نُشرت في “Indiewire” في ٢٢ يناير ٢٠٠٢
المخرج التايواني تساي مينغ-ليانغ يُصوّر بدقة يأس المنغلقين على ذواتهم، بتحفظٍ وبدعابةٍ حذرة. فيلمه “ما الوقت هناك؟” يمكن تمييزه في الحال: بداية من مشهد دقائق الست الأولى فصاعدًا، يقدم تساي الشخصيات مُدمرة بالصمتِ المنعزل. السوداوية هي الشعور الأقوى في هذا الفيلم، وعادةً ما يتم التعبير عنها بانحرافٍ صامت.
هسياو كانغ (لي كانغ شنغ، الأنا الأخرى للمخرج) يبيع الساعات في شوارع تايبيه. يلتقي فتاة، بعد وفاة والده ببضعةِ أيام، في أواخر العشرينات من عمرها، شيانغ- تشي (تشن شيانغ-تشي) المغادرة إلى باريس وترغب بساعةٍ يمكنها تتبع الوقت في كلا المنطقتين الزمنيتين. في تلك الأثناء، تصبح والدة هسياو-كانغ المنفطرة القلب مهووسة بفكرة أنه من المحتمل أن يُعاد خلق روح زوجها من جديد، ربما كصرصور، وربما كسمكة تدعى فاتي. يشتاق هسياو-كانغ إلى شيانغ-تشي، ويبدأ بتغيير توقيت الساعات في تايبيه إلى توقيت باريس؛ كسائحةٍ في الخارج لا تتحدث اللغة، تكابد شيانغ-تشي، أيضًا، اغترابًا قاسيًا.
دقيقًا بشكلٍ غير عادي في عناصره، يحمل “ما الوقت هناك؟”جميع أفكار تساي الشائعة والمعتادة: كاميرا ثابتة، ولقطات متناهية الطول، وحوار قصير، وبدون موسيقى. يخلق تساي عمل تقليلي يعمل كحلقة وصل بين فاسبيندر، وبريسون، وجاك تاتي. لكن كلًا من باريس وتايبيه هي منصات غير معروفة للأعمال المسرحية الخاصة بالمخرج. في الحوار، يميل تساي إلى إقحام صيحاتٍ من الضحكِ وسط ما تكون عادةً ردود طويلة ومتأنّية. لكن لا تزال هناك القليل من النقاشات التي سأم من الحديثِ عنها، مثل علاقته المهنية بلي كانغ شنغ الحاضر دائمًا في أعماله. بدا تساي، أيضًا، مرهقًا بعض الشيء حين تكلمنا خلال مهرجان فانكوفر السينمائي الدولي الخريف الماضي، حيث كان المخرج على مقربةٍ من نهاية شهر مليء بالدعايات والإعلان. ربما يؤتي عمله الشاق ثماره، حيث ينبغي أن يكون “ما الوقت هناك؟” طفرته الشمال أمريكية. تم إطلاق الفيلم في نيويورك بواسطة “Wellspring Media” في 11 يناير.
بداية، سؤال بسيط: لمَ صنعت هذا الفيلم؟
هناك العديد من الأشياء في الحياة التي علينا أن نواجهها، ولكن ما استحوذ على تركيزي بشكلٍ خاص كان موت والدي عام 1992. لطالما شعرت أنني يجب أن أفعل شيئًا حيال هذا، وإلا لن أتمكن من فعل أي شيء آخر. ببساطة، كان عليّ أن أنهي هذا الفيلم حتى أستطيع المضي قدمًا. وحين اكتمل شعرت بالارتياح. أشعر أنني قد حققت شيئًا.
لمَ تطلّب الأمر الكثير من الوقت حتى تتطرق إلى وفاة والدك؟
حين مات والدي كنت خائفًا من مواجهة الأمر، حتى أنني قلت إنني لن أصنع أبدًا فيلمًا عن الأشباح. لكن عام 1997، مات والد كانغ شنغ. كنا مقربين من بعضنا للغاية، وبدا الأمر كما لو أن أبًا ثانيًا لي قد مات. بدأت التفكير في الموت مرةً أخرى. لم أستطع التظاهر بأن شيئًا لم يكن، لذا قررت أن أصنع هذا الفيلم.
هل تعتقد أنها قصة شبح؟
نعم. في الحقيقة إن شبح والدي موجود. حين كنّا نصنع هذا الفيلم كانت عملية الإنتاج في غاية السلاسة لأننا كنا في حماية شبح أبي. كان الأمر كالسحر. أثناء صناعتنا الفيلم، خصوصًا خلال المشاهد التي كانت داخل الشقة، إن لم يستوعب أحد الممثلين، كنت أنادي اسم والد كانغ شنغ، أو أقول “اظهر يا عمي وساعدني.” فجأة يصبح الممثلون جيّدين جدّا. لذا أعتقد أنّه فيلم قصة شبح حقيقي. لكن ليست الأشباح وحدها بالفيلم. هناك بعض الآلهة الأخرى، كما في التراث الصيني، في البوذية بالتحديد. أعتقد أن كانغ شنغ مثّل ببراعةٍ كما فعل لأن أرواح موتاه ساعدته على الأداء.
كيف ترى أن البوذية أثرت على الطريقة التي تصنع بها الأفلام؟ هناك سكون في هذا بالفيلم بالتحديد.
للبوذية تأثير على أفلامي بالطبع. منذ بضعة أيام شاهد صديق لأمي الفليم وأخبرني أنّه كان فيلمًا عن البوذية. أعتقد أن البوذية الحقيقية هي ديانة عن أناس يبحثون عن روحانيتهم وحكمتهم الخاصة، من الأعماق الداخلية، لا من العالم الخارجي. يدور جزء من فيلمي حول هذا النوع من القضايا الروحانية.
سمعت أنه قبل أن تصنع “ما الوقت هناك؟” كنت تخطط لصناعة فيلم بميزانيةٍ أكبر.
لا وجود لمثل هذا المشروع! كانت أفلامي السابقة منخفضة الميزانية، لذا حين رغبت في صناعة فيلمي القادم، كنت أتحدث عن هذا الفيلم. ربما يكون هناك أموال أكثر وجودة أعلى بفضل التصوير في باريس، لذا أعتقد أنه من هنا تأتي الشائعة. ميزانية هذا الفيلم ضعف ميزانية “The River” تقريبًا ، لكنها كانت لا تزال صغيرة للغاية. قمنا بتعيين مصور أفضل [بينوا ديلهوم] وتمت طباعة الفيلم في باريس وهو ما كان أعلى تكلفةً من الطباعة في تايوان. كان هناك أيضًا تحسنًا في جودة الصوت.
هل تحب باريس؟ هل تقضي الكثير من الوقت هناك؟
أحبّ باريس كثيرًا، لكنّي لا أعتقد أنني أنتمي إلى هناك. قبل أن أصنع الفيلم قمت باستئجار شقة في باريس ومكثت هناك لمدة شهر. اعتقدت أنه بانتقالي إلى مدينةٍ جديدة مليئة بالغرباء، ربما أشعر بارتياحٍ أكبر وأكتشف ذاتًا جديدة لم أعرفها من قبل. لكن لم يحدث هذا. أعتقد أن لهذا علاقة بحقيقة أنني لا أجيد التحدث بالفرنسية أو الإنجليزية، وطبقًا لشخصيتي فأنا أسلك طريقي في الحياة بمفردي دائمًا. في تايبيه، إن رأيت مطعمًأ محتشدًا لن أدخله أبدًا.
في كل أفلامك يكون كانغ شنغ منعزلًا في تايبيه. لقد ولدت في ماليزيا، ولكنك تعيش الآن في تايبيه. هل هناك فرق بين أن تكون مواطنًا منعزلًا في تايبيه أو تكون أجنبيًا في باريس؟ أم أن كلا الوضعين متشابهين إلى حدٍ ما؟
في الحقيقة، ليس لديّ أيّة إجابة مباشرة لهذا السؤال. في الحياة الواقعية، لا أستمتع بالحشود، أحب أن أكون على طبيعتي. الوحدة والعزلة هما جزء من الطبيعة الإنسانية. بعض الناس يقدّرون العزلة ويعرفون قيمتها، ولكن البعض الآخر يخشاها… إنهم يحتاجون إلى الاختلاط، وإلى قصد مكان مزدحم. لكن هذا لا يعني أنك لا تكون وحيدًا وسط الحشد. وهكذا، فإن لدينا علاقات إنسانية زائفة لأن الناس يخشون تلك الجوانب الاجتماعية للعزلة. عليّ أن أواجه العزلة كما واجهت الموت. ولهذا السبب ستجد في معظم أفلامي كانغ شنغ وحيدًا سواء مع شخصيةٍ أخرى أو في مشهد منفرد. أستمتع بوضع الشخصيات في أجواء تبدوا فيها بلا أية علاقات مع الآخرين، لأنني أريد التأمل في أي نوع من المسافات نحتاج إلى إبقائه بين بعضنا البعض. أحبّ أيضًا أن أضع الأشخاص في حالاتٍ حيث لا يجدون الحب، لأنني أريد أن أعرف مقدار الحب الذي نحتاجه، وما نوع العلاقات التي نريدها.
يجمع العديد من النقاد صناعة الأفلام المعاصرة في تايبيه تحت تصنيف الاغتراب المدني، ولكنك تتحدث أكثر عن العزلة كجزء من الطبيعة الإنسانية. هل هذه نقلة بفيلم “ما الوقت هناك؟”
نعم، أنت محق. في فيلمي الأوّل “Rebels of the Neon God” ركّزتُ أكثر على العلاقة بين البشر والبيئة. لكن منذُ ذلك الحين، خصوصًا بعد “The River”، حاولت تشويش الخلفية. لم يعد لديّ أي اهتمام بالمدن أو الأماكن المختلفة بعد الآن. في “The River” على الرغم من قدرتك على رؤية مدينة تايبيه، إلا أنها لا تزال مجرّد مكان. في “ما الوقت هناك؟” تقع أحداث القصة في باريس، ولكننا لا نستطيع التأكد إن كانت حقًا في باريس.
فقط للإيضاح، هل يُظهر “ما الوقت هناك؟” كيف تشعر، أنت ذاتك، تجاه باريس وتايبيه؟
الأمر متعلق أكثر بالطريقة التي أشعر بها تجاه المدن… إنها ليست مُجرّد ستار خلفي، رغم أن تلك العناصر موجودة. الأمر نفسه مع فانكوفر. لقد كنت هنا عدة مرات من قبل، لكنني لا أستطيع تذكر أي شيء، لا معالم ولا عناصر جمال محددة. انطباعي عن المدينة هو فقط الفندق الذي أقمت فيه.
هل تشعر بالمثل تجاه نيويورك؟
كانت زيارتي الأولى لنيويورك في تمّوز الماضي، وشعرت أنها أكثر مدينة مثيرة رأيتها على الإطلاق، بوجود ناطحات السحاب العالية ونظام مترو الأنفاق غير المريح. لقد كنت منجذبًا بشكلٍ ما إلى عدم الارتياح ذاك. وأيضًا الأناس الفظين، الأشخاص العدائيين، إنه نوع من الإثارة. لكن بعد مرور شهرين لم أذكر أي شيء عن نيويورك، وبعد أن ذهبت هناك مرة أخرى لأجل مهرجان نيويورك السينمائي، لا أزال أشعر أنني لا أعرف شيئًا عن المدينة. لست متأكدًا لمَ أشعر بتلك الطريقة الآن، أو إن كان هناك تغيير بعد 11 سبتمبر.
لقد ذكرت أن تجربة السفر إلى المهرجانات السينمائية أثرت على هذا الفيلم. لقد كنت أيضًا سلبيًا إلى حدٍ ما تجاه المهرجانات.
نعم، أجد أنّه من السخيف أن تعرض المهرجانات المئات من الأفلام ليهرع الناس من فيلم إلى آخر حتى يتمكنوا من رؤية وجه جميل. الأمر يشبه بوفيه الطعام؛ هناك العديد من الخيارات، لذا لا تستمتع بكل طبق على حدة. إن صناعة الفيلم عملية ممتعة، لكن أن تقوم بالدعاية والإعلان لهو أمر مؤلم. أصبح بعض الجمهور بطيء الاستيعاب وبلا إحساس، وهو ما يجعلني مترددًا في الذهاب إلى المهرجانات المتعددة. أذكر أنه حين فاز وودي آلن بالأوسكار عن فيلم “Annie Hall” لم يذهب لاستلام الجائزة. كان يعزف الكلارينيت في ملهى ليلي، أعتقد أن هذا موقفًا جيدًا جدًا لانتهاجه.