للعام الثالث على التوالي، تخصص مؤسسة “اتجاهات-ثقافة مستقلة” لقاءً مفتوحاً في الجامعة الأمريكية في بيروت، مع الباحثين والباحثات الحاصلة أوراقهم وأوراقهن البحثية على منحة برنامج “أبحاث لتعميق ثقافة المعرفة”، وهو برنامج سنوي تقدمه المؤسسة لدعم مجال البحث وتنمية قدرات الباحثين.
البطريركية في التراث الثقافي لجبل العرب، هناد الشحف
يستعمل مصطلح البطريركية للدلالة على سيادة الثقافة الذكورية، وهيمنة الرجال على مواقع اتخاذ القرار، وتمتد من سلطة الذكور على الإناث في الأسرة إلى طبيعة العلاقة مع السلطات الأوسع مثل السلطة الدينية أو السياسية. يتناول الباحث هناد الشحف العلاقة بين البطريركية والموروث الثقافي في منطقة جبل العرب، وذلك في محاولة لفهم الآليات الثقافية المساهمة في تكوين البطريركية وتكريسها، واستكشاف تجليات البطريركية في الموروث الثقافي للمنطقة كالعادات والتقاليد والمعتقدات، موظفاً المنهج الوصفي لدراسة بعض الموارد الثقافية اللامادية كالقيم والعادات والتقاليد والمعتقدات الدينية وتحليلها.
عين هذا البحث ثلاثة أطر رئيسية لتجليات البطريركية في الموارد الثقافية المدروسة لجبل العرب، وهي: 1- حضور البطريركية في المعتقدات الدينية والتدين. 2- حضور البطريركية في علاقة السلطة بين الرجال والنساء، وذلك يتجلى في تعظيم الذكورة وتبخيس الأنوثة، وفرض دور المسيطر على الرجل والخاضع على الأنثى. 3- تجلي البطريركية في العلاقات الاجتماعية حيث تفرض تبعية الأصغر للأكبر، تبنى العصبية على معيار الولاء، مما يكرس البطريركية في العادات والأعراف الاجتماعية. كما نبه الباحث أخيراً إلى إلى دور النظام السياسي في إعادة إنتاج السلطات البطريركية الدينية والقبلية وتفعيلها في مستوى البنية الإجتماعية.
بين الأدبية والتوثيق، نماذج روائية سورية معاصرة، علا المصياتي
من خلالها دراستها لثلاث نماذج روائية سورية معاصرة، تتناول الباحثة علا المصياتي ثنائية التوثيق والتخييل في العمل الروائي السوري بين عامي 2013 – 2017، فتتطرق إلى أسئلة من قبيل: هل ينجح المتخيل في إعادة قراءة الواقع السوري وتحليله ونقده وأن يكون بنفس قوة الواقع؟ هل الوثيقة الملتصقة في الواقع تبقى نفسها عندما نستعملها في الأدب؟ هل الواقع واقع أوحد؟ وهل الحقيقة أحادية الزوايا والمرايا والانعكاسات؟ وكيف يعمل مفهوم المحاكاة في الفن الروائي؟
جعلت الباحثة الغاية الأساسية من بحثها هو الخوض في الكتابة الإبداعية في فترة غير مستقرة من تاريخ سورية، والوقوف عند الموضوعات الجديدة التي أثرت على الكتابة الإبداعية السورية، ودراسة أثر المتغيرات على طريقة التعبير عن الواقع وعلاقته مع المتخيل، وكذلك الوقوف عند حدود الأدبية والتوثيق، وأثرهما على الكتابة.
اعتمدت الباحثة في تحليل النصوص على المنهج البنيوي، لتفكيك بنى السرد في النصوص وملاحظة تكويناتها ودلالاتها والوقوف على ملامحها النوعية المتميزة. ووظفت الرؤية السوسيولوجية لدراسة العلاقة بين الرواية السورية المعاصرة والتجربة الاجتماعية الراهنة.
مثلاً، في رواية “الذين مسهم السحر” لروزا ياسين حسن (منشورات الجمل)، نتابع الحياة اليومية والتفاصيل المعيشية لأولئك الذين مسّهم السحر، السحر هنا بمعنى رغبة التغيير، السحر بمعنى كسر حاجز الخوف، لنكتشف أن حياتهم لن تعود أبداً إلى ما كانت عليه قبل مساس السحر. نتابع كيف تفاعلت هذه الشخصيات من خلفيات ثقافية واقتصادية واجتماعية متنوعة مع هذا السحر، وما المصير الذي ستؤول إليه هذه الشخصيات الواقعة في مساس السحر؟ تميز الباحثة في هذه الرواية حضور رواي متعدد المهام، وكذلك تواجد تعدد في الرواة، هذا ما يعكس أن الحقيقة لم يعد يمتلكها شخص واحد، على حد تعبيرها، تقول الباحثة في هذا الصدد: “كأن راو واحد لا يكفي، فالكثيرون يشاركون في روي حكاياتنا، يدخلون إليها ليضيفوا إليها، وكأن حكاياتنا يملكلها الآخرون أيضاً”، كما ترصد الباحثة على مستوى التقنيات السردية، انتقال محور الحكاية بين الماضي، الحاضر، والمستقبل لتتحرك الأزمنة الثلاثة في تضافر مستمر.
أما في رواية “الموت عمل شاق” لخالد خليفة (دار نوفل)، فيعتمد المؤلف على تيمة متخيلة لبناء روايته، منطلقاً من سؤال روائي: ماذا يحدث بجثماني لو مت اليوم؟ الرواية عبارة عن رحلة إيصال جثمان الرواي ودفنه في مكان متخيل، فيصبح حدث الموت دافعاً لكشف تاريخ العائلة كاملةً. تجد الباحثة أن عنوان الرواية ملهم، كأن أمام من يموتون مشقة أخرى لا تقل صعوبة عن مشقة الحياة.
وفي رواية “المشاءة” لسمر يزبك (دار الآداب)، تتوقف الباحثة عند شخصية الراوية المتخيلة التي ابتكرتها المؤلفة لسرد الرواية، وهي فتاة غريبة التكوين الجسماني تقول بأنها ولدت ورأسها بين قدميها، وهي مربوطة بوالدتها بحبل بالمعصم، وهي معقودة اللسان أيضاً، تصل هذه الفتاة/الراوية إلى منطقة الغوطة وتروي الحدث السوري هناك، تقول الباحثة: “حاكت سمر يزبك تجربة العيش في سورية عن طريق شخصية يتوجب عليها أن تروي لكي تحرر عضلة اللسان، وتحرر بالتالي الحكايات، وعلى القارئ أن يبني الحكاية).
حضور وغياب الذات في خطاب المسرح السوري بعد العام 2011، لمى العبد المجيد
بداية، تميز الباحثة لمى عبد المجيد بين مفهومي الأنا والذات، على اعتبار الأنا مفهوماً نفسياً اجتماعياً، فالأنا متكيفة في السياق، وتصاغ بالطريقة التي يريدها المجتمع، أما الذات فهي الجزء الفاعل والناتج عن ممارسات الفرد، وتفترض الذات وجود مقاومة للسلطة المستبدة، فالذات تتميز بالحركة والفاعلية والديناميكية. من هذا المنطلق تحاول الورقة البحثية استكشاف كيفية تجلي مفهوم الذات ضمن النص المسرح السوري المعاصر، اعتماداً على المنهج السيميائي، وعلى المنهج البنيوي، وعلى التحليل النقدي للخطاب المسرحي، بالإضافة إلى مفاهيم تتعلق بالمنهج السوسيولوجي.
موضوعة النص المسرحي “حبك نار” لمضر الحجي (دار ممدوح عدوان)، هي صعوبة ممارسة الجنس في ظل ظروف الحرب، شخصية المسرحية الرئيسية هي عسكري غير قادر على الهرب من الخدمة الإلزامية، هنا تتعرض الذات لأزمة حقيقة، لكنها ما تلبث أن تتمكن من الإنتصار على الأنا ضمن مجريات النص. في مسرحية “وقائع مدينة لا نعرفها” لوائل قدور (دار ممدوح عدوان)، نتابع حكاية فتاة ناشطة في العمل السياسي، ويتطرق النص إلى دور السلطة السياسية والاجتماعية في رسم العلاقة بين الذات والذوات الاجتماعية الأخرى من حولها. أما في مسرحية “هن” لآنا عكاش، نجد حكاية خمس نساء، فقدت كل منهن شريكها بسبب ظروف الحرب. ترى الباحثة أن هذا النص يتسم بأحادية الصوت، وهو يقف عند مستوى الندب على غياب الذكر من عوالم هؤلاء النسوة اللواتي يمثلن أنماطاً اجتماعية كالأخت والزوجة… مرسومة من قبل المجتمع، الشخصيات الأنثوية تبقين سجينات وأسيرات للماضي، مما يؤدي إلى غياب الذات الفاعلة في الحاضر والمستقبل. وفي مسرحية “هدنة” لعدنان أزروني نتابع حكاية عسكري يستغل هدنة في القتال، ليسترجع أحلام ماضيه المتمحورة حول تأسيس مستقبل وتأسيس عائلة، لكن سلطة المجتمع هي العائق أمام تحقيق هذه الأحلام. توصف الباحثة الشخصية الرئيسية في هذه المسرحية بأنها متعلقة بالماضي، أما الحاضر الآني فهو خالٍ بالنسبة لها، ما ترى فيه الباحثة استسلام للواقع ومهادنة ومحاولة للسيطرة على أي نوع من أنواع التمرد.
موضوعة اللجوء في المسرح السوري – الألماني، وديعة فرزلي
في هذا البحث تحاول الباحثة (وديعة فرزلي) أن تتناول مجموعة من الأعمال المسرحية السورية في ألمانيا التي تتطرق إلى موضوعة اللجوء، وتدرس كيفية طرح هذه الموضوعة في الأعمال المسرحية المنتقاة، ترصد التعبيرات الفنية عن تيمة اللجوء على المسارح الألمانية بين العامين 2017 و2019. يعتمد البحث منهجية تحليل العروض المسرحية بالإضافة إلى الحوارات واللقاءات مع كتاب ومخرجي العروض المسرحية المختارة.
في مسرحية “أفيجينيا” لعمر أبو سعدة ومحمد العطار، يكون المتلقي أمام نوع مسرح الشهادات، حيث مجموعة من اللاجئات السوريات يمثلن أنفسهن، وصحيح أن النص يحاول إعطاء الصوت للضحية، إلا أنه وحسب تعبير الباحثة، من خلال التماهي الذي يقترحه النص، بين شخصية أيفيجينيا التي ضحى بها والدها وبين اللاجئات السوريات، يتعامل مع موضوعة اللجوء من موقع دوني، بالإضافة إلى أن العرض يحمل نوعاً من الإنكار لهوية اللاجئ أو خصوصيته. أما مسرحية “أوديسة” لأنيس حمدون فتتطرق للإجراءات القانونية التي يتبعها اللاجئ حال وصوله، وبالتالي هي مسرحية تتعامل مع الحقوق المدنية للاجئ، وتقترح أسئلة عن علاقة اللجوء بالنجاة، هل اللاجئون ناجون؟ كيف يتعامل اللاجئون مع الذكريات، ومع جروح الماضي؟ وكيف يتجاوز الخسارات؟ يتساءل هذا العرض عن علاقة اللجوء بالهويات القديمة، وعن احتمال اعتبار اللجوء كعملية انسلاخ عن الماضي. في عرض “Please repeat after me” (أرجوك أن تكرر من بعدي) لزياد عدوان، تغلب الكوميديا الهزلية، وبالتالي المعالجة الساخرة لموضوعة اللجوء، والمعالجة الساخرة للصور النمطية المفروضة على اللاجئين. يدفع العرض باتجاه التحرر من المسؤولية الأخلاقية على حسب تعبير الباحثة. تميز وديعة فرزلي هذا العرض بقدرته على فتح النقاش على الظرف السياسي من خلال تقنية الخطأ المسرحي التي تعمدها العرض ليساوي فيها بين الجمهور والممثلين، ويفتح الجدل والنقاش على الكليشيهات والصور النمطية.
حفظ التراث الغنائي الفراتي في سورية، آلاء عليوي ونسرين علاء الدين
يختص هذا البحث بالأنواع الغنائية التراثية للمنطقة الشرقية في سورية، بالأخص مدينتي الرقة ودير الزور، والتي منها الموليا والسويحلي والنايل). وتوضح الباحثتان أن غاية البحث هو حفظ الأغاني التراثية في المنطقة الشرقية السورية في دير الزور والرقة، وتوثيق أنواع وألوان الغناء، ودراسة التطور في الغناء الذي رافق تحول المنطقة من منطقة زراعية إلى منطقة صناعية، ومن ثم مرحلة الحرب والأثر الذي أحدثته من تصدع البيئة الحاضنة لهذه الفنون. وبالتالي، فإن البحث يسعى لاستكشاف واقع التراث الغنائي الفراتي في سورية مما قبل العام 2011 وحتى المرحلة الحالية.
الإشكالية التي ركز عليها البحث تتعلق بسؤال الهجرة، فهل تهجير أبناء المنطقة السورية واستقرارهم في بيئات جديدة سيؤدي إلى ضياع أجزاء من تراثهم الغنائي؟ ولمعالجة هذه الإشكالية أكدت الباحثتان على أنهما اعتمدتا على منهج الدراسات التاريخية والمنهج الوصفي، وقد تم إجراء 19 مقابلة مع مغنيين وشعراء وباحثين وصحفيين وفرق ومبادرات تعمل على إحياء هذا التراث الغنائي، وهم في معظمهم فاعلين في مدينتي الرقة ودير الزور.
وقد توصل البحث إلى مجموعة من النتائج أهمها، أنه ورغم التشابه الكبير بين التراث الغنائي الفراتي بين الرقة ودير الزور إلا أن البيئة العشائرية التي تمتاز بها الرقة، تهتم أكثر بالحفاظ على الموروث الغنائي وإحيائه وتداوله، فحتى اليوم العشائر تنظم لقاءات يمارس فيها الجميع نظم الشعر والغناء والحفظ والتحكيم، مقابل بيئة مدنية في دير الزور تهمل أكثر فأكثر المناسبات الشعرية. أما على مستوى الاغتراب فقد بين البحث أن هناك اتجاه لدى المغتربين للاستماع إلى الأغاني التراثية أكثر من ذي قبل، وتبين الباحثتان أن التراث لعب دوراً مهماً في خلق مساحات مشتركة جامعة للناس من مختلف الآراء السياسية بعد أن فرقتهم الحرب.
تطرق البحث إلى أثر الخطاب الديني في انتشار أفكار عن تحريم الفن والغناء تؤدي إلى ضياع الموروث الغنائي التراثي، كذلك وضحت الباحثتان أن المجتمع في المنطقة الشرقية يمتلك نظرة دونية إلى الغناء والموسيقى مما ساهم في تقليص عدد العاملين في هذا المجال، وأخيراً، تطرق البحث إلى غياب دور المرأة في مجال الغناء والموسيقى الذي يؤدي أدى إلى تراجع استمرارية أنواع الغناء الفراتي التراثي التي تشارك فيه المرأة بشكل أساسي.