“مقارنات تأملية” وآفاق مفتوحة في “فن غزة”

مروان نصار

فنان تشكيلي فلسطيني

هذا كله لا يعفي من أخذ قدر كبير من الحيطة، و "الحيطة" كما وضحها أرسطو ليست الفضيلة الوحيدة، فمن الممكن أن تدفعنا وتأخذنا هذه الحيطة إلى حد التطرف. والسؤال الواجب ذكره في نهاية المقالة هو: هل مروجو الفن وصالونات العرض على استعداد كامل لتقبل البيئة الفنية في غزة والتعامل معها بمنطلق فني بالمقام الأول؟

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

02/08/2019

تصوير: اسماء الغول

مروان نصار

فنان تشكيلي فلسطيني

مروان نصار

لم يعد كل ما يساور الفنان من مشاعر أو أنماط اجتماعية فيها فرح أو حزن أو تقاليد شعبية حاضراً ضمن موضوعات الفن الفلسطيني وخاصة نتاجات الألفية الثانية، فجميع منطلقات واتجاهات الفن في فلسطين اتجهت بكل حرية إلى افق أوسع لا نظير له، فثمة تعبير جديد عمل على تشكيل حافز لتنمية مهارات التفكير الأكثر تنوعاً وتخصصاً بخلاف طرق وأساليب مدارس الفن. 

لم يتهيأ للخيال الفني لدى الفنان الفلسطيني المعاصر مصدر أخصب مما يكمن في تفاصيل واقعه المعاش. بالرغم من ذلك لم يتعامل مع محيطه المجتمعي والممارسات الشعبية كثروة وراثية بل نظر إليها كشيء متحرك ومتغير. 

يأتي معرض غزة الذى حمل اسم المعرض، «مقارنات تأملية»، والذي افتتح بتاريخ 27/7/2019 ليؤكد على عزم الفنان شق كل الطرق من أجل إثبات كينونته وهويته الفلسطينية ويحاور الجمهور ويواجه العالم الخارجي من خلال عدة نوافذ معاصرة في رسالة مفادها نحن على تواصل دائم من أجل استحضار الهوية الفلسطينية كتأكيد لإثبات الذات الإنسانية المبدعة والوطنية المنتمية للأرض باحثة في نفس الوقت عن إنصاف في كافة المحافل والأطر الثقافية،  يعبّر الفنان من خلاله عن مفاهيم لن تخرج عن كونها انعكاساً إيدلوجياً لوضعه الاجتماعي المعاصر أو تخطيطاً يوتوبيا لرسم معالم المستقبل بمثالية.
 

إن هذا المعرض يبصرنا بخلاصة تجارب فنانين شباب موهوبين ومعاصرين محترفين ورواد شاركوا ضمن مساحة خاصة بهم في زوايا المعرض لتسليط الضوء على منجزاتهم خلال حقب متباعدة والذي كان لهم الأثر الواضح في النهوض بأنماط ثقافية بصرية ألقت بظلالها على المحيط المجتمعي والفني العالمي خلال مراحل النضال الأولى ووصولهم لمسارات الفن في سياقات معاصرة فيما بعد.

فشكلت نتاجاتهم حافزاً لجيل الشباب بأن يواصلوا هذا الوعد الثوري والفني. بالإضافة إلى أن هذا المعرض سيكون حافزاً قوياً للخيال من نواحي كثيرة والعمل على توفير أيقونات بصرية معاصرة فعالة ذات كفاءة تلقي بأثرها على طبيعة الوضع الإنساني والاجتماعي والفني من خلال الفنون المتنوعة التصويرية والأدائية والمفاهيمية وأعمال الفيديو آرت لأن تكون بعد ذلك مادة أدبية وفنية صادقة لتوصيل المجتمع لتجربة بنيوية متكاملة.

إن التيارات الفنية تتقابل وتتلاقى وتتأثر فيما بينها لتؤكد عالمية الفن المعاصر بعيداً عن تعصبات وأيدولوجيات محلية متوارثة إلا أن ذكاء الفنان عمل على تطويع هذه الأدوات بما يحقق رغباته الفنية وأهدافه كما في نتاجات الفنانين الفلسطينيين المعاصرين وممارساتهم البحثية لإظهار الجانب الصادم لكل ما يبدوا لنا أليفاً ولطيفاً. فأضاف الإنجاز الفني المعاصر الكثير من التوازنات ضمن حوار مخاطبة العقل. وتوازنات النقل.
 

لذا فشغف العالم من أجل الوصول لمنجزات فنية معاصرة ليس مبرراً لأن نعطى حكماً مطلقاً على تقييم منجزات الشعوب بالنجاحات دائماً. وإن كان هناك جدوى من تتبع المعاصرة من عدمه، فكل القيم متحركة، قد نشترك بالمضمون الإنساني ونفترق بالهدف الإيديولوجي ومسار الثقافة المحلية.  فإن كان الحكم على أى تجربة بنسبية في مكان، لن تكون مطلقة في مكان آخر إلا إذا عبرت عن أهداف عريضة خاصة بها. فالدادية وجدت بداية القرن العشرين لمحاربة الفن بالفن فهدمت المثل العليا لتوجهات الفن ومبادئه فكانت مقبولة في بيئة ومرفوضة أمام من يدعون بالنقاد الماركسيين في موسكو فشجبوها هي والتعبيرية والسريالية بوصفها بدعة فاسدة .

الفن كما يقول صاحب المذهب الإنساني، السير جوليان هكسلى، والذي ينادى بأن يحتل مذهب تطور الفنون بعداً فلسفياً فيقول إن ممارسة الفنون يمكنها أن تلعب دوراً هاماً في تطوير الشخصية فالفن ينبغي أن يكون لا مجرد تعبير ذاتي خاص بالفنان ولا هو من ناحية أخرى مجرد أداة للدولة كما الاتحاد السوفيتي. لذلك ليُنظر إلى كل من العلم والفن على أنهما أدوات ووسائل لفهم العالم ولتوصيل ذلك الفهم للغير.
 

عندما رسم بيكاسو “الجرنيكا” رسمها في وقت كان القتل يولّد صدمات قاسية على المحيط الإنساني، فشكلت هذه اللوحة محاور ومنعطفات جديدة انطلقت من خلالها الأفكار التحررية لتعبّر عن الإنسانية عامة وأصبحت تمثل رمزاً للظلم ومناداة للتحرر من قيود الهيمنة الفكرية والسياسية، فنقول إن غزة ما زالت تعيش كل يوم “جرينكا” جديدة وتعبير جديد يوازي فلسفة عمل بيكاسو، فهل سيشكل هذا الإسراف بالقتل صدمات للعالم ليعمل الفنان بعد ذلك على إطار واقعه لا أهوائه ويكون أكثر صدقاً مع واقعه. 

إن فكفكة وتحليل المشهد الاجتماعي الفلسطيني وتحويله لرؤية بصرية تتعدى الرؤية السياسية والاجتماعية النمطية بحاجة إلى أن نبصر بأن ثمة تجديد آخر والذى سيكون حافزاً لإتاحة المجال لتنمية مهارات جديدة تخصصية. فلم يعد التعبير الفني ضمن حدود ومساحة لوحة يعبّر عن مجموعة من الطموحات والآمال لهذا المجتمع بصورة كلية مثلما عبّر إسماعيل شموط من خلال لوحاته عن الهجرة والنكسة والانتفاضة والأمل والحياة في صورة تعبيرية تارة وبصورة رمزية أو رومانتيكية بجوانب أخرى عند فنانين آخرين وإصدار أحكام قاطعة نحو أى قضية في مرحلة لها مبرراتها. فالمطلوب تحليل الأطر العريضة إلى أجزاء وطرح كل قضية بصورة منفصلة عن الأخرى أقرب لأن تكون طريقة بحث برهاني استدلالي للوصول لعلاقة المشهد الكلي مع الأجزاء الأخرى.

إن مجال التعبير الفني يأخذنا لتنوعٍ في طرح الرؤى وإيجاد حلول مغايرة ومتمايزة المفاهيم.  مثلاً حالة الدمار الناجمة عن آلة الحرب الإسرائيلية كما عبر عنها الفنان البصرى محمد أبو سل تحت عنوان “راحة الآلام؛ اختلفت سرديتها وطريقة طرح المشروع عنها لدى الفنان باسل المقوسى  في معرضه “حب وحرب ومواضيع أخرى”، وعمل على توثيقها الفنان شريف سرحان في مشروعه “لعبة حرب” من خلال تعامله مع خامات ومواد مختلفة وفنون أخرى ظهرت بهذا المعرض مثل فن الأداء أو الفيديو آرت كما في مشروع “مواجهات” للفنانة رفيدة سحويل.
 

إن الكثير من المواضيع بإمكاننا أن نتعاطى معها في سياقات معاصرة كفن التركيب كما في عمل الفنان عبد الله الرزى “مشهد متهالك” حيث استخدم مجموعة من قطع معدنية (خردة)  وأعاد تجميعها بطريقة تركيبية أعطت العمل إيقاعاً بصرياً تناسب مع مضمون العمل ورمزية الشكل مع المعنى المستخدم (الجمل) فتوصل إلى الربط بين علاقة الروح والمادة المستخدمة في ظل تباينات الفراغ داخل إطار العمل. حتى انكسارات الضوء وأثره على الجدار الخلفي كانت على ارتباط مباشرة مع التكوين وكجزء منه، مما أضفى بعداً آخر.

فكل الأمثلة التي تم ذكرها لن يكن بمقدورنا أن نعمل على تجميعها في إطار واحد إذا اتجهنا للتصوير أو التعبير بالألوان والفرشاة. وما يصلح بالفنون المعاصرة التركيبة أو الأدائية والفتوغرافية لن يصلح بالرسم، فهي تتطلب اختراق الزمن ومثالية الفنان الداخلية مع واقعه المادى وهذا شأنه خلق واقع بصري جديد بأدوات جديدة. 

فالموضوعية الجديدة الأدبية والفنية في المنتج الفني في حدود غزة هي بمثابة نموذج مصغر لنماذج وتوجهات جديدة ظهرت كردات فعل بسبب التحولات السياسية وجولات الحروب، فمثلاً ردود الفعل الفنية التي حصلت بعد الحرب العالمية الأولى والثانية كلها كانت داعمة من أجل ترويج لموضوعية جديدة لترسم ملامح التغيير على مضمون الفن والرؤية بموضوعية بعيداً عن هواجس الأحلام والعاطفة وخاصة في تجربة التعبيرية الألمانية في القرن العشرين.

إن تجربة “فن غزة” على مدار السنوات العشر الأخيرة لهى بمثابة إحياء ما تم بناؤه بالماضي ليس بهدف للارتكاز عليه بل لأن يصبح هو نفسه مشروعاً للنهضة وإحياء التاريخ من جديد، وخير دليل يكون تجارب الفنانين الفلسطينيين الشباب الطازجة فنياً وفكرياً في هذا المعرض الفني.

 

 

الاندماج المعاصر والخصوصية الفنية الموجهة

إن الشغف الديمقراطي الذي يسعى إليه العالم ألا وهو الزيادة المستمرة في معالجة الفن وقضايا المجتمع، معالجة تكنولوجية من ناحية إنتاجه وطرائق ترتيبه وتاريخه ونظرياته سيساعد على تطور العلوم المرتبطة بالفن وتراكم أمثلة وعصور شتى من خلال هذه التوجهات والممارسات.  

فالسمة الأبرز بنتاجات غزة أقرب لأن تكون لما سماه الفيلسوف الألماني المعاصر “هـ. ج. جاد امر H.G.GADAMER” بتلاحم الآفاق (FUSION OF HORIZONS)، ذلك أن الاختلافاتِ الثقافية بين البشر، وتباعد الأزمنة لن يحول دون ظهور قواسم مشتركة بينهم، خاصة في العالم الداخلي أو الروحاني للإنسان، ويظهر ذلك عند الفنان في العصر الحديث.

هذا كله لا يعفي من أخذ قدر كبير من الحيطة، و “الحيطة” كما وضحها أرسطو ليست الفضيلة الوحيدة، فمن الممكن أن تدفعنا وتأخذنا هذه الحيطة إلى حد التطرف. والسؤال الواجب ذكره في نهاية المقالة هو: هل مروجو الفن وصالونات العرض على استعداد كامل لتقبل البيئة الفنية في غزة والتعامل معها بمنطلق فني بالمقام الأول؟

إن الفنان في غزة يعيش ضمن نظام اجتماعي وسياسي معقد، إنتاجه متوفر بصورة عظيمة بطريقة ديمقراطية، إلا أن هناك قيود تتوقف عندها عملية الترويج الفني ألا وهو البعد المادي والمعنوي وصعوبة الحركة، فالنجاح نجاح إلا أن عدم اكتمال حلقات المشهد يحول دون تسويق الفن خارج حدود غزة وهذا من شأنه أن يعمل حافزاً لتطوير الإنتاج وضمان لاستمرار الإنتاج والأخذ بتطوير المفاهيم.

فالأعباء كثيرة على كاهل الفنان الغزي في كيفية تطويع ما ورثه من تقاليد ثقافية وتوظيفها بما يتناسب مع الذائقة الشعبية والوطنية بالتزامن مع تطوير أدواته لتصل لمروجي الفن في العالم في وقت تكون دول الاقتصاد الرأسمالي هي من تهيمن على محاور الترويج. فمثالية الطرح الفني من عدمه لم تعد هي السد المنيع تجاه “فن غزة” في ظل تكسر كل القيم الفنية والعدمية القائمة إن صح التعبير وترويجها من قبل العديد من الشباب المستنيرين، فلا بد من وجود إرادة فعلية لتقبل فن غزة وخاصة من قبل وكلاء وقيمي المعارض العالمية كالتبني والترويج من قبل مؤسسات مهنية المتخصصة منها أو التجارية.
 

 
جميع الصور من صفحة “روابط  معاصرة
الكاتب: مروان نصار

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع