عرضت مؤسسة “بدايات” للإنتاج السمعي البصري في “دار النمر للثقافة والفنون” ببيروت، ستة أفلام سينمائية، هي نتاج دورة تدريبية خضع لها المشاركون والمشاركات على مدار ستة أشهر حملت عنوان “مقدمة في إخراج الأفلام الوثائقية”، أشرف عليها عدد من المدربين هم رانية أصطفان (مخرجة سينمائية) وقتيبة برهمجي (تقنيات المونتاج)، ونوي مندل (مدير المعهد الإسكتلندي للأفلام، وباحثة سينمائية).
تكمن الأهمية التي تكتسبها مجموعة الأفلام في أنها تسمح لنا بالتعرف على الموضوعات التي اختارها مجموعة من السينمائيين الشباب لتحقيق أفلامهم الأولى. تعطي الأفلام صورة بانورامية عن اهتمامات صانعي وصانعات أفلام واعدين من لبنان وسورية وفلسطين. كما تنوعت التقنيات السردية والسينمائية، تنوعت موضوعات الأفلام فمنها ما يدمج الذاتي بالوضع الإجتماعي، واثنان اهتما بموضوعات تتعلق بالطفولة؛ التمييز في التربية السائدة بين الذكر والأنثى، التسرب من التعليم بين أطفال اللاجئين، وعمالة الأطفال.
الذات والمدينة في انتظار متبادل
يبدأ فيلم «مز القصب» للمخرج جلال الدين جبري بلقطة لشاب، يرجح أنه صانع الفيلم، يجلس في غرفة مغلقة، في إضاءة مظلمة. لن نشاهد أشخاصاً في الفيلم إلا في اللقطة الأولى والأخيرة. في اللقطة الأولى يسأل صانع الفيلم سؤاله الذاتي: “ماذا أنتظر أنا؟” من هذا المشهد الذاتي ننتقل إلى سلسلة الصور التي ستشكل الفيلم، إنها صور عن مدينة دمشق، في أماكن متعددة منها، تبدأ بلقطة طويلة لوصول القطار إلى المدينة، ثم سلسلة لقطات لأماكن اختارها المخرج؛ الشوارع خالية تحت المطر، مقابر، مصارف، ودوائر حكومية، كلها صور توحي بأن المدينة مهجورة أو في حالة الانتظار.
هكذا يدمج المخرج بين حاله الذاتي وبين حال المدينة التي يصورها، المدينة مثل جلال، هي بحالة من الإنتظار أيضاً. اللقطات بديعة تشكيلياً، كادر الكاميرا يركز على نقل المشاعر التي يرغب المصور أن ينقلها للمشاهد. يقدم المخرج أيضاً علاقة مجدولة بعناية بين الشريط الصوتي واللقطات الظاهرة على الشاشة، مع اختيار دقيق للموسيقى التصويرية لتتمكن من خلق العوالم الحسية للفيلم، وليقدم تجربة سمعية بصرية للمتلقي هي السمة المميزة للفيلم.
الفيلم ينطلق من الإنتظار الذاتي، إلى المدينة التي تنتظر. ويختم الفيلم بمشهد عن رحيل القطار عن المدينة ذلك الذي رأيناه يصلها في البداية. الفيلم قصيدة حسية عن الانتظار، محققاً بأدوات سمعية بصرية يعيشها المتلقي خلال زمن العرض.
وثيقة عن اضطهاد حتمي للأنوثة
في البداية لا ندرك ما الذي يميز الطفلة سيدرا التي يصورها فيلم بعنوان «لو أني صبي» للمخرجة نورا المير علي. أمام الكاميرا تظهر أقدام سيدرا، من ثم يبدأ حوار بينها وبين حاملة الكاميرا المصورة. مسار الفيلم يكشف عن موضوعة الذكورة والأنوثة في عالم الطفولة. فالشخصية الرئيسية، سيدرا، هي بنت في عائلة لديها خمسة ذكور.
ربما هذا السبب الذي أدى إلى أن تشكل طفلة بعمرها، درجة الوعي التي تفاجأ المشاهد، في تمييزها بين الذكور والإناث. تعي سيدرا الفروق في تعامل العائلة، وفي طريقة التربية المطبقة عليها بالمقارنة مع إخوانها الذكور. تقول: “الصبي له حرية التنقل، حرية الخروج من المنزل، التدخين. آه لو أني أخي محمد.” تشارك سيدرا إخوانها الذكور في التحلق حول التلفاز لمشاهدة أفلام العنف الأمريكية، وهي تحلم أن تركب الموتور الخاص بها يوماً ما.
سيدرا من عائلة سورية لاجئة في لبنان، لكنها تفصح لللكاميرا بأنها لا تتمنى العودة إلى مدينتها الأصلية حلب: “في حلب ممنوع تعمل الصبية أي شي. والعالم بيسألوا كثير وبيدخلوا كثير”، تعي سيدرا أن المجتمع التقليدي عائق أكبر على حرية خياراتها من مجتمع اللجوء. هذه الظاهرة مهمة. أكدت لي المخرجة لواء يازجي، وهي تصنع فيلماً عن موضوعة “العودة” أنها قابلت العديد من الحالات حيث الإناث يفضلن مجتمع اللجوء على مجتمع الأصل، لأنه يفسح لهم حرية أكبر في طريقة الحياة والتصرف. سيدرا الطفلة تعي ذلك أيضاً.
أغلب المشاهد تجري حيث سيدرا، عند سطح البناء، وتمتد المدينة بأبنيتها من خلفها. علاقة هذه الطفلة مع المدينة هي جزء من موضوعة الفيلم. تروي لنا سيدرا كيف تعرضت للعنف بينما كانت تتسوق، الحادثة التي أدت إلى كسر ساقها.
تتحاور صانعة الفيلم، وحاملة الكاميرا مع شخصيتها الرئيسية في الفيلم، توجه لها الأسئلة وتتطرق للموضوعات التي ترغب للمشاهد أن يطلع عليها في حياة هذه الطفلة. واحد من أهم الأسئلة وأكثرها إشكالية يتعلق بالحجاب، بجرأة تسأل نوار المير علي عائلة سيدرا إن كانت ستجبرها على الحجاب حين تكبر، تجيب الأم: “بالنسبة لي أفضل ألا تتحجب. لكن هذا حتمي، لأن المجتمع يفرضه علينا.” مع هذا الجواب تكتمل مقولة الفيلم قرب النهاية. موضوعته هي التمييز الثقافي في التعامل مع الأنوثة، مصير الطفلة الأنثى الحتمي الذي يرسم لها بالإجبار كامل حياتها. مع انتهاء الفيلم بهذه الطريقة، يتحول الفيلم إلى برهان عن الظلم المرتبط بالأنوثة. لا تجبرنا المخرجة على تبني رأيها، بل فقط تعرض علينا حكاية هذه الطلفة، كعينة نموذجية ترصد واقع الطفولة الأنثوية الإجتماعي.
يوميات زوجان على قارعة العمر
يدخلنا فيلم «بعيد عنك»، للمخرج حسن الساحلي، إلى تفاصيل الحياة اليومية لوالده ووالدته. تتلاحق لقطات من أنشطتهما اليومية، ومن ثم من لحظات صمتهما وتأملهما المستمر. مع «بعيد عنك» نكتشف صعوبة أن يقرر صانع الفيلم تصوير عائلته وحياتها الخاصة. فالأم لا تتفاعل نهائياً مع الكاميرا، بل تتعامل معها بلا اهتمام، بتهرب وجمود، أما الأب فهو ينتقد ويسخر: “هذا الإبن لا يفعل شيئاً ذو فائدة. بس بيصور أبو وأمو. هيك كل الوقت.” من شكوى الأب وتذمره، ندرك عدم تقديره لرغبة صناعة الأفلام التي تستملك ابنه. ربما كانت هذه واحدة من أهم النقاط في الفيلم، فكرة صعوبة تصوير عائلة لا تهتم للكاميرا أو للسينما.
في “بعيد عنك” تركز الكاميرا على تفاصيل الوجوه، على الإيقاع، على حيوية أو إحباط الشخصيتين الرئيسيتين، ورغم تمكن حسن الساحلي في البداية على إثارة فضول المشاهد حول حياة والديه إلا أنه لا ينجح في إيصال الرسالة التي يراد للفيلم أن يحملها للمشاهد. فسلسلة اللقطات التي اختارها المخرج مونتاجياً من يوميات والديه لا تتماسك لتقدم خلاصة نهائية لحكاية ما، أو موضوعة تراد معالجتها. لا يخدم تسلسل المشاهد في الفيلم إلا غاية رسم صورة حميمة عن حياة زوجين متقدمين في العمر، يوميات عجوزين يعيشان في منزل تغطيه عريشة، كأنهما قررا اعتزال الحياة بإرادتهما.
الطفل العامل يراقب الطفل اللاهي
في فيلمها بعنوان «بعد ما خلصنا» تدمج المخرجة مريم مصلح بين أرشيف فيديو صوّرته في الماضي، فأصبح وثيقة، وبين ما ترغب في تصويره في الفترة الراهنة. الطفل أحمد هو الشخصية الرئيسية في فيلمها أيضاً، أما الموضوعة فهي تسرب أطفال الأسر اللاجئة من التعليم، وعمالة الأطفال في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة. كانت مريم قد صورت الطفل أحمد منذ سنتين في صفه، وأثناء قيامه بأنشطته المدرسية، هو الطفل اللاجئ مع عائلته من ريف حلب إلى لبنان. لكن، ومنذ ذلك الوقت، ترك أحمد المدرسة، نراه في إحدى اللقطات وهو يعمل في العتالة. الآن، أتت مريم مع الفيديو الذي صورته في الماضي، تريد أن تطلع أحمد عليه بعد أن أجبر على ترك المدرسة.
نراقب على الشاشة تعابير أحمد وهو يشاهد فيديوهات الماضي عن المرح واللعب والتعلم في المدرسة، تلاحق عيون المشاهد كل تفصيل من تعابير وجه هذا الطفل الذي بدأ المقارنة بين حاضره وماضيه.
هذه المواجهة التي تحققها له السينما بين الماضي والحاضر، تذكّر أحمد بعلاقة صداقة مميزة مع زميل في الصف، وتذكره بأيام كان يتشابه فيها مع الأطفال من عمره، تذكره بالحيوية التي كانت تميزه، والتي تحولت الآن إلى سكون ويأس.
في فيلم «بعد ما خلصنا» مقاربة ذكية تختارها صانعة الفيلم لموضوعة عمالة الأطفال والتسرب من التعليم، هي تصور لنا كيف يشعر الضحية، أي الطفل المجبر على ترك المدرسة، وتترك للمتلقي الشعور بذلك الثقل الذي فرضته المخرجة بخيار السيناريو اللماح، فيلم يدين المأساة المستمرة لتسرب أطفال اللاجئين السوريين من التعليم، وحتمية مصيرهم كرجال بالغين في سوق العمل.
هواجس النفس من الطفولة حتى النضوج
في فيلمها بعنوان «واقع» تلجأ المخرجة أنجيلا دباك أيضاً إلى تقنية المزج بين فيديوها مصورة في الماضي، وبين ما يحوز على اهتمام كاميرتها الآن. هي تدمج بين فيديوهات من طفولتها، فيديوهات أعياد ميلادها، لقاءاتها مع الأهل، ذكريات عن العائلة، تختار من أرشيف طفولتها البصري ما يمكنها من التعبير عن عالمها النفسي والذهني الراهن.
مع اللقطات البصرية، تعلق صانعة الفيلم في مونولوجات عبر الشريط الصوتي، نسمع صوت الساردة تتحدث عن ذاتها، توصف عوالمها الداخلية، ولكن بشكل خاص عن حال من الضياع، العزلة، الإحساس بالوحدة. الفيلم بوح شخصي، وأكثر هو نقد شخصي، تقول: “أشعر بداخلي بقعة فارغة تتوسع.”
كأنه فيلم يعتمد التحليل النفسي للعثور على ماضي الفنانة التي تصنعه، وهي التي صارتها أنجيلا دباك اليوم. تتلاحق صور من الطفولة مع ما وصلت إليه الآن في نضوجها: “التواصل مستحيل، بقعة سوداء تتوسع. لم تعد حالتي مجرد تشخيص طبي، بل أصبحت الحالة التي أنا فيها وكأنها هويتي.”
يتميز فيلم «واقع» في جرأة العوالم الذاتية، الجوانية لصاحبة الفيلم، فهي تطرح ذاتها ونفسها كقضية للتساؤل والنقد. تحاول أنجيلا دباك من خلال هذه التجربة الفنية أن تجعل من الفيلم السينمائي أداة للبوح، للتفكير مع الآخرين، وتشحنه بشعرية صادقة.
صفحات متفرقة من مكتبة سينمائية
فيلم المخرج حمزة شمص يحمل عنوان «فيلم قيد التطوير»، وهو عن مشروع مكتبة وفضاء ثقافي يحاول حمزة شمص تحقيقه في ريف بعلبك – لبنان. تحضر الكتب بكثرة في الفيلم، تُحمل كراتين الكتب، تفرد، تقرأ الشخصيات التي تظهر في الفيلم عناوين بعض الكتب، ويوضح المصور بصوته أن الفيلم عن مشروع المكتبة.
لكن بعد اللقطات الافتتاحية، يأخذنا المخرج في سلسلة من المشاهد المتفرقة، والتي يصعب ترابطها في ذهن المتلقي، إنها تشبه قراءة صفحات متفرقة من كتب متعددة، ولكن هنا، باللغة السينمائية تتلاحق مشاهد ولقطات، كأن المشاهد يقلب مكتبة بصرية سمعية لتقع عينا وأذنا المشاهد على متفرقات من أرشيف عاشه المخرج وصوّره عبر مراحل متعددة من حياته، يجمعها هنا معاً في فيلم واحد.
يخلق «فيلم قيد التطوير» تلاحق مشاهد يصعب على المتابع ربطها في خيط سردي. هو يذكّر بمدرسة الموسيقى اللالحنية التي تحاول تكسير أي لحن موسيقي يمكن أن تلتقطه أذن المستمع من أجل خلق جماليات جديدة. في حديث خاص مع المخرج حمزة شمص بيّن لنا أنه حاول أن يجسد تلاطم وتكاثف الأفكار في ذهنه وطبيعة شخصيته. لكن تركيز صانع الفيلم على تحقيق فكرته عن تدفق المشاهد واللقطات على الشاشة كما هي تتدفق في ذهنه، أبعده التفكير بمتعة المتلقي، وضرورة إعطاءه المفاتيح اللازمة لتحليل وإدراك فكرة الفيلم، التي هي رسالة تواصلية في نهاية المطاف.