تروي منهل السّراج في روايتها “صُراح” الصادرة عن داري “سرد” و”ممدوح عدوان” حياة مهاجرين في السويد، تصور تشابك علاقاتهم مع بعضهم البعض ومع بلدهم سورية، ومع أبنائهم. وينطوي بحثها في حياة المهاجر على أسئلة عن المكان والهوية والانتماء.
كتبت السّراج روايتها باستخدام صوتٍ مفردٍ ولاهث، يسرد حكاية البطلة صُراح، في أسلوب مسترسلٍ ومتداخل زمنيًا. يشرعُ قلق الكتابة الرواية، ويستدعي هذا القلق ملجأً يعرفهُ الكتّاب جميعًا في لحظات مشابهة، وهو الذكريات. فتبدأ صُراح المهاجرة إلى السويد حديثها عن حياتها في سورية، عن عماتها وأبويها وزواجها المتكرر كلّما ألحّ عليها المجتمع. فيما تتساءل صُراح حيال الحرب في بلدها، ينطلق الجناح الثاني للنص، وهو جبران الذي يُخبئ في داخلهِ رغبة بصُراح ويتساءل عن تخليص العالم من الأخطار، على الرغم من معاناة ابنه من مرض التوحّد. تبني السّراج شخصية حالمة منذ صفحات التقديم الأولى لجبران، حيث يفكر بصُراح التي تعمل مساعدة لابنهِ منذ سنوات، ويترقب بخفرٍ انتباهها إليهِ.
تجعل السّراج من سورية، لا مسألة مشتركة بين البطلين وحسب، وإنّما معيارًا لسلوكِ يُفاضل الحنين بينهما. ومجالًا لتقول أفكارًا، بلسان شخصيتين مختلفتين، حيال الأوطان والنجاح. بينما يحرك صُراح هوس صنع كتاب جديد، يحرك جبران قلق عاطفي حذر. تتوه السّراج عن حياة بطلتها عبر انشغال بتعريفات عن الضحية والظالم، تجترح مفاهيم وتجادل في اصطلاحات عن التآمر والشعوب والثورات، لا تعنيها معرفة القاتل أو المقتول وإنّما ترى فعل القتل مجردًا، لا يعنيها النظام السوري، وإنما تفكر بأولئك المحاصرين في سورية وفي خارجها وقد ضاقت بهم الأرض. باتت صُراح ترى قرار هجرتها قرارًا سخيفًا، كان “الإهمال” في بلدها قد دفعها إليهِ. بعدما عبرت خلال السنوات العشر من إقامتها ما يعبر بهِ الغريب، بدءًا بمقارنة الكرون بالليرة السورية، انتهاءً برغبتها بالعودة إلى بلدها، وشعورها بضيق العالم خارج حدودهِ. عبورًا بارتكابات صغيرة أتاحتها لها الحرية في البلد الغريب، ودفعتها إليها حاجتها إلى الحب والهرب المؤقت من الأمومة لثلاثة أولاد متطلبين.
يلخص قولها “الجرح بالتعريف: سوريا والذاكرة” هموم الكاتبة كافةً، تهرب إلى ذكرياتها الأولى في البلد الجديد من ذكرياتها الأقدم في بلدها المشتعل المفقود الغائب. تقصر وجودها على الكتابة، وهذا بذاته، يشي بأزمة شائكة، تنفي حياتها خارج الكلمات، فالكتابة عشقها ومرادها وكتبها هم أولادها. تنحصر رغباتها على الأوهام وحياتها الواقعية على الأفكار. يبلغ الفصام بينها وبين الواقع ذرىً متعددة. فالأم الخمسينية، لا تجد جدوى من حياتها خارج خطة كتابتها. قبل أن تحجز بطاقة سفر إلى سورية، وتواجه الهواجس الحقيقية عوضًا عن نسخها عبر آلية الكتابة الثقيلة.
يعيش كل من جبران وصُراح في دوامة عذاب خاصة بهِ، إذ تغلق حلقة التوحد المضنية على مصير جبران، وتأخذ علاقته مع ابنه المتوحد شكل علاقاته مع الموجودات. وفي حماه تواجه صُراح أمكنة ذكرياتها، المدرسة والعمل والشوارع والبيت، وما تضمه هذه الأمكنة من أحداث شكلت وعيها القديم إزاء العالم. تحضر في حماه شخصيات جديدة تخدم أفكارها، خصوصًا شخصية شجاع الذي يقول تارة إنّه نسي أمر سجانهِ، وتارة أخرى يتساءل عن عدم انتفاض مدينته وبقائها مثل “خادمة بليدة”. لربما يجيء تناقض شخصيات السّراج كونها تمنحهم شيئًا من أفكار الراوية ثمّ لتنتزع تلك الشخصيات قولها الخاص. في حماه ترى الناس محض موضوع للكتابة! تمضي شهرًا هناك تختصره الكاتبة اختصارًا شديدًا. لتعود بطلتها إلى مغامراتها في أوروبا، تجلس في المقهى وتنتظر الإلهام. تعود إلى ذكرياتها مجددًا، كما لو أنّ ذهابها إلى سورية كان أحد ضروب الوهم الكتابي، حدًا يجعلها تعود إلى سورية برفقة ابنتها، كي تلاقي موت شقيقها.
تتلخص حياة الهجرة التي تقدمها السّراج عن حال صُراح، على أنّها وحيدة ترافق وحيدين، حتى لا يستطيع أحدٌ تقديم العزاء للآخر، وإنّما كلّ يفرّ إلى وحدتهِ. يجزم صوت الراوية المتعب على أنّ الجميع وحيدون في أحزانهم. لا تدخل الشخصيات صراعًا مشتركًا، وإنّما هي شخصيات توافقية، تواجه أزمات منفصلة. لا تشهد الرواية دراما فنية، وإنّما دراماها مقتصرة على الشكوى.
نعرف أنّ جبران ترك سورية، لسببين مترابطين، سؤال الأمن عنه وهجر امرأة أحبها لهُ. يخبر جبران صُراح عن رغبته بها، عبر الفيسبوك وفي واحدة من سكرات حاجتهِ، ثمّ يسألها بكلمات تهزها، لمَ لا نلتقي؟ بينما كانت تسعى إلى توصيف حال النساء وتتساءل “كم لها من صفات تلك المرأة الوحيدة في جهات العالم؟” تضيف الكاتبة شخصية سارة لتراقب، باستخدامها، شخصيتيها الرئيسيتين ولتدفع الحدث الذي من المفترض أن يحدث بينهما. ترى سارة جبران عصيًا عليها، وتقدم عبرها السّراج نموذجًا غريزيًا مقابلًا لصُراح المتعالية. لتشكل علاقة السيدتين مع أولادهن مرآةً صارمة لذواتهن.
إنّ صُراح التي دفعها الإهمال للهجرة، وجدت نفسها في مكان لا يكف عن اختبار مقدراتها. لتجد تلك المرأة وراء كل اختبار وحدةً تتسع، وتنتظر الحبّ، الذي يجيئها من الذاكرة ويتشكل في الكتابة.