في مقدمة هذا التقرير عن الكتابة السردية من المنفى، أستعير ما قالته الروائية السورية شهلا العجيلي، وتقيم في الأردن، خلال ندوة في معرض تونس الدولي للكتاب، قبل ثلاثة أعوام، حين تحدثت وسجلتُ ما قالته حول أصل نظرية علاقة الرواية بالمنفى، والمنفى والهوية، والمنفى في الميزان الجندري، معرجة على أمثلة من كتابات المنفيين، كما أسمتها.
وقالت العجيلي: نظرية الرواية قامت بالأساس وعلى أساس القطيعة مع الواقع، فهناك بطل إشكالي على علاقة غير متوافقة مع الواقع، وعلى علاقة مع حنين ما لقيمة ضائعة وصعبة الاستعادة أيضاً، وهذا ظرف مثالي للكتابة يحقق المنفى، ففضاء المنفى مثالي للكتابة الروائية لأن يحقق الشرط مرتين: النفي الخارجي، والنفي الداخلي، لافتة إلى أن عدم وجود تماس مع المكان الأصلي للكاتب، ووجود تماس هش مع المكان الآخر، حيث القطيعة مع المتن والهامش في آن، قد يحول المنفى امتيازاً بتحول نموذج البطل المنفي التراجيدي والمعذب، لذلك يحوّل الكاتب كل تفاصيل رحلة الجلجلة، ودرب الآلام منذ لحظة الخروج من وطنه، إلى حكايات مكتوبة، فبراغماتية الروائي تجعله يفعل ذلك، وهذا لا يلغي بطبيعة الحال المعاناة والمآسي التي رافقت تلك الرحلة، لكن بطولة المنفي هي بالعادة بطولة فردية
وشددت: أيضاً المنفى يحقق ما أسميه المسافة الجمالية، وهي أمر مطلوب للكتابة، وهي مسافة ما بين الكاتب والماضي وما بينه وبين التاريخ، فالكتابة على بعد من الأشياء توفر نظرة أوضح، بحيث يكون “العقل أبرد، وإن كان لا يزال القلب حاراً”، فالمنفى يوفر رؤية نقدية تأتي من المقارنة بين وضع الآخر أي المواطن في بلد المنفى، وبين وضعه الحالي في المنفى، ووضعه السابق، ما يصل بالبعض إلى النقمة على الماضي، وأحياناً الأوضاع الحالية، فيتحول المنفى إلى موقع لنقد الواقع والتاريخ، فكتابة المنفى يجب أن تخرج عن كونها كتابة مضادة لكتابة المتن، إذا ما صنفنا المنفى كهامش، ولا تستعمل نفس الأدوات، وإن كانت تعارض المتن الذي يتحكم بنص الهامش، الذي يصنفه أحياناً بناء على موقف صاحب النص سياسياً، وطبقياً، وليس وفق جماليات هذا النص، أي شخصنة النص، وهي لعبة المركز في الإضاءة على نصوص وفق رغبات محددة.
ولفتت العجيلي: هناك نقطة مهمة تتعلق بفكرة تفكيك النموذج السلطوي الذي هرب منه المنفي، أو من تسبب في نفيه، وهذا يحتاج إلى الكثير من التعقل، والكثير من الدراسة، بعيداً عن ردود الفعل العاطفية، لتقفز متحدثة عن “نص العودة” في التجارب الفلسطينية والعراقية والسورية، لافتة إلى أنها، وفي كل ما قرأت، لم تلمح تباشير وسمات لنص العودة، وكأن المنفى هي الحالة التي يطيب فيها المكوث روائياً.
بعدٌ جديد
وصف الروائي السوداني حمّور زيادة، المقيم في القاهرة، الغربة بأنها تدمغ روح وأفكار الشخص، وخاصة الكتاب، بدمغة لا يمكن تجاوزها بسهولة، وأكد: لا أستطيع أن أجيب عمّا إذا كانت كتاباتي اختلفت في مصر أو في الغربة، لكنني أحب أن أعتقد أن كتاباتي ما بعد الاغتراب عن وطني أخذت بعداً جديداً، فأنا أرى أن رؤيتي اتسعت تجاه الوطن خاصة بعد أن ابتعدت عنه، فحين كنت داخله، كانت تتملكني رقابة ذاتية ما عند الكتابة في تجربة محدودة في إطار المجتمع الضيق. أحب أن أدّعي بأن خروجي إلى القاهرة وسع رؤيتي إلى العالم، ورؤيتي إلى الوطن. الحنين الذي يلسع روحي نحو السودان جعلني أتعامل مع الحكايات والأساطير السودانية والمرويات والواقع نفسه: الاشتباك معه، وتفكيكه، وتحليله، أصبح مختلفاً عن مرحلة المعايشة اليومية داخل السودان.
اغتراب لغوي
في ذات الإطار، فضلت مها حسن الروائية السورية المقيمة في فرنسا الحديث عن تجربتها الشخصية ككاتبة عاشت ولا تزال في المنفى، متحدثة عن المنفى كـ”عيش”، وعن المنفى كـ”كتابة”، وقالت: عشت حتى الآن ثلاثة عشر عاماً من المنفى المكاني، والزماني، والنفسي، لافتة إلى أنها ولدت في مدينة حلب لأسرة كردية في مدينة عربية، وكنت أتحدث العربية لا الكردية، وحين أتوجه إلى قريتي الكردية أشعر بنوع من الاغتراب. كان نوعاً من أنواع المنفى أو الاغتراب، وهو ما أطلقت عليه اسم المنفى النفسي، أو الاغتراب اللغوي، وحين كبرت قليلاً، وبدأت أتعلم الكردية بشكل شخصي، بدأت أشعر بنوع من الاغتراب داخل المحيط العربي، كوني لا أشبه جاري العربي مائة بالمائة، وهنا بدأت تظهر ظروف المنفى الأولى وأنا داخل المكان، لذلك أطلقت عليه اسم “المنفى النفسي”.
وأضافت: حملت معي هذا الاغتراب إلى فرنسا، حيث وجدت نفسي سورية في فرنسا، ولم أعد عربية أو كردية، فكأن الاغتراب الجديد ألغى تقسيمه القديم، وعشت اغتراباً لغوياً جديداً ما بين العربية والفرنسية. ومن فرنسا، حصلت على منحة في هولندا، وعشت لعام هناك، وكنت أتكلم الفرنسية، وهناك عشت اغتراباً آخر ما بين الفرنسية والهولندية. في كل مرة الهوية التي كنت أشعر معها بالاغتراب تتحول في مرحلة أخرى إلى هوية بالنسبة لي، فكنت كردية أشعر بالاغتراب ما بين الأكراد، وعربية أشعر بالاغتراب في فرنسا، ثم هولندية أشعر أنني فرنسية. هذا المنفى المتعدد الذي عشته كاد يتلاشى، بعد أن أقنعت نفسي بـ”فرنسيتي”، إلى أن قامت “الانتفاضة السورية”، فوجدت أن ما عشته في زمن سابق يتكرر ثانية، فوجدت من كنت فقدتهم، أو حرمت منهم، أو لا أتواصل معهم إلا في العالم الافتراضي، باتوا جميعهم أو غالبيتهم في أوروبا وتركيا، فالمثقفون السوريون باتوا في أوروبا، ومنهم عدد كبير في باريس، وهنا عشت معهم المنفى من جديد.
واعترفت حسن: أحياناً كنت أشعر بالغربة معهم، فأنا أبدو كمن يشاهد الفيلم مرتين، وكنت أشعر أنني في مرحلة أخرى غير تلك التي يعيشونها، وهذا كله انتقل إلى المنفى في الكتابة، وهنا علينا التفرقة ما بين الكتابة في المنفى وما بين الكتابة عن المنفى.
“تطريز الوطن”
الروائية العراقية إنعام كجه جي، والمقيمة في باريس، أشارت إلى أنه “كان من الطبيعي في الرحلة التي كان مقرراً لها أن تكون لأربع سنوات وبلغت اليوم عامها الأربعين، أن يدور الكثير من أجواء كتاباتي في البلاد التي هاجرت إليها، أو غيرها من المهاجر التي تشظى فيها العراقيون. كتابة المنفى، هي نصوص الابتعاد عن مسقط الرأس، تلك التي تتكوّن خارج حضن الوطن، الحضن الأليف حيناً القاسي أحايين. كثير من الكتاب يقولون إن اللغة تصبح وطناً يلجؤون إليه ويتشبثون به. لهذا نواصل الكتابة بالعربية، مع أن النشر بالعربية لا يوفر للكاتب الآفاق التي توفرها له الكتابة بلغة أجنبية. بالنسبة لي لم أكتب عن المنفى بقدر ما كتبت عن المنفيّين، ولا أبحث عن شخصياتي في الخيال، بل في الواقع، وهذه الشخصيات ليست أكثر تأزماً من أحوال الوطن.”
وقالت: المنفى يغادر حاملاً معه طعنات الحضن الأول، يحاول أن يكتب روحه المكلومة، لأن الكتابة تداوي ويقال إنها تعالج، كما أن كل واحد منّا يحاول أن يقدم هويته وأرواق اعتماده إلى معارفه وجيرانه في البلد الثاني الذي فتح له أبوابه ومنحه الأمان، وهنا يأتي دور الترجمة إذا ما تيسرت للكاتب، كي تكون وسيلة لإيصال صوته إلى “وطنه الثاني”، مع أنني لست مقتنعة بهذا الوصف. باختصار أنت لا تكتب المنفى، أنت تواصل كتابة الوطن، وفيما يخصني أحاول “تطريز الوطن”.
تعويض
أما القاص الفلسطيني المقيم في آيسلندا مازن معروف قال: الكتابة لديّ، كـ”مهاجر” هي شأن شخصي بحت، تعويض عن اعتراف سلطة سياسية بإنسانيتي كفرد، توليد سعادة على مقاس فرد واحد، وإنتاج “إيغو”، وإن مشوهاً ومطموراً في المعمل النفسي، كفرانكشتاين.. الكاتب يظن في مرحلة ما أن العالم سيوقف كل شيء للتهليل لكتابته والتحلق حولها والاحتفاء بها، ثم ينتهي العالم، لكن لا أحد لديه الوقت ليكترث لكل ذلك، لأن القصص الشخصية، الحياتية الفائقة في عاديتها تبقى أكثر أهمية وأولوية للآخرين، فيما تتحول المادة المكتوبة نوعاً من “النيغاتيف” الذي يمكن أن يبيّن تحوّلات الفرد على الصعيدين النفسي والذهني. في أحسن الأحوال يصير لها بُعد سوسيولوجي أو أنثروبولوجي.
وختم: الكتابة تأتي لتسد مؤقتاً خللاً في الذات أو لتصوّب عليه. تأتي متوحشة، نهمة، وجائعة للامتزاج والتماهي والتأثير والسكنى في نفوس الغير. وكتابتي تدلني على عيوبي النفسية. وتقترح عليّ طرقاً لتعقب جذرها في الذاكرة. تقول لي “ربما بسبب هذا أو ذاك”. ومن هنا، أدوّم منطلقاً من مكاني الأول، بواقعيته التي تصعقُ المخيلة وتمزّقها: فلسطين، كما الطفولة وقصص العائلة والمدرسة ويوميات بيروت الإشكالية. كل ذلك يحدث على جزيرة قطبية هي آيسلندا، تحيط حوافها بي، كما لو أنها تحرص على عزلتي، وأن انفرادي بكل نسخ ذاتي السابقة يسير على نحو جيد. بل تقدم لي كل المواد اللازمة لتغذية هذه العلاقة من أدب وكتب فكرية وقصصية وروايات مصورة وكوميكس تمدني بأبعاد إبداعية جديدة. فيما الحاضر من حولي بأناسه الغرباء يوهمني بخلوه من أيّ عيوب وبأنه في ذروة نشاطه، أي أن كل شروط الإرباك والإدهاش متوافرة، لمحاولة الإحاطة بكل ما سبق.