عمل مفاهيمي في ميامى أوجد نوعاً من الصدمة الاجتماعية اتسمت بتأويلات وبتباينات مختلفة بين نشطاء التواصل الاجتماعي العامة والمهتمين بالفنون البصرية كفنانين ونقاد أجانب وعرب وكل من حضر هذه (الفنتازيا). ردّات الفعل والتفاعل كانت متباينة بين القبول والاستهجان والطرافة أو الاستغراب والتهكم والاندهاش أو من ذهب لمبدأ التسليم بأن الفن المعاصر لا قانون ولا منطق يحكمه.
إنّ من يضَعُ الحدث عليهِ أن يُقدم مبرراته
في معرض باسل في ولاية ميامي الأمريكية، يفاجئ الفنان الإيطالي “ماوريزيو كاتيلان” الزوار بعمله الفني والذي بعنوان “الكوميديان” ينتقد فيه التجارة العالمية. العمل عبارة عن موزة ملصَقة على حائط المعرض بشريط لاصق. يقول ماوريزيو إن الفكرة استغرقت عاماً من التفكير! بيع العمل الفني لسيدة فرنسية بمبلغ ١٢٠ ألف دولار! ومن المتوقع عرض العمل في معارض أخرى ليصل سعر العمل إلى ١٥٠ ألف دولار! قام أحد الزوار وهو فنان أيضاً بالتقاط الموزة وأكلها أمام المصورين والحضور وبكل سخرية! لترتفع قيمة العمل الفني كذلك. تم استبدال الموزة بموزة أخرى وإلصاقها بشريط لاصق جديد!
من باب إيضاح أبعاد الموضوع وجبت قراءة المشهد والبحث عن خفاياه ومرتكزاته بتأمل لعلنا نصل لأجوبة أو مبررات قد يكون الفنان تركها بين طيات هذا المنجز. أو نترك الموضوع كمسلّمات نستقبلها ونتعاطى معها كما تعاملنا مع أنماط وأساليب سابقة ومعاصرة حداثية في إطار انفعالي إزاء ما يتم ترويجه من أفكار معاصرة يُراد بها تثبيط الجمالية قد يرى البعض ويفسره البعض الآخر كنوع من انتزاع للمضمون والمعنى وإخراج العمل الفني من سياقه المجتمعي والإنساني.
أمّا السؤال الذي وجب طرحه في هذه المقالة فهو حول السبب وراء رفض وعدم هضم أو تدعيم هذه الفكرة الفنية واستهجانها وخاصة بين النخب الفنية العربية المعاصرة منهم….
هل بالإمكان القول أنّه أصبحت لدينا مراجع ومادة بصريّة واضحة وخصبة أكثر من ذي قبل بالإمكان العمل عليها بشكل ينسجم مع واقعنا ومتغيراته…. هل الظروف السياسية التي عصفت بغالبية البلدان العربية وخاصة في السنوات العشر الأخيرة قد أوجدت تغيرات جذرية في بناء مفاهيم أو تعديل تصورات تخدم الفنان العربي والعقل العربي معاً. ويكون الفنان ابن البيئة الخاصة به بعيداً عن مفاهيم ما بعد الحداثة ذات الركائز الرأسمالية القائمة على العدمية البراغماتية المعتمدة على الترويج والتسويق والاستثمار في المقام الأول وكنوع من غسيل الأموال، كما قد يفسرها آخرون .
يقول الفنان العراقي أحمد البحراني عن هذا الحدث الفني، “مزحة في ميامي”.
لقد قدم الفنان وبكل ثقة عملاً مفاهيميّاً “كمزحة” كي يبعث لنا رسالة جميعا أن الفن “لعبة” وهناك من يدير هذه اللعبة خلف الكواليس. ينهي كلامه بأن هناك مسافات شاسعة بين ما نؤمن به وبين ما يجرى في العالم الآن.
ولم يكن الفنان السوداني معتز الإمام بعيداً عن إبداء رأيه من خلال طرح العديد من الأسئلة على موقع التواصل الاجتماعي فيقول: “هل أرادت بازل ميامي منح موافقات المشاركة بناءً على اسم الفنان فقط أم على نوع المشاركة”. ويقول “هل هناك كونسيپت عظيم خلفها لا يستطيع أمثالنا فهمه أم أن الفن وتاريخه من الكهف إلى اليوم كان مجرد دعابات تاريخية متفرقة؟ وما هو الأثر المرجو من هذا الفعل وهل تحقق من هذه الضجة؟” وينهى كلامه بماذا بعد…
السؤال الواجب ذكره أيضا هل ستوصلنا هذه المفاهيم والمواسم الافتتاحية المتنوعة لسوق الفن الى الإحباط والوصول إلى حالة كي وعي الإنسان العربي في عمل يمكن القول عنه “حقّ يُراد به باطل”؟ إن صحّ التعبير.
إن تسليط الأضواء على فنان بين الفينة والأخرى هو نمط من الأنماط المعاصِرة التي ظهرت في فن الستينيّات والذي درج في هذه الفترة بطريقة نوعية وجديدة يسودها نوع من الغرابة، سواء الفكرة القائمة أم طريقة العرض أم بيعها. كل هذا بالتزامن مع الأدوات الإعلامية التي تعمل على ترويج الفنان وعمله الفني فهذا الاستعراض الإعلامي يجعلنا نسأل، “هل هناك فعلاً مضمون يستحق هذا الترويج أم أن ممارسة الفنون أصبحت من باب الترف الفكري المعاصر التي أوجدته فنون ما بعد الحداثة بما ينسجم مع الحضارة الإنسانية الهيومانية.
لطالما عبرت هذه الفنون عن الترف الفكري الذي تعيشه المجتمعات الغربية في تطويع الثقافة وفق أيدولوجيات وركائز اقتصادية إمبريالية وأغراض ترويجية ساهمت في قصف العقول إلى جانب قوة السلاح، وامتدت آفاقها أكثر خلال فترة الحرب الباردة التي دارت بين الاتحاد السوفييتي، قوة الاشتراكية، وقوة الرأسمالية الأمريكية، فركائز الترويج اعتمدت على الصدمات المتجددة من خلال طرح الأفكار واستحداث أساليب عرض وترويج الممارسة الفنية من أجل “الغاية” وعلى أنهم ليسوا سوى منتجين لسلع تغذّي سوقاً مترَفة وليس من مبدأ أن الفن عبارة عن “وسيلة” يراد منها الوصول إلى بنية معرفية جمالية إنسانية. فهو في النهاية إمّا “فن متعة بامتياز” أو “نسق تنويري مادّي” كما تمّ تبنّيه من قبل دعاة الإصلاح في المجتمعات العربية والأوروبية.
إن الحداثة مفهوم شمولي جامع يرتكز على استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا معاً ولكن المنفصلة عن القيمة بالمنظور الغربي أي عالم متجرد من القيمة وتصبح كل الأمور متساوية ثم أصبحت كل الأمور نسبية.
فالفنون البصرية المعاصرة هي إحدى توجهات العلوم الحديثة نسبياً. نجح العديد من الفنانين العرب وأصحاب القضايا التحررية ممارسة هذه التوجهات المعاصرة بكل جرأة، في تطويع وتطوير وتحديث مجموعة مفاهيم معاصرة مرتكزاتها الإقناع في إطار قيميّ من خلال الاستناد إلى المفهوم قبل الولوج بالعملية الإبداعية بحد ذاتها. وهنا نؤكد على دور الدعاية والترويج والوصول للإقناع كشرط أساسي لإيصال الفكرة. الوصول إلى ثقة الجمهور المتلقّي والاقتراب إلى ذاكرته لاستيعاب ما يحدث إزاء تغيّر المفهوم، فلم تكن هذه المفاهيم المعاصرة جديدة الوصول لمجتمعاتنا بقدر تطويعها ضمن أسس ومرتكزات تنتمي لحاضرنا وفق تسلسل تاريخي. فقبل الانسجام بالمعاصرة، لا بد أن يكون هناك انسجام بين التاريخ والحاضر وهنا المشكلة القائمة في كيفية استيعاب ما يتم ترويجه من قبل المؤسسات الغربية الثقافية بين الحين والآخر لنا والنظر إلينا كمادة استعمالية ومصدر خام، بحيث تعتاش هذه المجتمعات العربية وتقتات على أيدولوجيات الفكر الغربي .فوُظفت توجهات ما بعد الحداثة كأدوات ومشروع تكميلي هدفه الهيمنة وإحداث أزمة في تحديد المعنى المناسب لمفهوم ما بعد الحداثة.