مع كل دورة لمسابقة جائزة البوكر للرواية العربية، يحدث الكثير من الجدل والخلافات حولها، إما لأسباب اختياراتها التي يراها البعض منحازة لقضايا معينة دون غيرها، وأحياناً لعدم وضوح رؤية أو منهج؛ على أساسه يتم تقييم العمل الروائي الذي فاز بالجائزة، أو يصل إلى القائمة القصيرة. هذا عدا الانحياز السياسي الذي يلعب دوراً أحياناً، في اختيار أعمال وإقصاء أعمال أخرى. ومع اقتراب كل دورة، ينتظر المتابعون والمهتمون وغير المهتمين هذه الجائزة، متأملين أن تكون في دورتها الجديدة شيء من النضج، والمصداقية، والوضوح. وهناك من فقد الأمل بهذه الجائزة، وبات ينتقدها كل عام مع قدوم موسمها.
صراع الكاتب العربي أمام مسألة الجوائز الأدبية العربي، يشكل جانباً هاماً، على هامش الانتقادات التي توجه فقط للجوائز وللجان التحكيم.
أذكر أنني منذ أشهر قليلة فكّرت في عمل تحقيق صحفي حول الجوائز الأدبية في العالم العربي، والأسئلة العريضة التي فكرت في طرحها على بعض الكتّاب لم تكن بالجديدة، بل طرحها كثيرون قبلي، وكانت الأسئلة على هذا الشاكلة: هل باتت الجوائز الأدبية تتحكم في ذوق القارئ العربي؟ هل فرضت الجوائز نوعاً معيناً من الروايات الأدبية، وأقصت غيرها؟ هل تلعب الجوائز دوراً في تسييس الأدب؟ ما هو موقع الأعمال التجريبية من سوق النشر ومن الجوائز الأدبية؟ هل هناك أعمال أدبية مغضوب عليها، ومصيرها أن تبقى في الهامش، في حال لم تنل جائزة أدبية؟ وعدا القيمة المادية للجائزة؛ ما الذي من الممكن أن تقدمه للكاتب العربي؟
واكتشفت أن الآراء اللاذعة والحقيقية لأغلب الكتّاب، لا تُقال في العلن، ولا في الصحف ولا بأي منبر إعلامي. منهم من يحسب حساب الزمن (قد ينال كاتب ما الجائزة التي ينتقدها)، ومنهم من يترفع (قيمته ككاتب أهم من أن يضيع وقته في انتقاد جائزة أدبية). لكن على المقاهي والبارات وفي الجلسات الخاصة التي تجري فيها نقاشات وحوارات حول الجوائز، يقال كل شيء على المرء قوله.
في إحدى دردشات النميمة مع صديق روائي، حول الجوائز الأدبية، قال لي: “أنا شخصياً أعيش رعباً حقيقياً، في حال حددت هذه الجوائز مسارات معينة للكتابة، حتى بعيداً عن كتابتي الخاصة، إذ ليس من الضروري أن تكون كتاباتي تستحق جائزة أدبية، لمجرد أنها تجريبية، لكني أرى أن هناك هوة بين محكمي الجوائز الأدبية، والكتابة بشكل عام.” وبشيء من السخرية قال لي أيضًا: “يشعر المرء وكأن الشاعر أحمد شوقي يُحكّم في جائزة لقصيدة النثر!”
طموح الكاتب العربي المعاصر اليوم، يتعدى نجاحه المحلي، أي ما عاد يكتفي بـ “القارئ العربي”، ولا بحضور على مستوى العالم العربي، حتى لو لم يعترف بهذا “الطموح”، لكن يبقى مثل “الدودة” التي تأكل بأحشائه من الداخل. وهذا ليس عيباً، من حق أي كاتب أن يطمح بحضور عالمي، لكن كبرياء بعض الكتاب، تجعله يخفي هذا “الطموح”. والخطة الاستراتيجية للوصول إلى “العالمية” تختلف من كاتب لآخر.
صديق آخر وهو روائي مصري؛ قال لي ذات يوم إن طريق طموحه الأدبي يأتي بشكل تصاعدي، فأول شيء؛ عليه أن يطمح بنيل جائزة أدبية محلية، كجائزة ساويرس (تمنح فقط للكتّاب المصريين)، بعد ذلك جائزة عربية (جائزة البوكر للرواية العربية)، وأخيراً يستطيع أن يحقق انتشاراً عالميًا.
وهناك خطط أخرى يتبعها بعض الكتّاب في استراتيجية “الطموح”، وهؤلاء ربما قد رأوا أن الصراع حول الجوائز العربية ما بين الكتّاب أنفسهم، وخضوع دور النشر العربية لمزاج الجوائز من خلال ترشيحها لأعمال أدبية معينة (دور النشر تلعب دوراً كبيراً في عملية ترشيح أعمال أدبية دون غيرها للجوائز) غير مجدٍ بالنسبة لهؤلاء الكتّاب، فقرروا الابتعاد عن هذا الصراع، لأنه يقلل من قيمتهم ككتّاب. لكنهم بالمقابل، قرروا بناء علاقات، وصداقات، مع مترجمين أجانب، يترجمون من اللغة العربية إلى لغات أخرى، كالإنكليزية والفرنسية… وفي حال نجحت أعمالهم عبر لغات أخرى، قد ينتج عن هذه العملية تقديرًا “عالميًا”، من خلال العائد المادي، لحقوق كتبهم المترجمة، هذا عدا احتمالية حصول الكاتب على جوائز عالمية.
أي أن الكاتب العربي اليوم، ليس من الضروري أن يقتصر طموحه في نيل جائزة أدبية عربية كالبوكر، فقط لقيمتها المادية، بل جزء من الصراع يرجع بأن يترجم العمل الأدبي للكاتب إلى لغات أخرى (في حال فازت رواية عربية في جائزة البوكر، أو وصلت للقائمة القصيرة، تترجم إلى عدة لغات).
لكن إذا كان هذا حال الصراع داخل العالم العربي في مسألة الأعمال الأدبية التي تترجم إلى لغات أخرى، فهذا يحيلنا إلى سؤال؛ ما الذي يصل للقارئ الغربي من أعمال أدبية عربية؟ إذا كانت مرتبطة -وهي في طريقها إلى “العالمية”- بأمزجة لجان تحكيم جوائز أدبية من جهة، وبـ”علاقات عامة” من جهة أخرى؟ وكيف سيصل كاتب عربي جيد، فاشل في بناء علاقات عامة، ولا يجيد كتابة أعمال أدبية “استشراقية” تغازل الصورة النمطية لشريحة كبيرة من القراء في العالم بأسره عن منطقة “العالم الثالث”، إلى “العالمية”. وبالتأكيد ليس كل ما يترجم للغات أخرى محكوم عليه بأنه قدم أعمالاً غير جيدة، لكن الأعمال الجيدة تصل إلى العالمية بشق الأنفس، والقليل منها حتى.
كان وصول الكاتب المصري عادل عصمت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، بروايته “الوصايا”، والصادرة عن دار “كتب خان للنشر”، انتصاراً نوعاً ما. كونه يعتبر من كتّاب الأقاليم، بعيد عن مركزية مدينة كالقاهرة. فوصوله أعطى نوعاً من الأمل لكتّاب يكرسون كامل جهدهم للكتابة، والكتابة فقط. لكن فرصة وصول عادل عصمت إلى البوكر، عدا عن أنه كاتب جيد، كانت مدفوعة باعتبارات أخرى، وهي نيله لجائزة نجيب محفوظ في عام 2016 عن روايته “حكايات يوسف تادرس”، والتي تمنحها الجامعة الأمريكية في القاهرة.