يقرأ الروائي السوري ممدوح عزام (١٩٥٠) الحياة السورية في الستينات ويرصد تغيرات طبائع البشر في روايتهِ «نساء الخيال» (دار أطلس، ٢٠١١). في رصدٍ اجتماعي لطالما ميّز أدبه، إذ إنّ نص ممدوح يأخذ جانب الحب المبتور أو المُهان أو المُحاكم، ثمّ لتأخذ سردياته شكل الدفاع العميق عن الإنسان في وجه المجتمع والسلطة.
يمثل أبطال عزام جانب الهشاشة والضعف، إذ ينمو البطل لديه كما تنمو عشبة تحت ركام من الصخر، يدعم بطلهُ بمفاهيم نبيلة، عن الحب أو الصداقة غالبًا، عن التضحية والبطولة، حتى يجعل من انكسارهِ تهمةً للجموع من غير أن يقسم عالمه الروائي إلى قسمين، واحد ينادي للخير وواحد ينادي للشر. وإنّما تنمو الأعشاب التي يغذيها بالجمال والوحشة، لتغطي الصخر الذي يبددهُ الكاتب في همسات وجدانية تفكك خطاب الاستبداد أو التسلّط والعنف المجتمعي.
لا تخرج رواية عزام «نساء الخيال» عن هذا الجو العام الذي وسم أعمال الكاتب. يبني حكايتهُ، مثل من يشيد أحجية، يجد القارئ نفسه أمام نصٍ طويل من غير انقطاعات، يحاول الدخول إلى الأحجية ثمّ فهمها، وإيجاد مخرج منها، هكذا يورط الكاتب قارئهُ في طور الكتابة. يرهن عزام نصه لحيوات منسابة وحقيقية، يأخذ الراوي لديه صورة واحدة، إنّه واحدٌ من أولئك الذين يسيرون خلف الشخوص أو معهم حتى نهاياتهم. يمنح الراوي صوته للآخرين، ليتوارى خلفهم، ناضجًا ومكتفيًا في آن واحدٍ.
يشرع الراوي زيدون، بدءًا من المهمة التي أوكلت لهُ، بالتخلص من أرشيف مديرية التربية، في كتابة قصتهِ، وكان قد نُقل من عملهِ كمدرس عقوبةً لعدم انتمائه لحزب البعث، تحت شعار العمل الجبهوي. وتجدر لفهم الشخصية الإشارة إلى أنّ عدم انتمائه للبعث لم يكن بدافع سياسي، وإنّما كان هربًا من “الانتماء” فهو مثل ملايين السوريين “لا غاية لهم سوى العيش”. وبهذا يستسلم زيدون للمهمة الموكلة إليهِ، ويجعل منها، ما أن يرى في الأرشيف ملف عصابة الكف الأسود مهمةً كتابية خصوصًا بعد معرفتهِ مسار حيوات الآخرين، يشرع زيدون في ترميم رواية كان قد بدأها عن هذه العصابة، ويعود الكاتب إلى سورية في فترة الستينات، إذ يجعل من تاريخ التربية عينة من تاريخ البلد كلهِ. ويعكس عبر مصائر أبطال العصابة، قيس ووضاح وجميل وزيدون وتغير انتماءاتهم، دخولهم في معترك الحياة والسلطة، ملامح لتغير عام أصاب أترابه، من ذلك الشيوعي الذي انتهى بعثيًا، إلى ذلك المتمرد على الجماعة والذي انتهى راهنًا حياته لقيم الجماعة وأنظمة المجتمع، وقد كان تبديل الهويات الحزبية آنذاك واحدة من الخصال السورية. إلى جانب استخدام الكاتب شخصية الوراق، ومآل هذه المهنة، إذ يمثل طعمة الله مثالًا لتغير بنيوي، ولربما كان انتقال المكتبة إلى محل يبيع الإكسسوار، إشارة إلى تغير الأولويات في المجتمع. عدا عن أنّ الكاتب يلمّح من خلال التفاوت ما بين سنوات السبعينات -مجيء البعث إلى السلطة- وبين الستينات وما قبلها، إلى تغيرات جذرية، رهنت المجتمع بأهواء السلطة.
يذكر زيدون لقاءه الأول بليلى في واحد من أركان مديرية التربية، وهي الفتاة التي أحبها الجميع ولم يسعدها أحد، وإنّما أساؤوا لمشاعرها. إذ كتب أعضاء العصابة رسائل غرامية، تحتوي شعرًا غزليًا من التراث العربي لأكثر من مئة وعشرين فتاة، أطلق عليهم الراوي اسم “نساء الخيال” باستثناء ليلى، التي لم تتوقف عن التساؤل لمَ لم يرسلوا لها رسالة حبّ. جعلها غياب الرسائل محط اتهام وعرضة للتحقيق والاعتقال. على الرغم من أن الحدث الذي يطرحه عزام هو فكرة مفتعلة، إلا أنّ أبطاله تلقائيون، ليبرز عزام ذلك المعماري الذي يتخذ الرواية جسرًا ما بين الواقع والخيال، يدّعم جسره السردي، بردّات فعل واقعية إزاء امتلاء المدينة بمنشورات الحبّ. فالسلطة تراها تشويشًا على توجهات البلد، وتصف العصابة بالخفة والابتذال مقابل الثقل والعمق اللتين تمثلان السلطة. يتساءل زيدون المنقول نقلًا تأديبيًا، وقد اكتشف أنّه قد أمضى عمره بلا حب، أيهما نقل جرثومة التحري وراء القصص العاطفية للآخر، السلطة أم المجتمع؟ يتساءل عن امتناعه وأصدقائه عن إرسال رسائل الحب إلى ليلى، فيما يلمحُ الحرمان والكبت وغواية الأسرار، أسبابهم في إنشاء تلك العصابة التي تفرق أركانها عبر الأزمنة. يرصد عزام سلوك الأفراد العاطفي في حقبات مختلفة، ويخلصه من حال الجماعة. إنّه ينتزع الحب ويحييه في لحظات هادئة، ما يعبّر عنه بحث الراوي “إنني أبحث عن الحب في الحكايات”. وفي غمرة هذا البحث الإنساني يكشف الكاتب شيئًا من الوضع السياسي عبر إشارات لماحة، مثل حديثه عن هزيمة حزيران “لقد ابتلعنا نبأ الهزيمة كما يبتلع المرء قطعة تنك”.
تظهر طريقة عزام في كتابة الرواية في نظريات واضحة عن الحكاية مفهومًا وشكلًا، فالحكاية لديهِ تصنع المصير وتحدد الرؤى، والرواية حتى تعيش ينبغي أن تعيد خلق الحقائق. فيما كاتب، مثل عزام، لا يتوقف عن توثيق البراءة، ولربما كان الحنين إلى الماضي هو ما يجعله جميلًا!