كتبها جيجيك ونُشرت في inthesetimes بتاريخ ٢ مارس/آذار ٢٠١٥.
في شهر تموز/يوليو 2008، نَشرَت الصحيفة اليومية Die Presse في فيينا رَسماً كاريكاتورياً لرجُلين نمساويين مُكتنِزين، وبملامح توحي بالنازيّة، يحملُ أحدهما في يديه صحيفة، ويقول لصديقه: “بإمكانك هنا أن ترى مجدداً كيف يُساء توظيف مُعاداة الساميّة، المُبرّرة تماماً، وذلك لغرض توجيه نقدٍ رديء لإسرائيل!”
تدورُ هذه النكتة حول الجدل الصهيوني المعياري ضدّ مُنتقدي سياسات دولة إسرائيل: على غرار أي دولةٍ أخرى، من الممكن، بل وينبغي، إصدار الأحكام بصدد إسرائيل، وانتقادُها في نهاية المطاف، بيد أن الانتقادات الموجّهة إلى الدولة تُسيء استخدام النقد المُبرّر للسياسة الإسرائيلية من أجل تحقيق أغراض مُعادية للسامية.
عندما يَرفُض الأصوليون المسيحيون، المُناصرين للسياسات الإسرائيلية اليوم، النقدَ اليساري لتلك السياسات، أفلا يكون محور جدالهم وثيق الصلة على نحوٍ غريب بالرسم الكاريكاتوري من صحيفة Die Presse ؟ لِنتذكّرْ أندِرس بريفيك؛ السفّاح النرويجي المُعادي للمهاجرين: لقد كان مُعادياً للسامية، لكن مناصراً لإسرائيل، إذ رأى في دولة إسرائيل خط الدفاع الأول في وجه التوسع الإسلامي، لدرجة أنه كان راغباً برؤية إعادة بناء معبد القُدس.
من وجهة نظره، ما من مُشكلة مع اليهود طالما أنه ليس هناك الكثير منهم، أو، مثلما كتبَ في بيانِه: “ما من مشكلة يهودية في أوروبا الغربيّة (باستثناء المملكة المتحدة وفرنسا)، إذ ليس هناك سوى مليون فقط في أوروبا الغربية، مع العلم أن ثمانمائة ألف من أصل هؤلاء المليون يعيشون ما بين فرنسا والمملكة المتحدة. أما في الولايات المتحدة الأميركية، والتي يقطُنها ما يزيد عن ستة ملايين يهودي (أي ستة أضعاف عددهم في أوروبا)، فثمة في الواقع مُشكلة يهودية خطيرة.”
وهكذا، تعكسُ شخصيتُه تلك المُفارقة في أقصى درجاتهِا لدى الصهيوني المعادي للساميّة، وبمقدورنا أن نجد من آثار هذا الموقف العجيب أكثر بكثير مما يمكن للمرء أن يتوقعه.
في زيارتِه إلى فرنسا للمشاركة في إحياء ذكرى ضحايا الهجمات التي طالَت باريس مؤخراً، أطلقَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دَعوةً إلى المُجتمع اليهودي في فرنسا (الأكبر في أوروبا) للانتقال إلى إسرائيل لأسباب تتعلّق بالأمان. وحتى قبلَ سفره إلى باريس، أعلنَ نتنياهو نيته بأن يُخبِر اليهود الفرنسيين بأن إسرائيل “سوف تستقبلهم بالأحضان”.
إن العنوان الذي كتبَتهُ صحيفة Gazeta wyborsza اليومية -وهي إحدى الصحف الكبرى في بولندا- يَتضمّن كلّ شيء: “إسرائيل تريدُ فرنسا بلا يهود”. وقد يُضيف أحدهم قائلاً بأن هذا ما يريده الفرنسيون المعادون للسامية أيضاً. لطالما كان الدستور الإسرائيلي، من وجهة نظر أوروبا، “الحّل النهائي” الفعلي للمشكلة اليهودية (التخلّص من اليهود)، والذي استقبلَه النازيون أنفسهم بحفاوة. ألم يكن خلق دولة إسرائيل استمراراً للحرب على اليهود باستخدام وسائل أخرى (سياسية)؟ أليسَت هذه “وصمة ظلم” تتعلق بدولة إسرائيل؟
اليوم السادس والعشرون من شهر أيلول لسنة 1937؛ إنّه لينبغي على كلّ مُهتم بتاريخ مُعاداة السامية أن يتذكّر هذا التاريخ. في ذلك اليوم، استقل أدولف أيخمان برفقة مُساعدِه قطاراً في برلين بقصد زيارة فلسطين. وكان هايدريش نفسه من أعطى الإذن لآيخمان من أجل قبول دعوة وجهها له فيفيل بولكس، وهو عضو بارز في الهاغانا (المنظمة الصهيونية السرية)، للحضور إلى تل أبيب، ومناقشة ما يتعلق بالتنسيق ما بين المنظمات اليهودية والألمانية من أجل تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين.
لقد أراد كل من النازيين والصهاينة أن ينتقل أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين: يُفضّلُ الألمان خروجَهم من أوروبا الغربيّة، في حين أراد الصهاينة أن تفوق أعداد اليهود في فلسطين أعداد العرب في أسرع وقت ممكن. (فشِلَت الزيارة لأنه، بسبب الاضطرابات العنيفة، حظرَت بريطانيا الدخول إلى فلسطين؛ بيد أن آيخمان وبولكس التقيا بُعيد أيام قليلة في القاهرة، وتباحثا بصدد التنسيق ما بين الأنشطة الألمانية والصهيونية).
أليسَ هذا الحدث المُستغرَب بمثابة دليل أوضح من الشمس على وجود مصلحة مشتركة ما بين النازيين والصهاينة المتطرفين؟ في كلتا الحالتين، كانت الغاية مظهراً من مظاهر “التطهير العرقي”؛ أي التغيير العنيف لنسب المجموعات العرقية في عدد السكان. (وبالمناسبة، ينبغي على المرء هُنا أن يشير بوضوح ودونما لَبس إلى أنه، بالنسبة إلى الطرف اليهودي، ليس هُناك أي مأخَذ بصدد عقد هذه الصفقة مع النازيين، وذلك بوصفها فِعلاً في إطار حالة ميؤوس منها).
ليسَ بمقدور أولئك الذين تَمتدّ ذكرياتُهم إلى عقدين من الزمن، على الأقل، ألا يُلاحظوا كيف أن ثمة تغيُّر في الإطار الكامل لمُناقشات أولئك الذين يُدافعون عن السياسات الإسرائيلية إزاء فلسطين. حتى أواخر خمسينيات القرن المُنصرم، كان زعماء اليهود والإسرائيليين في منتهى الصدق بصدد حقيقة أنهم لا يَتمتعون بالحق الكامل في فلسطين، بل حتى وصفوا أنفسهُم بكل فخر بأنهم “إرهابيون”. تخيّلوا أن نقرأ اليوم التصريح التالي في وسائل الإعلام:
“يَصفُنا أعداؤنا بالإرهابيين. أشخاصٌ لم يكونوا أعداء، ولا أصدقاء، لنا… ومع ذلك، نحنُ لم نكن إرهابيين… إن كلاً من الأصول التاريخية واللسانيّة للمصطلح السياسي «إرهاب» تُثبِتُ أنّه لا يمكن أن ينطبق على حرب ثوريّة غايتها التحرّر… يَجبُ على المناضلين من أجل الحريّة أن يحملوا السلاح؛ وإلا، فسيُسحَقون بين عشية وضحاها… فما علاقة الكفاح من أجل كرامة الإنسان، ضدّ القهر والاضطهاد، بـ «الإرهاب»؟”
في أيامنا هذه، يمكن للمرء أن يَنسبُ هذا التصريح إلى جماعة إسلامية إرهابيّة، ويدينَه. بيد أن صاحب هذه الكلمات لم يكن سوى مناحيم بيغن، وذلك خلال السنوات التي قاتلَت فيها الهاغانا القوات البريطانية في فلسطين.
على نحوٍ مُثير للاهتمام، خلال سنوات الكفاح اليهودي ضدّ الجيش البريطاني في فلسطين، حمل مصطلحُ “الإرهاب” نفسه دلالة إيجابية. وإنه يكادُ يكون جذاباً أن نَشهدَ الاعتراف الصريح للجيل الأول من القادة الإسرائيليين بحقيقة أنه لا يُمكن لمُطالباتهم بأرض فلسطين أن ترتكز على عدالة عالمية، وأننا نتعامل هنا مع حربٍ تقليدية من أجل الغزو ما بين مجموعتين لا مناص للوساطة بينهما.
وإليكُم ما كتبَه دافيد بن غوريون، أوّل رئيس وزراء لإسرائيل: “في وسع الجميع أن يدركوا حجم المشكلات في العلاقات ما بين العرب واليهود. لكن لا أحد يرى أنه ليست هناك حلول لهذه المشكلات. لا يوجد حل! إنها هاوية، ولا يستطيع أي شيء أن يصل ما بين جانبيها… نحنُ، كشعبٍ، نريد أن تكون هذه الأرض لنا؛ والعرب، كشعبٍ، يريدون أن تكون هذه الأرض لهم.”
ثمة مشكلة واضحة في هذه العبارة اليوم: ببساطة، لم يعد من المقبول أن تُستثنى مثلُ هذه النزاعات العرقية على الأرض خارج الاعتبارات الأخلاقية. وهذا هو السبب في أن أسلوب مقاربة صيّاد النازيين المعروف، سيمون فيزنتال، لهذه المشكلة -أثناء تطبيقه للعدالة من وجهة نظره، وليس الانتقام- ينطوي على إشكاليّة عميقة:
“سيتعيّنُ في يوم من الأيام إدراك أنّه من المستحيل تأسيس دولة دون أن يكون هناك بعض الأشخاص، من سكان المنطقة، الذين سيجدون أن حقوقهم باتت مُقيّدة. (لأنه سيكون من شبه المستحيل أن يسكن الناس في مكانٍ لم تطأهُ قدم إنسان من قبل). وإن على المرء أن يكون قانعاً إذا ما ظلّت هذه الانتهاكاتُ ضمن الحدود، ولم يتأثّر بها سوى عدد قليل نسبياً من الناس. كذلك كانت الحالُ عندما تأسّسَت إسرائيل… ففي نهاية المطاف، سكن اليهود في المنطقة منذ زمن طويل، وكان تعداد السكان الفلسطينيين قليلاً بالمقارنة، في حين لديهم العديد من الخيارات للتراجع وإفساح المجال لغيرهم”.
إن ما يُناصِرُه فيزنتال هُنا ليس سوى عُنفٍ تُؤسّسُ له الدولة بوجه إنساني؛ عنفٌ محدود الانتهاكات.
مع ذلك، ومن وجهة نظرٍ راهنة، وردَت العبارة الأكثر إثارة للانتباه في صفحة سابقة من مقالة فيزنتال، حيثُ كتب: “ليس بمقدور دولة إسرائيل المنتصرة دوماً الاعتماد على التعاطف إزاء «الضحايا» إلى الأبد”. ويبدو أن فيزنتال يقصدُ أنه بحُكم كون دولة إسرائيل “مُنتصرة دوماً”، فلم تعُد بحاجةٍ إلى التصّرف على أنها ضحيّة، وإنما بإمكانها أن تَفرِض قوتها إلى الحد الأقصى.
قد يكون هذا صحيحاً، طالما أنه بوسع المرء إضافة أن موضع القوّة هذا ينطوي أيضاً على مسؤوليات جديدة. وتكمن المشكلة اليوم في أن دولة إسرائيل، على الرغم من كونِها “منتصرة دائماً”، لاتزال تعتمدُ على صورة اليهود كضحايا في سبيل إضفاء الشرعية على سياسة القوّة الخاصة بها، فضلاً عن إدانة مُنتقديها باعتبارهم مُناصرين خفيين للهولوكوست. لقد كان آرثر كوستلر -الذي تحوّل عن الشيوعية وصار فيما بعد منُاهضاً معروفاً لها- نافذ البصيرة عندما قال: “إذا كانَت القوة مُفسِدة، فالعكس صحيح أيضاً؛ فالاضطهادُ يُفسدُ الضحايا، وإن كان ذلك على نحوٍ أقلّ وضوحاً وأشدّ مأساوية”.
وهذا هو العيب القاتل الذي تنطوي عليه الحجة القويّة بصدد إنشاء دولية قومية يهودية في أعقاب الهولوكوست: ففي إنشائهم لدولتهم، تغلّبَ اليهودُ على ظرفهم بصدد كونهم تحت رحمة دول الشتات، وما تُظهِرُه الأكثريات في تلك الدول، من تسامُحٍ أو عدمه.
وعلى الرغم من اختلاف النقاش ضمن الإطار السابق عن النقاش الديني، إلا أنه كان لا بُدّ من الاستناد إلى الموروث الديني لتبرير اختيار الموقع الجغرافي لهذه الدولة الجديدة. وإلا، فسيجدُ المرء نفسه في موضع ما حدث في طرفة قديمة تحكي قصة رجل مجنون يبحث عن محفظته المفقودة تحت ضوء الشارع، وليس في الركن المظلم حيثُ فقدها، وذلك لأنه باستطاعة المرء أن يرى بصورة أفضل تحت الضوء: لأن الأمر كان أسهل، أخذَ اليهود الأرض من الفلسطينيين، وليس من أولئك الذين كانوا السبب في معاناتهم؛ أولئك المدينون لهم بالتعويضات.
في وقتٍ ما من ستينيات القرن المنصرم، وبخاصة بُعيد حرب سنة 1967، وُلِدَت معادلة جديدة: “الأرض مقابل السلام” (العودة إلى حدود إسرائيل ما قبل سنة 1967، مقابل الاعتراف العربي الكامل بإسرائيل)، وحل الدولتين (دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربيّة وغزّة). ومع ذلك، فإن هذا الحل، وعلى الرغم من إقراره رسمياً من قِبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة وإسرائيل، قد جرى التخلي عنه في واقع الحال. وبسبب ازدياد أعداد المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، أضحَت فكرة وجود دولة فلسطينية ذات سيادة أقرب شيئاً فشيئاً إلى الوهم.
وثمة في وسائل الإعلام الكبر إشارات تزداد وضوحاً بصدد ما يحل محلّها. في مقال نَشرته مؤخراً صحيفة “نيويورك تايمز” بعنوان “يجبُ ألا تكون هناك دولة فلسطينية”، لكارولين بي. غليك، مؤلفة كتاب “الحل الإسرائيلي: خطة الدولة الواحدة لأجل السلام في الشرق الأوسط”، زعمت الكاتبة أن أولئك الذين يقترحون الاعتراف بفلسطين كدولة، “يُدركون أنهم لا يساعدون قضية السلام باقتراحهم الاعتراف بـ “فلسطين”. إنّهم يدفعون قُدماً نحو خراب إسرائيل. لو كانوا مُهمّتين قليلاً بالحرية والسلام، فعلى الأوروبيين أن يفعلوا العكس؛ أن يعملوا على تقوية إسرائيل وتوسيع رقعتها، فهي الحيّزُ الوحيد المُستقّر للحرية والسلام في المنطقة. وعليهم أن يتخلوا عن حل الدولتين الزائف، والذي… ليس سوى مجرد إيهام الغرض منه تدمير إسرائيل واستبدالُها بدولة إرهاب. وفي حضور الحمق الإستراتيجي والانحطاط الأخلاقي كشاخصتي توجهي توأمين للسياسات الأوروبية تجاه إسرائيل، فإنه يجب على الأخيرة وداعميها أن يقولوا الحقيقية بشأن الدفع نحو الاعتراف بـ “فلسطين”. ولا علاقة لهذا الأمر بالسلام أو العدالة، وإنما بالكراهية لإسرائيل ومساعدة أولئك الذين يسعون لمحوها بكل ما أوتوا من طاقة”.
باختصار، ثمة تنديد علني اليوم بما كان (ولايزال) يُعتبر السياسة الدولية الرسمية، وذلك باعتبارها وصفة لخراب إسرائيل. ومن الواضح أن هذا الموقف، وبعيداً عن دعم وجهة نظر أقلّوية مُتطرّفة، يُبيّنُ على نحوٍ جلي التوجّه الاستراتيجي لاستعمار الضفة الغربية تدريجياً خلال العقود الأخيرة؛ تُوضّحُ آلية تنظيم المستوطنات الجديدة (في إنشاء أكبر عدد منها من جهة الشرق، على مقربة من الحدود الأردنية) أن قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية أمر غير وارد.
علاوة على ذلك، لا يسع المرء إلا أن يُلاحظ المفارقة الساخرة بصدد أنه كلّما ازدادت إسرائيل قوّة، ازداد إصرارها على تصوير نفسها كدولة مُعرّضة للخطر. وأصبح من الممكن إدراك التحوّلُ نفسه -بصدد الاتّساع في مُحدّدات ما يمكن اعتبارُه مُعاداة للسامية- في مجالات أخرى أيضاً. عندما أعادَت دار أوبرا ميتروبوليتان عرضَ أوبرا “موت كلينغهوفر” للمؤلف جون آدامز للمرة الأولى، سارَ رجال ونساء بملابس فاخرة عبر متاهة من حواجز نصبَتها الشرطة، يرافقهم صياح المحتجين بعبارات على غرار “يا للعار!” و”الإرهاب ليس فناً!”. رفع أحد المتظاهرين منديلاً أبيض مُلطخاً باللون الأحمر، وتراصفَ آخرون، على كراسٍ مُتحرّكة أعدّت لهذا الحدث، في كولومبوس أفنيو…. لقد اعتبرَ بعض النقّادِ أن “كلينغهوفر” تحفة فنية، وأنها لطالما أثارَت مشاعر جيّاشة، وذلك، بكلّ بساطة، بسبب موضوعها: مَقتل ليون كلينغهوفر، المُسافِر الأميركي اليهودي المُقعَد، على أيدي أفراد من جبهة التحرير الفلسطينية أثناء اختطاف السفينة السياحية الإيطالية أكيلي لاورو في سنة 1985.
لقد عبّرَت إحدى المُتظاهرات من ذلك اليوم -هيلاري بار، ذات السنوات الخمس والخمسين، والقادمة من مقاطعة ويستتشتر وتعمل كممرضة للأطفال- عن اعتقادها بأن هذا العرض قد قدّم الذرائع للإرهاب، وقالت: “عندما يُعرَضُ هذا على خشبة مسرح في وسط مانهاتن، فإن الرسالة منه هي: “انطلق، اقتلْ أحداً ما، كُن إرهابياً، وسنكتبُ عن حكايتك مسرحية.”
كيفَ يحدث أن تلك الأوبرا، التي نالت قبولاً دون أيّ مشاكل في عرضها الافتتاحي سنة 1991، قد صارَت الآن مُستنكرة بوصفها مُعادية للساميّة ومُناصِرة للإرهاب؟
ثمة دلالة أخرى على التحوّل السابق نفسه: في مُقابلة أجريَت مؤخراً، طالبَت آيان حرسي علي بمنح جائزة نوبل للسلام لرئيس الوزراء الإسرائيلي بيبي نتنياهو، وذلك لأنه شنّ الحملة العسكرية لجيش الدفاع الإسرائيلي، والتي لاتزال مُستمرّة، ضدّ مُقاتلي حماس في غزّة. وحينما سُئلَت عن الأشخاص الذين تُكنّ لهم الإعجاب، أدرجَت علي (التي تَنبذُ الإسلام على اعتبار أنه “طائفة عَدميّة للموت”) اسمَ نتنياهو في قائمتها، قائلة بأنها مُعجبة به “لأنه يتعرّض لضغوط شديدة، من العديد من المصادر، بيد أنه لايزال يفعل أفضل ما يصبّ في مصلحة شعب إسرائيل، إنّه يقوم بواجبه. وأعتقدُ بحق أنه يجب أن ينال جائزة نوبل للسلام. لو كنّا في عالَمٍ مُنصِف، لنالها.”
وبدلاً من رفض المزاعم السابقة باعتبارها مثيرة للسخرية، ينبغي علينا أن نتحرّى المفارقة الوحشية في الحقيقة الجزئية منها. لاشكّ أن إسرائيل صادقة في سعيها لتحقيق السلام، فبحُكم التعريف، يريد من يحتلّ بلداً أن يحلّ السلام في المنطقة التي احتلّها. والسؤال الحقيقي هو: هل الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية “احتلال”؟ وهل من القانوني أن يُقاومَه السكّان، بالسلاح أيضاً؟
على المنوال ذاته، ودفاعاً من حق إسرائيل في السيطرة على الضفة الغربية، شنّ جون فويت مؤخراً هجوماً على كلٍ من خافيير باردم وبينلوبي كروز بسبب انتقادهما قصفَ جيش الدفاع الإسرائيلي لغزة، قائلاً “إنه من الواضح أنهما جاهلان بكلّ القصة التي رافقَت مَولِد إسرائيل، وذلك عندما أعطَت الأممُ المتحدة في سنة 1948 الشعبَ اليهودي حصّة من الأرض التي خُصّصَت له في الأصل منذ سنة 1921، وأعطت العرب الفلسطينيين النصف الآخر”.
لكن، من الجاهل حقاً هُنا؟ إن استخدام صيغة المجهول في مُفردة “خُصّصَت” إنما يحجبُ السؤال الحقيقي: مِن قِبل مَن؟
بطبيعة الحال، يشيرُ فويت على نحوٍ غير مباشر إلى إعلان بلفور، وهو زعيم استعماري (وزير خارجية بريطاني) أطلقَ وعداً لآخرين بمنحهم أرضاً ليست جزءاً من بلده. (ناهيك عن حقيقة أن فويت قد جعل الأمر يبدو وكأن الأرض كُلّها “خُصّصت” للشعب اليهودي الذي تكرّم على الفلسطينيين لاحقاً بأن قبِل نصفها فقط). وعلاوة على ذلك، يُقدّمُ فويت صورة لإسرائيل بوصفها دولة محبّة للسلام، ولم تفعل شيئاً سوى أنها دافعت عن نفسها فقط عندما تعرضت لهجوم.
ولكن، ماذا عن الاحتلال الإسرائيلي في سنة 1956 لشبه جزيرة سيناء كاملة (تزامناً مع الاحتلال البريطاني- الفرنسي لمنطقة القناة بعد أن أممها الرئيس المصري جمال عبد الناصر)؟ حتى أن الولايات المتحدة أدانَت هذا الفعل باعتباره عدواناً، وضغطت على إسرائيل من أجل الانسحاب.
وأما فيما يخصّ الادعاء بأن لليهود حقهم التاريخي بأرض إسرائيل لأنها، من وجهة نظرهم، قد أعطيت لهم من قبل الرب، فكيف ذلك؟ إن العهد القديم يصف هذا العطاء بلغة تطهير عرقي. بعد أن تحرروا من العبودية في مصر، وصل الإسرائيليون إلى أطراف أرض الميعاد، حيثُ أمرهم الرب بعد ذلك بإبادة الناس الذين يسكنون في تلك المناطق (الكنعانيون) عن بكرة أبيهم: ” فلا تَستَبقِ منها نَسمة ما”.
يَرِد في سفر يشوع تنفيذ هذا الأمر: “وحرّموا كلّ ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحدّ السيف”. وبعد عدّة فصول، نقرأ أن يشوع “لم يُبقِ شَارِدًا، بل حَرّم كلّ نسمةٍ كما أمرَ الربّ إله إسرائيل”.
يَرد في النص ذكر المدينة تلو الأخرى، حيثُ يذبح يشوع، بأمر من الرب، كل السكّان بالسيف، يُبيدهم عن بكرة أبيهم، دون أن يذر منهم أحداً. وتبلغُ المفارقة الساخرة ذروتها عندما نأخذ بعين الاعتبار أن إسرائيل، بحسب بعض الإحصائيات، تُعدّ الدولة الأعلى نسبة للإلحاد في العالم (ما يفوق الخمسين في المئة من اليهود في إسرائيل لا يؤمنون بالرب). ويبدو منطقهم وكأنهم يقولون: “نحنُ نَعلمُ جيداً أنّه ليس ثمة إله، بيد أننا، برغم ذلك، نؤمن بأنه وهبَنا الأرض المقدّسة”.
هل معنى هذا أن اليهود مذنبون، بطريقة أو بأخرى، لارتكابهم فعلاً أصيلاً من التطهير العرقي؟ بالطبع لا. في العصور الغابرة، (وحتى القديمة منها)، سارَت كل المجموعات العرقيّة على النهج ذاته تقريباً. والدرس هُنا، ببساطة، أنه يَجب رفض كلّ شكلٍ من أشكال إضفاء الشرعية بشأن المطالبة بالأرض إذا ما استند إلى ماضٍ أسطوري. ولكي نحلّ الصراع الإسرائيلي/الفلسطيني، (أو نحتويه، على أقل تقدير)، يجب ألا نُسهب التفكير في الماضي السحيق، بل على العكس من ذلك، يجب أن ننساه (ذاك الماضي الذي يُعاد اختراعه دائماً وأبداً من أجل إضفاء الشرعية على المطالبات الراهنة).
ثمّة درس آخر أشدّ أهمية؛ أن الشعب اليهودي نفسه من سيدفع، في نهاية المطاف، ثمن سياسة الأصولية العرقيّة التي تجعلهم على نحوٍ عجيب أقرب إلى المُحافَظة المعادية للساميّة، والتي سوف تدفع اليهود -الذين أزعمُ بأنهم أكثر المجموعات إبداعاً وإنتاجاً فكري في العالم- نحو التحوّل إلى مجرد مجموعة عرقية أخرى لا تتوقُ سوى لأيديولوجيا “الدم والأرض”* الخاصة بها.