نشرت في LRB في ٩٢٢٠٢٤.
أثناء زيارةٍ لي إلى غزَّة في عام 2012 برفقة احتفاليَّة فلسطين للأدب، لفتَ انتباهي نمطان من أنماط رسومات الغرافيتي. كان حصار غزَّة قد دخل عامه السادس حينذاك، وكنَّا جميعاً نشعُر أنَّه جاثمٌ إلى الأبد. لم يتوفَّر سوى القليل من الوقود، وكانت محطَّة الطاقة قد تعرَّضت للقصف، ممَّا جعل إمدادات الكهرباء غير منتظمةٍ في أفضل الأحوال. كان أحد هذين النمطين، كما هو متوقَّع، عبارةً عن شعاراتٍ سياسيَّة؛ بيد أنَّ الآخر- والمفعم بالحيويَّة والألوان مثل الأوَّل، إن لم يكن أكثر- فقد كان عن الحبّ. خالد ومنى سيتزوَّجان! قلوب، وقلوب، وقلوب. تذكَّرتُ هذا المشهد بينما كنتُ أنظر إلى صور زفاف الغزيِّين القتلى التي نشرَتْها عائلاتهم عبر الإنترنت، وأثناء مشاهدتي لمقاطع مصوَّرةٍ عبر وسائط التواصل الاجتماعيّ تُظهِر جنوداً إسرائيليِّين يعبثون بملابس داخليَّةٍ ملوَّنةٍ في منازل غزيِّين قتلى أو مهجَّرين قسراً.
أُجبِر أكثر من مليون فلسطينيِّ على النزوح إلى رفح، بالقرب من الحدود المصريَّة، في ظلِّ حرص الجيش الإسرائيليِّ على ملاحقتهم حتَّى أبعد نقطة مُمكنة. بحرٌ من الخيام يمتدُّ في كلِّ اتِّجاه، يستحضرُ في الذاكرة صورَ ما بعد نكبة عام 1948، لكن على هيئةٍ أشدّ فوضويَّةً ورثاثة. وأمَّا أولئك الذين نجوا من القصف الإسرائيليّ- المُقدَّر بما يزيد عن 28 كيلوغراماً من المتفجِّرات لكلِّ فرد (ونتحدَّث هُنا عن فئةٍ عمريَّةٍ شابَّة، باعتبار أنَّ 40% من تعداد السكَّان تحت سنِّ الرابعة عشرة)- فلم يتبقَّ لهم أيُّ شيءٍ سوى أنفسهم وبطَّانيَّاتهم.
ما يجري حملةٌ مُستمرَّة، وبأدلَّةٍ تشيرُ إلى نوايا إباديَّةٍ لا يمكن أن تكون أكثر وضوحاً، ومع ذلك تتلاشى عن الأنظار. لماذا لا نرى المزيد منها؟ ثمَّة إجابةٌ على هذا السؤال في شكاوى العاملين في شبكة “سي إن إن” بصدد أنَّ التغطية التي تمارسها الشبكة “قد انحرفَت نتيجةً لتحيُّزٍ مُمنهجٍ ومؤسَّسيٍّ داخل الشبكة لصالح إسرائيل”. مع ذلك، وعلى الرغم من هذه المزاعم، إلَّا أنَّ الشبكة تمكَّنت من نشر تقارير مفادها أنَّه ليس أمام بعض الغزيِّين سوى تناول العشب وشرب المياه الملوَّثة من أجل البقاء على قيد الحياة.
في عام 2012، تجوَّلتُ في حرم الجامعة الإسلاميَّة في غزَّة برفقة رجلٍ عرفتُ حينها أنَّه كان رفعت العرعير؛ الشاعر وأستاذ اللغة الإنكليزيَّة الذي أودَت بحياته غارةٌ جوِّيَّةٌ إسرائيليَّةٌ، برفقة أفرادٍ من عائلته، قبل بضعة أشهر. شاهدتُه يتحدَّث في مقاطع مصوَّرةٍ قُبيل مقتله بساعات، كان وجهه يعتصر خوفاً. تذكَّرتُ أنَّني استمعتُ إلى قصيدةٍ له، يقول فيها: “إن كُتِب عليَّ الموت/ فليجلب موتيَ الأمل/ وليكن موتي حكاية”، كان قد قرأها الممثِّل براين كوكس عقب مقتلِ مُؤلِّفها. شاركتُ أيضاً في فعاليَّاتٍ مسرحيَّةٍ لقراءة أعمال العرعير. وفي كلِّ ليلة، أظلُّ مستيقظةً ومتمنيِّةً أن يعود بي الزمن لكي أعتذر عن عدم معرفتي المزيد عنه، وعمَّا سيكون عليه قَدَره وقدر أحبَّائه الذي لم يكن في وسعنا تفاديه.
فرانشيسكا ألبانيز، المقرِّرة الخاصَّة في الأمم المتَّحدة، وصفَت العدوان على غزَّة بـ “وحشيَّة قرننا”. ما من مكانٍ آمنٍ في غزَّة. لقد زوَّد الجيش البريطانيُّ القوَّات الإسرائيليَّة بإحداثيَّات منشأةٍ في بلدة المواسي الغزِّيَّة، حيثُ مقرُّ طاقمي كلٍّ من جمعيَّة العون الطبِّيّ للفلسطينيِّين (وهي منظَّمة خيريَّة بريطانيَّة) ولجنة الإنقاذ الدوليَّة، والذي كان بحسب ما قالته النائبة المحافظة في مجلس العموم البريطانيّ أليسيا كيرنز: “موقعاً إغاثيَّاً حسَّاساً وتحت الحماية”. في الثامن عشر من كانون الثاني، قصفَت طائرات إف-16 المنشأة، وأسفرَ الهجوم عن إصابة أربعة أطبَّاء بريطانيِّين.
في الخامس من شباط، تعرَّضت شاحنة نقل طعامٍ تنتظرُ الدخول إلى شمال غزَّة إلى نيران سلاح البحريَّة الإسرائيليَّة. وأمَّا تمويل الأونروا، والذي كانت الحاجة إليه في أشدّها، فقد قطعَتهُ حكومتا الولايات المتَّحدة والمملكة المتَّحدة فور صُدورِ حكمِ محكمة العدل الدوليَّة بشأن خطر حدوث أعمال إبادةٍ جماعيَّة في غزَّة. لم يُسمَح بدخول سوى القليل من الشاحنات الإغاثيَّة إلى القطاع، في حين أنَّ هناك حاجة إلى الآلاف منها يوميَّاً. مُنِع دخول العديد منها بينما تصطفُّ المئات بانتظار الإذن بالدخول. عندما يُجوَّع البشر، يطالُ الموت الأطفال قبل البالغين. وتعاني الأمَّهاتُ أيضاً من سوء تغذيةٍ حادٍّ إلى درجة أنهَّن يفقدن القدرة على تغذية أطفالهنّ. أعداد القتلى، بحسب تعبير ألبانير، “غير مسبوقةٍ ولا مثيلٍ لها في أيِّ مرحلةٍ سابقةٍ من مراحل الصراع الحاليّ”.
هناك سببٌ آخر وراء عدم توفُّر المزيد من التقارير في الإعلام الغربيِّ عن الفظائع المرتكبة في غزَّة؛ والحديث هُنا عن المخاطر الشديدة الذي ترافق عَمل الصحافيِّين هناك، وكذلك صعوبة وصول المراسلين الدوليِّين إلى عين الحدث ما لم يكونوا برفقة الجيش الإسرائيليّ. إذا لم يكن مُمكناً دخول غزَّة، فكيف سنتحقَّق من روايةٍ على غرار: عُثِر في الأسبوع الأخير من كانون الثاني على ثلاثين جثَّةٍ مقيَّدةً ومعصوبة الأعين وعليها آثار تعذيب داخل مدرسةٍ في بيت لاهيا؟ إنَّ الأدلَّةٌ على جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل متوفِّرةٌ في حسابات الجنود الإسرائيليِّين أنفسهم عبر وسائط التواصل الاجتماعيّ؛ مثل المقطع المصوَّر الذي يُظهِر رجلاً فلسطينيَّاً مُقيَّداً ومجرَّداً حتَّى ملابسه الداخليَّة، والدماء تتدَّفق ممَّا يبدو أنَّه ثقبٌ أحدثته رصاصةٌ في فخذه.
إنَّ واقعَ غزَّة اليوم أفظعُ من خيالٍ ديستوبيّ. تجري أحداث رواية بول لِنتش “أغنية النبيّ”، الحائزة على جائرة بوكر، في المستقبل القريب، حيثُ “تُحكِم السيطرة على أيرلندا حكومةٌ تتَّجه نحو الاستبداد”، على حدٍّ تعبير ناشرها. “إنَّهم يختطفون أيَّ شخصٍ من أيِّ مكان الآن”، تقول إحدى شخصيَّات الرواية عند مرحلةٍ ما، قبل أن تضيف: “هل عرفتَ أنَّهم اعتقلوا الصحافيِّ فيليب بروفي؟ صحفيّ، اللعنة! يا لوقاحتهم في حزب الائتلاف الوطنيّ!”.
منذ عام 2021، تكشف تقارير “فورنسِك أركيتكتشر” وغيرها من المجموعات عن استخدام تقنيَّة بيغاسوس- التي طوَّرتها شركةٌ إسرائيليَّةٌ تُدعى “إن إس أو”- في تتبُّع هواتف الصحافيِّين حول العالم، ممَّا أفضى في حالاتٍ معيَّنةٍ إلى اغتيال عددٍ منهم. كما بذلَت وكالات الاستخبارات الإسرائيليَّة جهوداً ضخمةً من أجل توسعة نطاق صلاحيَّاتها القانونيَّة بغية اختراق حياة الصحافيِّين بواسطة برامج التجسُّس. في شهر أيَّار من عام 2022، أنهَت رصاصةُ قنَّاصٍ حياة الصحافيَّة المخضرمة شيرين أبو عاقلة. ومنذ شهر تشرين الأوَّل الفائت، استهدفَ الجيش الإسرائيليّ، بصواريخ سبايك المضادَّة للدبَّابات، أراضٍ تخضع لسيادة دولةٍ مجاورة، وأمطرَ بالفوسفور الأبيض منطقةً مدنيَّةً، وقتلَ صحافيَّةً شابَّةً بعد أن رفعَت عبر الإنترنت، بفترةٍ وجيزو، آخرَ فيديو من تصويرها.
قصفَ الجيش الإسرائيليُّ أيضاً منزل مراسل الجزيرة وائل الدحدوح، ممَّا أودى بحياة معظم أفراد عائلته بينما كانوا نياماً. وعقب عودة الدحدوح إلى مزاولة عمله، أصابوا رفيق دربه المهنيِّ، الصحافيّ والمصوِّر البلجيكيّ-الفلسطينيّ سامر أبو دقَّة، في غارة طائرةٍ بدون طيَّار. ثمَّ، وعلى مدى خمس ساعات، مَنعوا فرق الإنقاذ من الوصول إليه إلى أن فارق الحياة بعد أن تركوه ينزف حتَّى الموت. أصيبَ الدحدوح في ذراعِه، بيد أنَّه تمكَّن من الوصول إلى المستشفى. لكن، وفي غضون أقلّ من شهر عقب تلك الحادثة، قتلوا ابنه حمزة أيضاً. وفقاً للجنة حماية الصحافيِّين، فإنَّ أكثر من 85 صحافيَّاً قد لقوا مصرعهم منذ السابع من تشرين الأوَّل، “ممَّا يجعل هذه الحقبة الأكثر دمويَّةً بالنسبة إلى الصحافيِّين منذ باشرَت اللجنة عملها في جمع البيانات في عام 1992”.
في أواخر كانون الثاني، إبَّان وقفةٍ احتجاجيَّةٍ في لندن، ندَّدت رئيسة تحرير العربيّ الجديد، لميس أندوني، باختفاء- وليس احتجاز، مؤكِّدةً أنَّهم يختفون وحسب- العديد من زملائها على أيدي الجيش الإسرائيليّ. تقول أندوني إنَّ العديد من أولئك الصحافيِّين الفلسطينيِّين قد سَاهموا كمُرافقين في دعم أقرانهم الغربيِّين وتيسير عملهم حينما كانوا في غزَّة. ومع ذلك، لم يتطرَّق أحدٌ في افتتاحيَّةٍ واحدةٍ في وسائل الإعلام الرئيسيَّة البريطانيَّة أو الأمريكيَّة إلى ما يجري. احتجاز؟ إنَّ ما يحدث على أرض الواقع يجعل حزبَ الائتلاف الوطنيِّ في رواية لِنتش الخياليَّة أقرب إلى ظاهرةٍ مُعتادةٍ وتقليديَّة.
في نهاية الشهر المنصرم، حضرتُ فعاليَّةً في مُلتقى “معرض المصوِّرين”، حيثُ اصطحبنا حفيدُ المصوِّر الغزِّي-الأرمنيّ كيغام جغليان (1915-1981) وسَميُّه في جولةٍ عبر ما تبقَّى من أرشيف “أستوديو كيغام”. طوال أعوامٍ عديدة، احتفظَ الأستوديو بصورٍ لحياة الغزّيِّين والغزِّيَّات: فتياتٌ يضحكن عند الشاطئ بفساتين تعود إلى خمسينيَّات القرن الفائت؛ أنور السادات في زيارةٍ رسميَّة؛ أطفالٌ يمسكون بأيدي بعضهم البعض بجوار البحر؛ صورٌ جماعيَّةٌ لبنَّائين وممرِّضين ومُتظاهرين وطلَّاب عند شاطئ البحر المتوسِّط على مرِّ السنين. كذلك ضمَّت أعمال جغليان أيضاً صوراً أيقونيَّةً للخيام في أعقاب نكبة عام 1948. وأمَّا حصَّة الأسد من تركة هذا الأرشيف، فكانت من نصيب مروان ترزي، أحدُ زملاء جغليان. ظلَّت السجلَّات الرقميَّة في غزَّة، في منازل يُعتقَد أنَّها أضَحت اليوم مُدمَّرة. ترزي نفسُه قُتِل برفقة زوجته في القصف الذي طال كنيسة القدِّيس برفيريوس في اليوم العشرين من شهر تشرين الثاني، وأغلب الظنِّ أنَّ معظم أرشيف أستوديو كيغام وذاكرته قد فُقِدَت مع رحيله.