تعيش وحدك وتقاتل وحدك وتموت وحدك. بدلاً من التفاته إلى الناس كي يقاتل بهم، بغية رد الإعتبار إليهم. كتب أنور محمد عن المسرحية: كان ممدوح يريد أن يقول: كل حق لا تسنده قوة هو باطل.
في مسرحية “محاكمة الرجل الذي لم يحارب” يعود ممدوح عدوان إلى فترة تاريخية ثالثة، هي فترة هجوم التتار بقيادة هولاكو على العراق وسورية، ليبين حال المواطن العربي المسلم المكسور حينها، التابع، والمسيّر وغير القادر على الإنتصار، من شدة القمع وغياب المساواة، والعدالة الإجتماعية.
الشعر في المسرح
في مقاله “الشعر والمأساة في مسرح ممدوح عدوان”، يتابع الناقد أُبي حسن حضور الشعر في نصوص مسرحيات ممدوح عدوان، يكتب: بدأ ممدوح عدوان كتاباته أواسط ستينيات القرن الماضي بمسرحية شعرية بعنوان “المخاض”، لكن بعد نصيه “هاملت يستيقظ مبكرا” و “ليل العبيد”، تخلص عدوان من الشعر في المسرح نهائياً. وكان حضوره فيما تبقى من منجزه المسرحي بما يخدم البنية الدرامية للنص حصرا. وهذا ما نجده في مسرحيتيه “أيام الجوع / سفر برلك” و “حكي السرايا وحكي القرايا” إذ طعمهما بتوابل من الشعر العامي.
دور المسرح: (المسرح التحريضي)
في كتابه “دفاعاً عن الجنون”، يكتب ممدوح عدوان عن رؤيته للعديد من الفنون، ومنها المسرح: إن المسرح جزء من المعرفة البشرية ومن وسائل نقل هذه المعرفة. ولما كان العمل المسرحي دائماً عملاً جماعياً فقد احتاج دائماً إلى المؤسسات للوصول إلى الناس. وهذه المؤسسات كانت مؤسسات رسمية بقيمها ومصادر تمويلها، مما جعل المسرح يخدم فكر الطبقات المسيطرة، أو يعمل على الأٌقل، على أن لا يعارض هذا الفكر ولا يصطدم به. من حيث المضمون، كان المسرح دائماً يهدف إلى تكريس الوضع السائد في العالم، أو على الأقل، لم يكن المسرح يحاول التطرق إلى شرعية هذا الوضع القائم.
في هذه المقالة يدافع ممدوح عدوان عن المسرح السياسي، أو ما يمكن أن نطلق عليه أدب الإلتزام: المسرح السياسي هو المسرح الذي يطرح مقولات سياسية أو يعالج أوضاعاً سياسية.
يوضح عدوان أن الفن السياسي المطلوب هو ذلك الفن الذي يهتم بهموم الإنسان في العالم، ويحاول مساعدتهم على تخطي هذه الهموم والخلاص منها، لا بالهرب منها أو بالقفز فوقها، بل بالصراع مع أسبابها ومواجهة هذه الأسباب. وبرأيه من هنا تتحدد أهم مواصفات المسرح السياسي: أنه يثير في الناس رفض الأمر الواقع، وأن يساعدهم على اكتشاف مساوئ الأوضاع السائدة من حولهم. وهذا يجعل المسرح السياسي مسرح فضح وتحريض ضد العالم كما هو الآن. وهو موجه بالدرجة الأولى إلى أولئك المتضررين من العالم كما هو الآن، وبالتالي فإنه لابد سيصطدم بأولئك المستفيدين من العالم كما هو.
ولكن هنا تبرز مشكلة يضيء عليها عدوان هي أن الجمهور الذي يتضامن معه فنان المسرح السياسي غير موجود في الصالة. الجمهور الموجود في الصالة هو جمهور البرجوازيين والطبقة الوسطى، أي الذين يملكون ثمن البطاقة، إنه الجمهور الخصم بالنسبة لرؤية عدوان للمسرح: يجب أن يذهب المسرح إلى جمهوره في المرحلة الأولى. حين لا يفعل ذلك يجب أن يعي هذه المسألة، وهي أنه يتعامل مع الجمهور الخصم.
هذه الرؤية عن دور المسرح في المجتمع، تمتد لتؤثر على تقنيات الكتابة والإخراج المسرحي لدى ممدوح عدوان، وكذلك عن رؤيته لعلاقة المسرح مع الجمهور داخل الصالة: وهذا يعني أن المسرح لم يعد يهمه توحد الجمهور وانسجامه، كما كان المسرح الكلاسيكي البرجوازي، معنياً بتوحيد الجمهور أمام عاطفة موحدة كالحزن أو الإعجاب أو التعاطف، بل هو يهدف إلى تحقيق الإنقسام بين الجمهور، وإلى إثارة أحقاد قسم منه على القسم الآخر. أو تأليب الجمهور على من هم خارج الصالة.
أخيراً، يكتب عدوان: هو إذاً مسرح تحريض على الفعل ومسرح تعميق الوعي. إنه ليس مسرح تنفيس عن الكبت والقهر، لأنه ليس المسرح الذي يقدم المشاكل محلولة على الخشبة، فيعطي الجمهور حماساً وإنطباعاً خاطئين يوحيان لهم بأن المشكلة في حياتهم أيضاً قد حلت. إنه المسرح الذي يخرج منه المتفرج مشحوناً بالرغبة في فعل شيء لتغيير الأوضاع المجحفة في هذا العالم .