للسنة الثانية على التوالي، استطاع مهرجان إيليا للأفلام القصيرة، الذي أسسه مجموعة من الشباب في قلب مدينة القدس، استقطاب العديد من الأفلام الفلسطينية والعربية المميزة حديثة الإنتاج، محققين بذلك حضوراً محلياً كثالث مهرجان أفلام في فلسطين، بعد مهرجان “أيام فلسطين السينمائية” الذي يقام بعدة مدن فلسطينية في الضفة الغربية وغزة والداخل المحتل عام و٤٨، ومهرجان “حيفا المستقل للأفلام”، وكذلك حضوراً عربياً من خلال الأفلام العربية التي تستضيفها مسابقات المهرجان.
في دورته الأولى عام ٢٠١٨، عرض المهرجان ٤٨ فلماً قصيراً من فلسطين والعالم العربي، ما بين روائي ووثائقي ورسوم متحركة، اختار منظموه، وهم شباب مبادرة “صار عنا سينما” المستقلة، ومنذ دورته الأولى بأن يكون مهرجاناً عربياً يعرض حصراً أفلاماً قصيرة غالبيتها عربية باستثناء فلمين في هذه الدورة من نيبال وفرنسا. واشتركت عدة مؤسسات ثقافية فلسطينية بدعمه ليكون منصة ثقافية فلسطينية مستمرة لاستضافة الأفلام في القدس.
ما يواجه المهرجان الفتي من تحديات، هي ما يواجهه السكان الفلسطينيون في القدس، مركز الصراع على الهوية مع الاحتلال الذي يحارب كل ما هو عربي في المدينة، في مساعيه الدائمة لتهويدها، بالرغم من ذلك لا يزال المقدسيون يتشبثون بالهوية، والمكان، وحب الحياة، ولا يكتفون، رغم كل التضييق، بأن يصنعوا أفلاماً في المدينة المحتلة وعنها، بل ويستضيفون السينما العربية في مدينتهم المقدسة.
أمور عديدة تميز الدورة الثانية للمهرجان، من بينها نوعية الأفلام التي تم انتقاؤها للمشاركة بالمسابقات، وصناعها الذين يغلب عليهم الشباب من حيث الفئة العمرية، أيضاً استقطاب المهرجان لأفلامٍ من دولٍ تشارك للمرة الأولى من المغرب العربي كتونس، والمغرب، والجزائر ودولٍ أخرى عربية وغير عربية.
ثلاثة أفلام لثلاث صانعات أفلام تونسيات
ما لفتني حقيقة من المشاركة التونسية تحديداً، هي ثلاثة أفلام لثلاث صانعات أفلام، هي «إخوان» للمخرجة مريم جبور، «الهدية» للطيفة دوغري، و«بطيخ الشيخ» لكوثر بن هنية، تميزت ثلاثتها بسلاسة سردية، ولغة بصرية ناضجة، ومعالجة واعية لمحتوى الحكاية، وموسيقى منسجمة مع سياقات السرد الروائي، وقدمت ثلاثتها نقداً واضحاً وجريئاً للبنية الاجتماعية والدينية للمجتمع التونسي، حكاية اثنين من الأفلام حملت ثيمة الجهاديين التونسيين العائدين من سوريا وهما «بطيخ الشيخ» و«إخوان»، فيما سياق حكاية الفيلم الثالث «الهدية» ذات طابع اجتماعي، يعرض لواقع امرأة في مجتمع تتعرض لظلم اجتماعي واستبداد السلطة ورجال الأمن، وهو سياق يذكّر بما سبق لكوثر بن هنية أن قدمته في اقتباس عن قصة حقيقية حدثت أثناء الثورة التونسية، في فيلمها الروائي الطويل «على كف عفريت»، الذي افتتح قسم نظرة ما في مهرجان كان قبل عدة أعوام.
تذّكر الأفلام الثلاثة أيضاً بشكل السينما التونسية ومضامينها، التي تبدو مقلة بكمية الإنتاج لكنها نوعية فيما تقدمه من نقد قد تراه مجتمعات عربية أخرى كسراً لتابهوات لا يجري المساس بها عادة، خصوصاً ثالوث الدين والجنس والسلطة السياسية، وخاصة حين يأتي هذا النقد من صانعات أفلام، نساء.
وبعكس ما حدث في مصر، حيث انعكست نتائج انقلاب العسكر على ثورة يناير على السينما المصرية، وأبعدتها أكثر عن سياقات النقد الجاد والمباشر، الذي أسس له مخرجون مصريون من أمثال الراحل وأستاذ السينما الواقعية المصرية عاطف الطيب، عكست الثورة التونسية روحاً ثورية على السينما وصناعها بعد سقوط نظام بن علي، فغدت ميزة معظم الأفلام التونسية اللاحقة للثورة أكثر نضجاً وجرأة في التعرض لمفاهيم الواقع الاجتماعية والدينية والسياسية.
«إخوان» لمريم جبور
يسرد الفيلم حكاية عائلة شاب ريفي عادَ تواً من صفوف الجهاديين العرب في سوريا مع زوجته القاصر التي تعرّف إليها هناك، وبحبكة درامية تجري أحداثها بوقت قصير، يلقي الفيلم الضوء على قضية الجهاديين الذين التحقوا بالتنظيمات الدينية المتطرفة، حيث شكّل الشباب التونسيون قبل أعوام قليلة، النسبة الأكبر من الملتحقين بالتنظيمات الجهادية في سوريا وتحديداً تنظيم داعش المتطرف، تلك القضية التي أثارت حينها أسئلة كثيرة عن سبب تصدر هؤلاء الجهاديين التوانسة، والدوافع التي حملت هؤلاء الشباب للذهاب، ولم يلتفت الكثيرون في الإعلام لمشكلة العائدين منهم، والذين ذهبوا شباباً صغاراً لا يعي معظمهم ما هو ذاهب إليه، وعودة من بقي منهم لتونس كمقاتلين مدربين ومسلحين بأفكار متطرفة ضدّ أنفسهم ومجتمعهم.
«بطيخ الشيخ» لكوثر بن هنية
وبنفس ثيمة الجهاديين العائدين من صفوف التنظيمات المتطرفة إلى تونس، تروي كوثر بن هنية، مخرجة «شلاط تونس» و«على كف عفريت»، حكاية أكثر تعقيداً من حيث بنية السرد، وبلغة بصرية ناضجة تميزت بها بن هنية، وبسلاسة في تبسيط تعقيدات الحكاية التي تأخذ طابعاً ساخراً وكوميدياً، ليست ببعيدة عن الواقع، عن حكاية الشاب العائد من سوريا، والذي يعيش متخفياً في إحدى المساجد، ويحيك مؤامرة ضد إمام المسجد الذي أواه بعيداً عن أعين الأمن التونسي.
«الهدية» للطيفة دوغري
في سياق أكثر اجتماعي، تروي المخرجة حكاية لا تقل سلاسة وذكاء في طريقة السرد واللغة البصرية عن الفلمين السابقين، حيث لم تكن شخصية الفيلم الرئيسية مريم تعتقد أن هديتها لزوجها في الذكرى السنوية الأولى لزواجهما، ستجلب لها كل هذه المشاكل والتعقيدات في حياتها الزوجية حين تقرر إعادة عذريتها كهدية لزوجها صبري سائق التاكسي المحافظ المتدين. طارحة أسئلة جريئة حول رؤية المجتمع المحافظ لمفهوم العذرية والشرف وغيرها من مفاهيم ساذجة وضعتها المفاهيم الاجتماعية في مكانة عالية تتفوق على أسس العلاقة الزوجية والعاطفية.
ولا شك أن هذا الفيلم يدخل في سياق الإجابة عن أسئلة الفيلمين السابقين، حول المضامين الاجتماعية والدينية التي تساهم في تحول الجهاديين التونسيين إلى ظاهرة تستحق التساؤل بعيداً عن السياسية، هل يمكن للنظم الاجتماعية المنغلقة أن تكون أحد أسباب صناعة الجهاديين؟
ليست هذه الأفلام الثلاثة وحدها هي ما يميز مجموعة كبيرة من الأفلام الستين المشاركة في المهرجان، قادمة من ست عشرة دولة بالإضافة إلى فلسطين، والتي ستعرض خلال الدورة الثانية من مهرجان “إيليا للأفلام القصيرة” الذي افتُتح في الثاني عشر من هذا الشهر وينتهي اليوم، في السادس عشر، فقائمة الأفلام المميزة التي ستعرض في مدينة القدس أطول من أن يتسع لها مقال واحد.
المهرجان المقدسي مبادرة جريئة تستحق الدعم منّا جميعاً، لكسر الحصار على القدس والمقدسيين، وتعزيز الحضور الثقافي العربي في المدينة المحتلة، وتحمل للمقدسيين أفلاماً غالباً لا يتمكنوا من مشاهدتها في صالات سينما أو على الإنترنت، لكونها أفلام مهرجانات.
هي دعوة للفلسطينيين في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٤٨، ومن يستطيع الوصول للقدس من الضفة الغربية، أن يدعموا بحضورهم هذه المبادرة السينمائية الناشئة والمميزة في القدس، ولا يفوّتوا فرصة مشاهدة أفلام عربية مميزة، في مركز يبوس الثقافي، والمركز الثقافي الفرنسي، والمركز الثقافي التركي، وجمعية برج اللقلق، ومؤسسة المعمل، وجمعية الشابات المسيحيات، حيث تعرض الأفلام.