صدر عن سلسلة “ترجمان” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب «فكرة الثقافة»، وهو ترجمة ثائر ديب العربية لكتاب تيري إيغلتون بالإنكليزية The Idea of Culture.
في هذا الكتاب، يستند إيغلتون إلى مجموعة واسعة من المصادر والنظريات والفروع المعرفية كي يستقصي الطرائق التي تُعَرَّف بها الثقافة وتُستخدَم في تأويل العالم المادي والتفاعل معه؛ تلك الطرائق بعيدة المدى غالبًا ما تكون متضاربة. ويغوص المؤلف في هذا المفهوم المعقّد غوصَ أكاديميٍّ دقيقٍ وواضحٍ، ويستكشف التوتر بينه وبين مفهوم الطبيعة الذي يقابله، وإمكانات قيام ثقافة مشتركة، ليستخلص في النهاية أنّ الثقافة، ولا سيما في أوجهها غير المستنيرة، متغطرسة اليوم وشديدة الأذى، وعلينا أن نعيدها إلى حجمها الطبيعي من دون أن نكفّ عن الإقرار بأهميتها.
معاني الثقافة المتعارضة مثار جدل
يتألف الكتاب (216 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من خمسة فصول. في الفصل الأول، وعنوانه “الثقافة في طبعاتها المختلفة”، يبحث إيغلتون في أصول كلمة “ثقافة”، وفي دلالاتها وطبعاتها المختلفة، عارضًا بعمق وإيجاز المعاني المتعددة والمتمايزة، بل المتصارعة أحيانًا، للثقافة في سياق الجدل الدائر بين المفكرين. ويقول المؤلف في هذا الصدد: “كانت فكرة الثقافة دائمًا، بدءًا من أصولها اللغوية التي تشير إلى تولّي النمو الطبيعي بالرعاية وإلى الآن، طريقة لنبذ الوعي وتهميشه. فإذا كانت الثقافة باستخدامها الضيق قد عنت أرقّ نتاجات التاريخ البشري المشغولة بوعيٍ وحساسية رفيعين، فإن معناها العريض أشار إلى عكس ذلك تمامًا. فالثقافة، بترجيعها أصداء سيرورة عضوية وتطور جارٍ خلسةً، هي مفهوم أقرب إلى الحتمية، يشير إلى ما في الحياة الاجتماعية من خصائص هي التي تختارنا من دون أن نختارها، مثل العادة والقرابة واللغة والشعائر والأساطير”.
ويختم المؤلف هذا الفصل بالقول إنّ الثقافة ما عادت وصفًا لحال المرء أو ما هو عليه، بل لما يمكن أن يكون عليه أو لما اعتاد أن يكون عليه، وأنها ما عادت تصف الوجود الاجتماعي في كلامها الفصيح عن مجتمع معين.
كلمة الثقافة تميل عن محورها
أمّا الفصل الثاني، الذي كان بعنوان “الثقافة في أزمة”، فيرى فيه إيغلتون أننا عالقون في هذه اللحظة “بين تصوّرين للثقافة، أولهما واسع وفضفاض إلى درجة العجز وثانيهما صارم وصلب إلى درجة الإزعاج، وأنّ ما نحتاج إليه أشدّ الاحتياج في هذا المجال هو أن نتخطّى هذين التصوّرين كليهما. ولا سيما أنّ مفهوم الثقافة كان قد أبدى، بحسب مارغريت آرشر، أدنى درجات التطور من حيث قدرته التحليلية إذا ما قيس بأيّ من المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع، كما قام بأشدّ الأدوار تذبذبًا ضمن النظرية الاجتماعية. وهذا ما يتوافق مع تأكيد إدوارد سابير أنّ الثقافة تُعَرَّف بأشكال السلوك، وأن محتواها مؤلف من هذه الأشكال التي يوجد منها ما لا يحصره العدّ. والحال، أنّ من الصعب أن نقع على تعريف أشدّ تألّقًا في فراغه من هذا التعريف”.
وهو يعتقد أنّ كلمة “الثقافة” راحت تميل عن محورها منذ ستينيات القرن العشرين وصاعدًا، وغدت الآن تأكيد هوية خصوصية – قومية أو جنسية أو إثنية أو مناطقية – لا تعاليًا على مثل هذه الهوية، “ولأن هذه الهويات جميعًا تنظر إلى نفسها على أنّها مكبوتة ومقموعةً، فإنّ ما كان يُعْتَبَر في السابق عالمًا من التوافق تحول الآن إلى عالم من الصراع. باختصار، تحولت الثقافة من كونها جزءًا من الحلّ إلى كونها جزءًا من المشكلة. فهي ما عادت وسيلة لحلّ النزاعات السياسية، أو بعدًا رفيعًا وعميقًا يمكن من خلاله أن يلاقي أحدنا الآخر بوصفنا أندادًا في الإنسانية؛ بل غدت، بخلاف ذلك، جزءًا من الصراع السياسي ذاته”.
لن تعدل دولة بين ثقافاتها المتعددة
يستهل إيغلتون الفصل الثالث، “حروب الثقافة”، بقوله: “توحي عبارة حروب الثقافة بمعارك ضارية بين الشعبويين والنخبويين، بين القيّمين على المُعْتَمَد المُكَرَّس ومن نذروا أنفسهم للاختلاف، بين المشاهير البيض الذكور الموتى والمهمَشين جورًا. لكن الصدام بين الثقافة (Culture) والثقافة (culture) ما عاد معركة تعاريف فحسب، بل صراعًا عالميًا. وهو مسألة سياسات فعلية، لا سياسات أكاديمية فحسب”.
ويذهب المؤلف إلى أنّ الدولة – الأمّة لا تحتفي بفكرة الثقافة دونما حدود، بل على العكس، “فإن أيّ ثقافة قومية أو إثنية محدّدة لا يمكن أن تحظى بالأهمية إلا عبر مبدأ الدولة الموحِّد، وليس بحكم قوتها الخاصة. فالثقافات ناقصة في جوهرها، وهي تحتاج إلى أن تكملها الدولة كي تصير ذواتها الحقّة. وهذا هو السبب، بالنسبة إلى القومية الرومانسية على الأقلّ، في أنّ لكلّ إثنية حقّها في أن تقيم دولتها لمجرد أنّها شعب مميز، ذلك أنّ الدولة هي السبيل الرئيس الذي يمكن من خلاله أن يحقق هذا الشعب هويته الإثنية. بناءً عليه، فإنّ دولةً تضمّ أكثر من ثقافة واحدة سيتحتّم عليها أن تخفق في أن تعدل بين جميع هذه الثقافات”.
الطبيعة منتصرة والثقافة مهزومة
يقول إيغلتون، في الفصل الرابع، الموسوم بـ “الثقافة والطبيعة”، إنّ النصر النهائي معقود للطبيعة على الثقافة، “وهو النصر الذي اعتدنا على تسميته الموت. ويكاد الموت، على المستوى الثقافي، أن يكون قابلًا لتأويلاتٍ لا حدَّ لها”. يسأل إيغلتون: ما الذي يدفع جميع الأشياء كي تقبل أن تُرَدَ إلى الثقافة، لا إلى شيء آخر؟ وكيف أمكننا أن نثبت مثل هذه الحقيقة الخطرة؟ بوسائل ثقافية، كما يزعمون؛ لكن ألا يشبه هذا الزعم ذاك الذي يردّ جميع الأشياء إلى الدين، ويرى أنّ ذلك صحيح لأنّه ما تخبرنا به شريعة الله؟ هل الاعتقاد أنّ جميع الأشياء نسبية ثقافيًا نسبيٌّ هو ذاته ومرتبط بإطار ثقافي ما؟ إن كان الأمر كذلك، فلا حاجة بنا إلى أن نقبله على أنّه قول مُنزَل؛ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فذلك يعني أنّه يمثّل هو ذاته تكذيبًا لمزاعمه. ويؤكد المؤلف أنّ المذهب الذي يرى أنّ الطبيعة البشرية هي الثقافة يمكن أن يكون مذهبًا محافظًا على الصعيد السياسي. فلو كانت الثقافة هي التي تشكّل طبيعتنا برمّتها، لما كان في تلك الطبيعة ما يدفع إلى الوقوف في وجه ثقافة ظالمة. وهذا ما يرتبط بتلك المشكلة التي واجهها ميشيل فوكو في تفسير الكيفية التي يمكن بها ما شكّلته القوة برمّته أن يقاوم هذه القوة. ولا شكّ في أنّ قدرًا كبيرًا من مقاومة الثقافات ثقافي هو ذاته، بمعنى أنّه ينبع برمته من مطالب ولّدتها الثقافة.
الثقافة هي ما نحيا لأجله
يتخذ إيغلتون الفصل الخامس والأخير، “نحو ثقافة مشتركة”، مجالًا للبحث في مفهوم الثقافة المشتركة عند ت. س. إليوت، وريموند وليامز، ويختم بالقول: “ليست الثقافة ما نحيا به فحسب. فهي أيضًا، وإلى حدٍّ بعيد، ما نحيا لأجله. فالعاطفة، والعلاقة، والذاكرة، والقرابة، والمكان، والجماعة، والإشباع الانفعالي، والاستمتاع الفكري، والإحساس بالمعنى الجوهري، أقرب إلى معظمنا من شرعات حقوق الإنسان أو المعاهدات التجارية. لكنَ من الممكن للثقافة أيضًا أن تكون مخيفة ومرعبة. بل إنّ حميميتها ذاتها قد تغدو مرضًا ووسواسًا ما لم توضع في سياق سياسي مستنير، سياق يمكن أن يلطّفَ هذه الأشياء العاجلة والملحّة بأشكالٍ من الانتماء أشدّ تجريدًا، لكنها أيضًا أشدّ سخاءً وسماحة. ورأينا كيف اكتست الثقافة أهمية سياسية جديدة. لكنها غدت في الوقت ذاته أبعد عن التواضع وأدنى إلى الغطرسة. وحان الوقت، ونحن نعترف بأهميتها، كي نعيدها إلى مكانها المناسب”.