الفلسطينية سارة، والبلجيكية لور، والعراقية مريم، والتونسية سعاد، والسورية الفلسطينية مها. خمس نساء من هذه الجغرافيات، تجمعهن بروكسيل، بحكاياتهن، تراكيبهن النفسية المتعبة، يشكلن في مجموع هذه الحكايات فصول رواية «نساء بروكسيل» للروائية الفلسطينية المقيمة في بلجيكا نسمة العكلوك، وهي الرواية الصادرة حديثاً عن دار “الأهلية” للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمّان، وبالهولندية بترجمة لديزيري كوستر.
ورغم تقاسم الخمسة للحكايات، إلا أن الغلبة الأكبر كانت للحكاية الفلسطينية من خلال شخصيتي سارة ولور، فسارة الفلسطينية خريجة جامعة النجاح في نابلس تعيش رفقة ابنها في منزل ببروكسيل، أما البلجيكية لور فقد سبق وأن عاشت في فلسطين، وبالتحديد في بيت ساحور كمتضامنة مع الشعب الفلسطيني وقضيته، خاصة في بداية الانتفاضة الثانية التي عرفت بـ “انتفاضة الأقصى”، بحيث عاشت في منزل لعائلة فلسطينية من ثمانية أفراد، الأب استشهد في الانتفاضة الأولى وترك زوجته تربي أولادها، وترعى والد زوجها، وتتعرفان إلى بعضهما البعض في مسيرات للتضامن مع فلسطين بالعاصمة البلجيكية مصادفة، ومن ثم تبدأ الثانية بالبحث عن الأولى لتفشي لها سرّاً أرادت لفلسطينية بالتحديد أن تعرفه.
وسارة هي أداة الربط ما بين الشخصيات النسائية في الرواية، فصديقتها العراقية مريم تهاجر من بغداد رفقة أسرتها، وتعيش حالة تخبط حد التمزق الداخلي لعلاقتها مع “برونو” لكونه من ديانة غير ديانتها، إلا أنها تنتصر في نهاية المطاف إلى مشاعرها، وتتزوجه في تحد لنفسها وأسرتها والمجتمع.
وتستقبل سارة في منزلها مها القادمة إلى بروكسيل منذ عام فقط، وتحديداً من مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق، وهي المولودة لأب فلسطيني وأم سورية. تنجح في الفرار من الموت اليومي والمجاني في سوريا، مخلفة وراءها والدها المصاب بمرض ألزهايمر، خاصة بعد أن خرج ولم يعد، وفي بلجيكا تكتشف أن قريبها الذي تعرفت إليه عبر “فيسبوك” يقطن في منطقة مجاورة للمدينة التي تقطن فيها عند سارة، التي تستقبلها بعد أن رفض الكثير من الأسر البلجيكية إبرام عقد إيجار معها تحت وطأة “فوبيا اللاجئين”، إن جاز التعبير، لتبقى وقريبها في حالة بحث تتكل في النجاح بعد مجهود مضنٍ بالعثور على الأب في دمشق، على قيد الحياة.
وليس بعيداً عن المعاناة النسوية متعددة الأشكال، تظهر التونسية سعاد، وهي أيضاً صديقة لسارة والأخريات، وسط دوامة من نوع آخر، حيث تتخبط غير قادرة على اتخاذ قرار إزاء علاقتها بمعشوقها الذي تتمسك به رغم تعنيفه الجسدي واللفظي المتواصل تجاهها، لكنها في النهاية تنتصر لكرامتها، وترفض الزواج منه بعد أن تقدم إليها بشكل رسمي.
وعبر حكاية البلجيكية لور في فلسطين، وكانت وقتها في العشرين تقريباً من عمرها، تلقي العكلوك الضوء على يوميات أسرة فلسطينية مكلومة بأب شهيد، وأم يقع على كاهلها أعباء ثقيلة، وكيف ساهمت هذه الإقامة في التعرف على فلسطين تاريخاً وواقعاً عبر ما عايشته على أرض الواقع، ومن خلال حكايات الجد أبو علي، أي والد الشهيد، هي التي تقع أيضاً في غرام عمر، الابن الأكبر للشهيد.
وهنا تبرز العديد من الحكايات المتناثرة والحقيقية في آن، ومنها حكايات الثماني عشرة بقرة “المطلوبين” لقوات الاحتلال، وهي الحكاية الشهيرة التي شكلت نقطة اتكاء المخرج الفلسطيني عامر الشوملي في فيلمه الشهير “المطلوبون 18″، وهي حكاية تعود إلى فترة الانتفاضة الأولى، أو انتفاضة الحجارة التي اندلعت العام 1987، حيث قرر أهالي بيت ساحور معاقبة الاحتلال اقتصادية بمقاطعة منتجات الحليب الإسرائيلية، والاتكاء على إنتاج ثماني عشرة بقرة باتت مع الوقت، وبأمر عسكري، “مطلوبات” لقوات الاحتلال الإسرائيلي!
وهذه الحكاية كانت الأبرز من بين فسيفساء الحكايات التي بدت مبعثرة، والتي كان بالإمكان توظيفها بما يخدم البنية الروائية للعمل بشكل أعمق، بحيث تشكل أعمدة استنادية إضافية في مبنى الرواية لجهة تشكيل أحداث أكثر حضوراً وتأثيراً، وبحيث لا تبدو حشواً زائداً وفائضاً عن الحاجة، في وقت كان فيه بالإمكان الحديث عن مآسي العراق وسوريا أو حتى التطرق لأحداث تونس، ولعلها بذلك قررت العكلوك الاختباء في المنطقة الآمنة التي تعرف حاراتها وزواريبها وحكاياتها، أي فلسطين، مع أنها عاشت في قطاع غزة، وربما لم تزر يوماً بيت ساحور، أو بيت لحم التي أخذت حيزاً كبيراً كجغرافيا موازية لبروكسيل في الرواية.
وكما حضرت فلسطين بجغرافيتها وتاريخها عبر لور وسارة، تحضر بروكسيل في الرواية أيضاً بذات الألق، وبذات التقنية المتكئة على حكايات بعضها يتعلق بتلك الجغرافيات الضيقة كشوارع بعينها، أو تلك الأكثر اتساعاً كمحطات القطارات والميادين العامة والمتنزهات والحدائق والمقاهي، وغيرها.
ويمكن اعتبار الرواية نسوية، ليس فقط لكون شخصياتها المحورية كسارة والمساندة الأولى لها أي لور، ورفيقاتها من تونس والعراق وسوريا هن من شكلت حيواتهن وحكاياتهن صفحاتها، بل لكون الرواية ناقشت قضايا مجتمعية تندرج جلّها في إطار العادات والتقاليد، ولا زالت تلاحق تلك النسوة كأشباح في أزقة ضيقة، أو كوابيس في أحلام يقظتهن حتى في بروكسيل الحلم، وحتى حين غادرن مكامن تأصّل تلك المكوّنات التي من شأنها أن تجعل المرأة هامشية منكسرة بل ومهشمة، حيث برز الحديث عن الحجاب في أكثر من موضع، منها أن البلجيكية محجبة وفصلت من عملها في بلدها الأوروبي على خلفية حجابها، في حين لم تستطع سارة الفلسطينية غير المحجبة العمل في مؤسسة إسلامية الطابع في ذات المدينة الأوربية لكونها “سافرة”، بل إن حجاب لور ساهم في خلق فجوة ما بين وبين ابنها توماس.
وتوماس هذا كاره للعرب وحتى الفلسطينيين ممن عاشت بينهم لفترة طويلة ولا تزال تناضل والدته من أجل عدالة قضيتهم، وذلك تأثراً بوجهة نظر صديقه الإسرائيلي ميكائيل الذي تعرف عليه في المدرسة، ونقل إليه شيئاً من أفكاره، دفعت ابن لور إلى اتهام العرب والفلسطينيين بالعنف، ولذلك تركت له فيلماً حول فلسطين ونضالات قرية النبي صالح، شمال غربي رام الله ضد الاستيطان، والذي لم يؤثر في تغيير شيء من أفكاره، رغم تأثر صديقته وشقيقته بما جاء فيه، منتقداً الحجاب وواصفاً إياه باللباس القبيح، هو الذي قال بأن “العرب يرسلون أطفالهم إلى الموت”، وبأنه لن يكون “متخلفاً أو عربياً”، وبأنه كان سيكره نفسه لو ولد “عربياً”، على اعتبار أن الفلسطينيين “يرسلون الصواريخ إلى تل أبيب ويقتلون الأبرياء”.
لكن توماس هذا لم يكن يعرف حقيقة جيناته الأصلية، وهي الحقيقة الصادمة في نهاية الرواية، والتي قد تبدو متأثرة بتلك الحكايات حول جدلية العلاقة ما بين الفلسطيني والإسرائيلي، أو ما بين الفلسطيني والمؤيد لإسرائيل أو للصهيونية، وأبرزها ما جاء في رواية غسان كنفاني الشهيرة «عائد إلى حيفا»، مع اختلاف السياقات الزمانية والمكانية وطبائع العلاقات وما ترتب عليها، وهو ما من شأنه أن يفتح نقاشاً كبيراً في هذا الجانب، حول الفلسطيني “الطاهر الثائر الذي لا يخطئ”، والفلسطيني “الإنسان” الذي يصيب ويخطئ، ويحب الحياة، وقد يستلم ذات مرة أو مرات لرغباته كبقية البشر.