تعرّفت إلى كميل أبو حنيش (من مواليد بيت دجن، نابلس، معتقل منذ عام 2003 في سجون الاحتلال الإسرائيليّة وحكم عليه بالسجن 9 مؤبدات) في شهر آذار الفائت حين زرت آل خندقجي والمكتبة الشعبيّة النابلسيّة وسألت أديب عن الإصدارات المحليّة الأخيرة فأجابني دون تردّد: “وجع بلا قرار” فقرأتها ولم أندم، بل قرأت بعدها مباشرة رواياته: “خبر عاجل” و”بشائر”، وراق لي أسلوبه ورسالته وكنت محظوظًا حين استلمت مسودة روايته القادمة “أرض السماء” فجاءتني مقولة “لعلّ الكتابة عن السجون وجع لكنّ الصمت عنها أكثر وجعًا فهو أدب ثائر في وجه من يُصادر الحريّة”.
كتاب “جمر المحطّات” للكاتب بسام الكعبي حول أدب السجون؛ رصد فيه جانباً واسعاً من أدب السجون في فلسطين والبلاد العربيّة، أوروبا وأميركا اللاتينيّة. تناول تجربة الشاعر الجزائريّ الرقيق البشير حاج علي التي سردها في كتابه “التّعسف” وتعذيبه في سجون الرئيس بومدين بأسلوب الخوذة الألمانيّة: حشر الرأس في خوذة حديديّة ضيّقة محكّمة، والطَرق فوقها بقوّة بشكل منتظم ولفترة طويلة؛ حتى يبدأ المُعتقل بفُقدان توازنه، وضياع ذاكرته بالتدريج. كُتب “التّعسف” على ورق الحمّامات، وهُرّب النصّ إلى رفاقه عبر زوجته صفيّة. كما تناول تجربة المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي في سجون الدكتاتور الفاشيّ موسوليني الذي كتب ثلاثة آلاف صفحة بخط يده وصدرت بعد رحيله في كتاب بعنوان “دفاتر السجن” واستشهد نتيجة إصابته بنزيف في الدماغ خلال تعذيبه جرّاء العزل في زنزانة انفراديّة. وحول أدب أميركا اللاتينيّة، “تحرّر المناضل تيسكورينا من سجنه بعد قضاء 13 سنة في سجون الأورغواي، سُجن لأنّه حارب ضد استبداد الجنرالات. وفور اعتقاله بدأ بتدوين يوميّاته على أوراق السجائر. أدرك أنّ كتاباته لا تروق لحرّاس السجن فأقدم على إخفائها بعناية في أحذية خشبيّة”!
جاء جود (بطل رواية “حكاية سرِّ الزيت” للأسير وليد دقّة) إلى الدنيا من نطفةٍ هرّبها والده من السجن، وعقابًا له حرموه من زيارته؛ وحين بلغ الثانية عشر من عمره صار همّه الأول اللقاء بوالده خلف القضبان والتعرّف إليه، رغم المنع الأمني.
وجاءت رواية عدنان (بطل رواية “الكبسولة”، 395 صفحة، دار الشامل للنشر والتوزيع، نابلس، فلسطين) إلى الدنيا من كبسولة أبو أسعد التي هُرّبت من السجن .
التقيت ظهر السبت، كعادتي منذ أحد عشر عامًا، صديقًا لي وحال دخوله غرفتي شاهد غلاف الرواية فدمعت عيناه وأخبرني أنّه ما زال يعاني من بواسيره بسبب الكبسولة!
نتيجة إنعدام الورق في السجن جعل الأسرى يبتكرون أسلوبًا خاصّا في الكتابة؛ الكتابة على الأوراق الداخليّة الشفّافة لعلب السجائر بخطٍ صغير للغاية، ثم يلفّ الورقة الشفّافة بعناية فائقة حتى تصبح صغيرة جدًا، ليجري بعدها لفّ خيط رفيع حولها، ثم تغلّف بغطاء بلاستيكي، بأكثر من طبقة، يقوم بكيّ البلاستيك على أطراف الرسالة لتصبح مثل حبّة الدواء، تصير كبسولة تُحمل أسفل الشفة العليا، وهناك من يبتلعها والقسم الآخر يحملها داخل الشرج، وحين تحرير عدنان من الأسر أوكل إليه أبو أسعد إيصال كبسولة إلى زوجته خارج السجن وشاءت الأقدار أن فقدها لتتشتّت كالكثيرين من أبناء شعبنا ليتتبّع أثرها حالمًا بالعودة بها إلى نابلس.
أخذني أسلوب الرواية الحداثيّ إلى الروائي الفرنسيّ غيوم ميسو وروايته “فتاة من ورق”، حين تظهر في منزل بطلها فتاة تدّعي أنها سقطت من بين سطور إحدى نسخ روايته التي يبلغ عددها ١٠٠٠٠٠ نسخة ، والتي تحتوي على خطأ مطبعيّ يجعل من الرواية تنقطع عند صفحة ٢٦٦ ، و تبقى باقي الصفحات بيضاء، ممّا دفع الناشر لسحب جميع النسخ ما عدا تلك النسخة التي سقطت منها الفتاة، وسبّبت مرضها الذي لا شفاء منه إلّا بالحصول على النسخة المفقودة، فبدأ رحلة عابرة للدول والقارات بحثّا عنها لوضع حد لمعاناتها .
بدأت أحداث الرواية زمنيّا أبان النكسة، ومكانيًا في منطقة الغور، مع ضياع الوطن، بداية العمل الفدائيّ في الأغوار، الاعتقال الأوّل في سجون الاحتلال وجبروت السجّان ولكن الأسر يغرس في ذهنه الوعي ليصل إلى قناعة أنّ فلسطين لن يحرّرها سوى أبنائها وبناتها وليس من يلهف وراء طوابير وكالة الغوث، معارك أيلول الأسود والخروج من الأردن، العمليّات الفدائيّة ممثلّة بدلال المغربي وعمليّة الساحل في الحادي عشر من آذار 1978، الاجتياح الاسرائيلي للجنوب اللبناني عام 78، حرب العام 1982، سجن الخيّام وزعران سعد حدّاد، المجازر والخروج من لبنان ومهزلة أوسلو التي أحدثت انقسامًا في الشارع الفلسطيني في الداخل وفي الشتات وأجهضت الانتفاضة وخلقت طبقة من المنتفعين والكومبرادوريين، حماة إسرائيل و”حدودها” وأخرين يلهثون وراء فُتات المانحين، يسيل لعابهم على دولارات ويوروهات الدول المانحة، وعدنان يحلم بسميرتِهِ علّها لم تتغيّر فيقول شعرًا:
“إني مريض في عيونك غادتي
فتكرّمي ولتمنحيني البلسم
فبقيتِ أجمل زهرة بحديقتي
وبقيتِ أروع لوحة في مرسمي
وبقيتِ دمعة في مقلتي
وبقيتِ قيدًا ثابتًا في معصمي”
يصوّر الكاتب خيبة أمل اللاجئين من أوسلو والمفاوضات العبثيّة، فالأمل بالعودة أشعل الحنين إلى الوطن المنشود والمُشتهى ولكنّه اصطدم بواقع جديد، بكذبة كبيرة ذكّرته بماركيز ومئة عام من العزلة: “إنّ الماضي لم يكن سوى كذبة. وأن لا عودة للذاكرة، وأن كلّ ربيع يمضي لا يمكن أن يُستعاد، وأنّ أعنف الحب وأطوله لم يكن في النهاية سوى حقيقة عابرة”، ويذكّر فرسان أوسلو بما قاله توفيق زيّاد:
“لا تقولوا لي انتصرنا
إن هذا النصر شرّ من هزيمة”
صدق مروان بقوله “كان الوطن أجمل قبل أن نعود إليه”. حقًا، أنّها عودة موؤودة!
الابن الذي رسمته تمام الأكحل في لوحة “إرث الشهيد” يحمل جثّة الشهيد العارية ما دامت خارج الوطن إلى أن تُوارى في ترابه وهي رمزيّة الإرث، إنها وصيّة الأب الشهيد لابنه، أن يبقى حاملًا ذكراه ولا ينسى الوطن، والجثمان لن يستريح إلّا حين يحضنه تراب الوطن، رُدّني إلى بلادي هي صرخة الشهيد لابنه، لن يستر جسدي إلّا تراب الوطن! وكما قال غابرييل غارسيا ماركيز في روايته “مائة عام من العزلة” “المرء لا ينتمي إلى أيّ مكان، ما دام ليس له فيه ميّت تحت التراب”، ليكون له قبر وشواهد. وهذه وصيّة كميل للأهل المشرّدين في الشتات وعبر البحار. الحنين يخنق الروح، فلا شيء يُشبع الحنين إذا استبدّ بنا ونحن في الغربة الثقيلة، آملين بالعودة. المنافي البعيدة ومخيّمات الشتات مليئة بمن تَرَكُوا روحهم وديعة على أرض الوطن، يعدّون الأيام والسنين، ويعيشون هاجس العودة، عودة الروح إلى الجسد، فحمّام الهناء هنا يصير “مرقد الانبعاث” هناك… وشتّان بين هذا وذاك. يصرخ مروانه: “طاردتني لعنة التشرّد التي بدأت ولا أعرف متى ستنتهي” فهو يرغب أن يُدفن في بلاده لا بمقابر الغربة، ليعوّض عن خطيئته الكبرى بمغادرة الوطن؟!
لحظات الضعف هي نافذة هشّة تجعلنا نخرج منها لعوالم لم نتوقّع يومًا دخولها، نتعلّق بالخيال لنُثبت لأنفسنا أنّنا ما زلنا قادرين على لملمة شتات أنفسنا والمضي قدماً نحو ما نريد، للملمة جراحَنا في رحلتنا للبحث عن الذات، فالحيرة تقتل، وأصعب الأمور على الإطلاق مواجهة الذاكرة بواقع مناقض لها، وعلينا إنقاذ تلك الذاكرة.
استخدم كميل السخرية السوداء فكان حادًا كالسيف: “مئات الطلبة يكملون دراستهم الجامعيّة في روسيا ليعودوا إلى أهاليهم وبلادهم يحملون شهاداتهم ويصطحبون معهم زوجاتهم الشقراوات، زُرق العينين”، وحين لعق لسانه بشهوانيّة آثار لُعاب سميرته وانتشى فقالت: “إذا كان لعابي لذيذًا إلى هذا الحد، ما رأيك أن أبصق في فمك؟”. عبّر عن سخطه وسخريته من القاضي العسكريّ الذي قال: “وشهرين إضافيين بسبب رفعك لحاجبيك وسخريتك من المحكمة”. وجّه اللوم للانتهازيّين من أبناء شعبنا وقال: “إذا لم تُعتقل في الحال، سيصل الخبر إلى اليهود، وإن آجلًا أم عاجلًا، فجواسيسهم في كلّ مكان”، وسخر من أخيه حسان “مظاهر البذخ بادية عليه، أناقته المفرطة، رائحة عطوره النفّاذة، وتبغه الثمين”، ولم ينس مرتزقة أوسلو: “لقد أصبحنا كالمافيات، ولم ننجز دولتنا بعد. الاحتلال يتفرّج علينا ويسخر من لهاثنا وراء مسمّيات وهميّة”.
كميل كاتب مثقّف موسوعيّ فيستشهد بانسيابيّة بجميل بثينة، عروة ابن أذينة، عنترة، عمر الخيّام، بدر شاكر السيّاب، المتنبي، أحمد شوقي، أبو تمام وجبران خليل جبران ويرمي بسهامه مثقّفي البلاط الموسميّين: “لم يعجبني منطق البعض منهم، وأبراجهم العاجية، حيث يطلّون من خلالها على الناس بغرور وكبرياء زائف، وفذلكات البعض وارتدائهم للأقنعة”.
لكميل حسّ وطنيّ مشرّف وهو ملمّ بأدب المقاومة ورموزه؛ عبد الرحيم محمود، أبو سلمى، محمود درويش غسان كنفاني، راشد حسين، سميح القاسم وهو القائل:
“أكتب عن شحذ الهمّة
أكتب عن أحلام الأمّة
طوبى للحرف الشامخ في الليل منارة
والعار لأبراج العاج المنهارة”
وهو مطلّع على الأدب العالمي ويتعامل معه بطبيعيّة، بعيدًا عن الشعاراتيّة وشدّ العضلات فيلجأ إلى تشي جيفارا، فكتور هوجو، الدون الهادئ لميخائيل شولوخوف، نيتشه، وباولو كويلو.
كميل مرهف الإحساس يعيدنا إلى الزمن الجميل، بعيدًا عن الاستعراضيّة، مع أغاني أم كلثوم (الأطلال)، فريد الأطرش (عِش أنت) ، ليلى مراد، محمد عبد الوهاب (يا جارة الوادي، النهر الخالد) وفيروز (رجعت في المساء، يا ساحر العينين).
لغة الرواية شاعريّة، مليئة بالحوارات الشعريّة التي لم تكن دخيلة على النص، متمكّن من ملكة اللغة والشعر وموسيقاه، لكن هناك الكثير الكثير من الأخطاء المطبعيّة، بعضها مجزريّة، ظلمت كميل ومعرفته الموسوعيّة.
إنّه شاعر حداثيّ بامتياز:
” من أين طريق الهجرة
يا مفترق الهدنة والحرب
أبواب مدينتنا مغلقة
في الهجرة لا نعرف طعمًا
للراحة.. للبهجة.. للحب
في الهجرة
يصبح همك ألا تتكرّر هجراتك
ثانية.. ثالثة.. رابعة
والآن.. كما بالأمس.. كما أول أمس
يشتعل حنينك للعودة
للدار بأرض الوطن”
برع كميل بالوصف وكأنّي به حاملًا كاميرته ويصوّر مشهد سميرته تستحمّ عارية وسط البركة الصغيرة، ويصوّر الطبيعة الخلّابة بنعناعها البرّي، وزهور الدفلى. برع كذلك في تكثيف الحوار وكشفت الرواية قدرته على التقاط التفاصيل من داخل المعتقل وخارجه وتوظيفها في النصّ.
ينادي كميل بشدّ الهمم، ليعود الأمل ليشتعل، ويستنشد بباولو كويلو ومقولته: “إنّنا نملك دائمًا إمكانيّة تحقيق ما نحلم به”.