نُشرت هذه المقالة في عددي 5 و 12 أغسطس/آب 2019 في مجلة “نيويوركر” تحت عنوان “سيدة الماضي”.
بقلم روث فرانكلين
يُقام معرض وارسو للكتاب في شهر مايو/أيار من كل عام، في الملعب الوطني الذي بُني على شكل سلة باللونين الأحمر والأبيض اللذين يشكلان العلم البولندي. في صباح سبت مشرق، تجمعت مئات البالونات البرتقالية في أيد أطفال بعد أن وزعتها شركة متخصصة في الكتب الصوتية، في حين تفحصت حشود القراء أكشاك دور النشر التي قدِمت من كل أنحاء أوروبا. كان لمعهد فريدريك شوبان الوطني بيانو كبير عزفت عليه امرأة شابة موسيقى “بوهيميان رابسودي”. في معرض كتب متنقل، استعرض بائع ذو شعر بني طويل ونظارات عصرية نسخة من “فوريفر بت” لأحد الزبائن، وهي مختارات من مجلة كويرية تحمل الوصف التالي “بحجم الجيب، وردية اللون، ومثلية جداً”. امتد طابور طويل خارج ساحة عرض دار النشر العريقة “فيدانيتشتفو ليتيراسكي” ومعارض أخرى، في انتظار الحصول على توقيع أولغا توكارتشوك، التي تمكنت خلال السنوات الأخيرة من تصدر واجهة المشهد الأدبي في بولندا، وكثيراً ما يُذكر اسمها بصفتها مرشحة لنيل جائزة نوبل للأدب.
كانت توكارتشوك تجهز نفسها في الخارج، إذ أن الحشود تصيبها بالقلق. في الليلة السابقة، واجهت صعوبة في النوم بعد قضاء معظم الليلة خارجاً. تبدو توكارتشوك البالغة سبعة وخمسين عاماً صغيرة الحجم ومثيرة للدهشة، فهي تتمتع بطاقة مركزة تذكّر بطاقة مدربي اليوغا. تفضل الملابس المنسدلة بطريقة فنية إلى جانب الأساور متعددة الطبقات. كان شعرها البني الطويل قد تلوّى في ضفائر عدة تجمّعت أعلى رأسها يتخللها الخرز الأزرق. في حين يحمل فمها عادة ابتسامة ساخرة.
رافقتُها تحت شِباك السلة التي بني الملعب على هيئتها، بينما كانت تدخن سيجارة فوغ رفيعة جداً. افتتح الملعب عام ٢٠١٢، وأصبح مؤخراً نقطة أساسية لمسيرة الاستقلال السنوية التي تنطلق في نوفمبر من كل عام، وهي المسيرة التي حمل خلالها اليمينيون المتطرفون والقوميون لافتات وشعارات مثل “بولندا للبولنديين” و”أوقفوا الأسلمة”. يمثل هذا المبنى بديلاً لملعب بُنيَ في زمن الشيوعية، كنتُ شهدتُ على تهالكه في منتصف التسعينات، حين قضيتُ معظم العام في بولندا لتعلم اللغة البولندية قبيل تخرجي من الجامعة. مع تحول بولندا إلى دولة رأسمالية، تحوّل المكان إلى سوق مفتوح للبضائع المستعملة والمقلدة، وكنتُ قد تعرضتُ لتحذيرات من زيارته بسبب شهرته المرتبطة بالقمامة والجرائم.
أنهتْ توكارتشوك سيجارتها، فيما نشرت الريح كرات الزغب الرمادي المنبعث من أزهار أشجار الصفصاف والحور التي تُزهر في أنحاء وارسو خلال فصل الربيع. تخلصت توكارتشوك من رذاذ الأزهار الذي عَلِق بفستانها الأسود الفضفاض، وتوجهت إلى الداخل.
دوّت ضجة في صفوف طوابير الراغبين في الحصول على التوقيع، فيما تمكن أحد المنظمين من إيصال توكارتشوك إلى صالة انتظار. يمكن التعرف عليها بسهولة بفضل ضفائرها التي حصلت عليها بقرار سريع قبل أكثر من عشرة أعوام، عندما أصابها الضجر بعد أن أصيبت بالضجر بسبب إضراب في المطار في بانكوكك، ما أتاح لها فرصة قضاء بعض الوقت في المدينة. كانت قد سمعت أن هذا النوع من الضفائر شاع بين القبائل التي عاشت في بولندا قبل المسيحية. أخبرتني ضاحكة فيما بعد أن “هناك كلمة لاتينية لذلك: بليكا بولونيكا، وهو وصف تحقيري يشير إلى قلة النظافة الشخصية”. أصبحت توكارتشوك معروفة بالتنقيب عن أشياء منسية من تاريخ بولندا وإعادة تشكيلها بطريقة عصرية.
اشتهرت توكارتشوك عالمياً بفضل سادس رواياتها “رحلات جوية”، التي تم نشرها في الولايات المتحدة العام الماضي بعد ما يقارب العشر سنوات على ظهورها باللغة البولندية، وقد حصلت على جائزة مان بوكر العالمية لعام ٢٠١٨. تقول توكارتشوك أن كتابها ينتمي لتصنيف أدبي عابر للفئات، إذ يجمع بين الخيال والتاريخ والمذكرات والمقالات، هي تشبهه بالكوكبات النجمية. فالرواية منكبّة على فكرة الترحال، فيما جرى تخصيص كل جزء منها لكلمة أو صورة واحدة، ما يعطي القارئ فرصة اكتشاف الروابط الخاصة بينها.
تقول: “عندما أرسلتُ هذه الرواية لدار النشر للمرة الأولى، اتصلوا بي وسألوني إذا ما كنتُ قد أرسلتُ الملف الإلكتروني الخاطئ، لأنها لم تكن رواية.”
يُعدّ أسلوب الكتابة المبني على أجزاء منفصلة مناسباً لرواية من بولندا، إذ لطالما تغيرت حدود البلاد على مر القرون، كما عاشت مجموعات عرقية متعددة فيها جنباً إلى جنب، كالبولنديين والأوكرانيين والليتوانيين والألمان والروثنيين واليهود، بالرغم من عدم انسجامهم من حيث اللغة أو التجارب. تعتقد توكارتشوك أن الأدب في أوروبا الوسطى يميل إلى “طرح التساؤلات المرتبطة بالواقع، كما أنه فاقد للثقة فيما يتعلق بالأمور الدائمة والمستقرة. في رواية “رحلات جوية”، تقول إحدى الشخصيات إن “في الأفكار المجمعة لا في التسلسل تكمن الحقيقة.”
في بولندا، لا يمكن لأي حديث تاريخي عن التشتت والتنوع والتمازج تجنب السياسة، وهو ما يعكر صفو الخرافة القديمة التي تتحدث عن أمة كاثوليكية متجانسة عرقياً. يتزايد خلال السنوات الأخيرة الحديث عن هذه الخرافة القومية، خصوصاً منذ عام ٢٠١٥ الذي شهد وصول حزب القانون والعدالة المحافظ اجتماعياً إلى الحكم، بفضل سياسته المعادية للهجرة والداعية لما يسمى بالوحدة الوطنية. رفضت الحكومة منذ ذلك الحين قبول اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وناهضت مساواة حقوق الأزواج المثليين، كما مررت قانوناً يمنع الحديث عن تعاون بولندي مع النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
في مقالة رأي ظهرت مؤخراً في صحيفة التايمز، رثت توكارتشوك المناخ السياسي في البلاد قائلة: “يقوم التلفزيون البولندي الرسمي الذي يحصل من خلاله الكثير من البولنديين على الأخبار بتشويه منظم يستخدم لغة عدوانية وتشهيرية ضد أي معارض سياسي، وضد كل من يفكر بطريقة تختلف عن الحزب الحاكم. تخاطب أعمالها عادة قضايا لها أراء حاسمة بشأنها. فهي نباتية تقول أن الأرق يصيبها بسبب معاناة الحيوانات في المسالخ ومزارع الإنتاج، وقد نشرت في العام ٢٠٠٩ قصة لغز جريمة غير تقليدية ظهر فيها اهتمامها بالبيئة وحقوق الحيوانات، كان هذا في كتابها “سِر بمحراثك على عظام الموتى” الذي يصدر هنا في أغسطس/آب عن دار ريفيرهيد للنشر وبترجمة نتونيا لويد جونز، التي سبق وترجمت اثنتين من روايات توكارتشوك.
على النقيض من حالة السياسة في الولايات المتحدة، فإن البولنديين منقسمون تماماً، إذ يحظى حزب القانون والعدالة بشعبية بين أوساط التقدميين الذين ينتمون عادة لفئات عمرية صغيرة من سكان المدن وقاطني الجزء الغربي من البلاد، الساعين للتسامح والتنوع الثقافي ولإجراء محاسبة صادقة لتاريخ البلاد. هؤلاء هم قُرّاء توكارتشوك. “حتى أصدقائي الذين لا يقرأون كثيراً، والذين لا يتابعون الكتّاب والشعراء الشباب، يقرأون أعمال أولغا توكارتشوك.” تخبرني زوفيا كرول محررة مجلة ديوتوغودونيك الأدبية الإلكترونية.
اختفت معالم القلق والتوتر من وجه توكارتشوك فور ظهورها لتحية قرّائها، إذ تحدثت بحماسة والتقطت صور السيلفي على طاولة التوقيع. أحضر لها أحد المعجبين كتاب تصاميم هندسية تخيلية لم يتم بناء شيء منها، آملاً بأن يشكّل هذا مصدر إلهام لها. كما قدم لها أمين مكتبة من مدينة بروشكوف الواقعة على أطراف وارسو نسخة من الترجمة البولندية المنشورة لكتاب يروي مذكرات أحداث عاشها أفراد المجتمع اليهودي في البلدة، قبل أن يقضي عليهم الاحتلال النازي عام ١٩٤١.
استغرق توقيع الكتاب قرابة الساعتين، نهضت بعدها توكارتشوك عن الطاولة وتأوهت متظاهرة بالتعب، فيما بدت عيناها في حالة من التأهب. تقول “أحصل على الطاقة بمجرد معرفة أن الناس ينتظرون كتابي القادم”.
تعيش توكارتشوك في وارسو في جنوب غرب بولندا، ولم تتواجد في المدينة من أجل معرض الكتاب فقط، بل من أجل مهرجان أدبي يدعى أبوستروف، ويقام على المسرح العالمي، الذي يعد مركزاً للفنانين والمفكرين على اختلافاتهم. تتولى توكارتشوك هذا العام مسؤولية تنظيم سلسلة من الندوات التي تقام على مدار أسبوع ضمن المهرجان، تتم خلالها استضافة كتاب ومفكرين بولنديين بارزين، وقد حضرت كل ندوة تقريباً، ودوّنت ملاحظاتها في دفتر أسود صغير، كما قدّمت بعض المساعدة للمتحدثين الذين بدا أنهم يجدون صعوبة في التعبير عن أفكارهم. لمهرجان هذا العام، اختارت موضوعاً بعنوان “هذا ليس العالم الممكن الوحيد”، وقد ركّزت إحدى النقاشات على ما قد تبدو عليه بولندا إذا ما تحررت من القيود الدينية. نقاش آخر سلط الضوء على التغير المناخي وعدد من القضايا البيئية الأخرى. بدلاً من تقديم باقات الزهور التقليدية، تم منح كل من أعضاء لجنة النقاش شتلة من شجر الزان.
في إحدى الأمسيات، خاض عدد من التربويين جدالاً يتعلق بمستقبل نظام التعليم المدرسي في بولندا. فقد عبّر المدرس بيوتر لاسكوفسكي، الذي ما زال في بداية الأربعينات من العمر، عن اشمئزازه من استخدام كلمات “إبداع” و”ابتكار” في عالم الأعمال. حتى وقت قريب، كان لاسكوفسكي مديراً لمدرسة ثانوية اتخذت فيها القرارات من خلال تصويت مشترك بين هيئة التدريس والطلاب. قال أن على المدارس الاهتمام بتحرير الطلاب من التفكير بسوق العمل، وأن تحضّرهم بدلاً من ذلك لتغيير شكل العالم. ارتدى هذا المعلم سترة عصرية زرقاء، واستمر في الحركة يميناً ويساراً بالكاد متحكماً بنفسه أثناء الحديث. تفاعلَت توكارتشوك معه من مقعدها المعتاد في وسط السطر الأول. بعد الندوة، وأثناء تجمّع في حديقة المسرح، عرّفتني توكارتشوك على لاسكوفسكي بصفته الرجل الذي أدار “أكثر المدارس فوضوية ضمن النظام.” قبل أن يجيب قائلاً: “أخشى أنها ليست بتلك الفوضوية.” ارتشفت توكارتشوك مشروب فريتز كولا الخاص بالحمية، وهو مشروب مدعم بجرعة حادة من الكافيين تنتجه شركة ألمانية، قبل أن تسأل لاسكوفسكي: “إلى أي مدى تشعر بحرية فيما تخبر طلابك به؟”. قدّم حزب القانون والعدالة منهجاً دراسياً رسمياً إجبارياً، فدروس التاريخ مقتصرة على التاريخ البولندي، وتتبنى وجهة النظر القومية صراحةً، بينما تركز دروس الأدب على الأدب البولندي الكلاسيكي، مثل روايات هنريك سينكيفيتش التاريخية، بدلاً من العظماء غير التقليديين أمثال فيتولد غومبروفيتش وبرونو شولز. هزّ لاسكوفسكي كتفيه قائلاً: “لا يمكن اعتقال مدرس ينشق عن الخط الرسمي، بل يتم الاكتفاء بتهديده ربما بتقاعد مبكر. على الرغم من صعوبة حدوث ذلك في وارسو.” مع ضحكة قاتمة أضاف: “إذا كنتَ معلماً في بلدة صغيرة أو في قرية محافظة جداً بكاهن يلقي المواعظ الدينية في المدرسة، قد يتغير الحال بشكل كبير.”
كان حديثي مع الأشخاص ذوي الميول اليسارية يتلخص في أنك كنتَ قادراً على القيام بأي شيء دون محاسبة، بعكس اليوم. إذ أن معظم المؤسسات الثقافية تعتمد على التمويل الحكومي ما يعرضه للضغوط السياسية. في شهر ديسمبر الماضي، قاومت كرول محررة مجلة “ديوتوغودونيك” محاولات فرض الرقابة على المجلة ما دفع بالحكومة لإيقاف تمويلها، ما أوقف صدورها لعدة شهور نجحت خلالها كرول في الحصول على دعم حكومة مدينة وارسو التي تميل إلى الليبرالية.
في الإعلام، يزداد الإقبال على خيار العمل دون الدعم الحكومي. فقد حصل فيلم وثائقي عن التحرش بالأطفال من قبل رهبان كاثوليك على تمويل جماعي، وقد تم نشره عبر يوتيوب ليحصل على أكثر من عشرين مليون مشاهدة خلال أيام قليلة، وهو ما يعادل نصف عدد سكان بولندا. تخبرني المحاضرة في القانون وعلم الجريمة في جامعة وارسو مونيكا بلاتك أنها غير قادرة على الاستماع إلى الإذاعة الرسمية، وذلك فيما تتحضر لمتابعة إحدى حلقات برنامج “راديو لاب” عبر إذاعة WNYC الأمريكية، التي أرادت أن تشاركها مع توكارتشوك. تترشح بلاتك للحصول على مقعد في الانتخابات البرلمانية الأوروبية عن حزب “فيوسنا” التقدمي الجديد، ولم يتبقَ على الانتخابات سوى يوم ونصف اليوم.
في نهاية الأمسية، قدّم الكاتب البولندي أندريه ستاسيوك قراءة لأشعار آدم ميتسكيفيتش، فيما عزفت فرقة الروك الأوكرانية “هيداماكي” موسيقاها في الخلفية. وُلد ميتسكيفيتش عام ١٧٩٨، قبل وقت قصير من انقسام بولندا إلى ثلاثة بلدان، من قبل بروسيا والإمبراطوريتين الروسية والنمساوية. وكان ميتسكيفيتش قد انخرط في المحاولة البولندية غير الموفقة للحصول على الاستقلال، وقضى معظم حياته في المنفى. تتسم أعماله بالوطنية الشديدة حتى أنه يعد الآن شاعر بولندا الوطني. ركّزت اختيارات ستاسيوك على الأراضي التي تغنى بها ميتسكيفيتش، وتضم أجزاء كبيرة من أوكرانيا وليتوانيا وروسيا البيضاء. بدأ ستاسيوك النحيل الذي شارف على نهاية الخمسينات من عمره بقراءة السطور الأولى من السوناتا الرومانسية “سُهوبُ أكيرمان” باللغة البولندية، وهي تصف الطبيعة في شبه جزيرة القرم. مع ارتفاع أصوات الأبواق والتحاق الطبول بها، قرأ ستاسيوك الأبيات ذاتها باللغة الأوكرانية مقدماً الراب حيناً ورافعاً صوته حيناً آخر. تمايلت توكارتشوك مع الموسيقى إذ تقول وهي تحكّ ذراعها: “تصيبني القشعريرة عندما أسمع هذا. هل يمكنك رؤية الشعار على قميصه؟”
كنا بعيدين عن المنصة ما منعني من تمييز الشعار. لكن بدا أنه احتوى على نسر من شعار النبالة البولندي، وكان هناك شيء آخر. تقدمتُ عبر الحشود حتى وقفتُ أمام ستاسيوك مباشرة، فكان التصميم على هيئة طائر مرسوم بجناحين متماثلين إلى جانب ما يبدو أنه ملعقة خشبية. التقطتُ صورة وعدتُ إلى توكارتشوك.
قامت بتقريب الصورة وقالت: “هذا شعار الرّمح الثلاثي الأوكراني”. شبّكت أصابعها وحركت يديها للتأكيد على ما تقول: “هاتين الثقافتين متشابكتين هكذا، ولا يمكن الفصل بينهما.”
تشكّل العلاقة بين البولنديين والأوكرانيين صميم الرواية التي تكتبها توكارتشوك هذه الأيام، وهي نابعة من تاريخ عائلتها. إذ ينحدر والدها من سلالة بولندية وأوكرانية وروثنية، وقد قدموا من قرية في إقليم غاليسيا. “كان بعضهم أكثر وعياً بالهوية الوطنية، فيما لم يكترث بعضهم الآخر.” أخبرتني بذلك في الصباح التالي أثناء تناولنا الشاي في رواق فندق صغير وسط وارسو. (تتحدث توكارتشوك الإنجليزية بطلاقة شديدة، فيما تتمتع لغتها البولندية بأناقة ووضوح غير معهودين، وقد تحاورنا بكلتا اللغتين).
خلال الحرب العالمية الثانية، تعرضت القرية لمذبحة ضمن موجة قتل شنها الوطنيون الأوكرانيون أودت بحياة عشرات الآلاف في تلك المنطقة. نجا جدّ توكارتشوك البولندي من المذبحة لأنه كان متزوجاً بأوكرانية.
بعد الحرب، تم تقسيم غاليسيا بين الاتحاد السوفيتي وبولندا، وأصبحت القرية جزءاً من جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية. هاجرت الأسرة برفقة ما يقارب المليون شخص من المنطقة نحو منطقة سيلزيا السفلى، وهي منطقة في جنوب غرب بولندا قرب الحدود مع ألمانيا والتشيك. تم تشجيع البولنديين على العيش في تلك المنطقة بهدف استبدال سكانها الألمان الذين هربعوا نحو الداخل الألماني مع اقتراب الجيش الأحمر، أو أولئك الذين طردتهم بولندا غداة انتهاء الحرب. “لا يمكنك أن تتحدث عن تلك المنطقة دون ذكر الأوكرانيين، لأن الجذور الأوكرانية ما زالت تربط ثلاثة ملايين بولندي يعيشون هناك”، تقول توكارتشوك.
تقول توكارتشوك الابنة الكبرى التي ولدت في قرية شمال سيلزيا السفلى عام ١٩٦٢: “التمييز بين البولندي والأوكراني مصطنع جداً بالنسبة لي.” بقيت أقلية ألمانية بسيطة في تلك المنطقة، فقد ادّعى البعض أنهم بولنديون ليتمكنوا من البقاء، بينما تزوج الباقون من بولنديين. كانت مربية توكارتشوك في طفولتها ألمانية، فيما كان والداها مدرسين في مدرسة ثانوية ريفية، كجزء من تحرك تأسس لتعليم طبقات الفلاحين. تتذكر توكارتشوك تلك الأيام التي عاشت خلالها الأسرة في المدرسة بسعادة. كان والدها أمين مكتبة المدرسة، وقد قضت معظم وقتها برفقته هناك، تقرأ ما يحلو لها من الشعر وكتابات لوكيوس أبوليوس وجول فيرن والكتب الموسوعية.
في سنوات مراهقتها، أصبحت توكارتشوك أكثر وعياً بحقيقة انغلاق العالم من حولها. “كان كل شيء خارج بولندا مثيراً للاهتمام. الموسيقى، الفن، السينما، حراكات الهيبيز وميك جاغر. كان الحلم بالهرب ضرباً من المستحيل. كنتُ مقتنعة خلال مراهقتي بأنني سأضطر لقضاء بقية حياتي عالقة حيث أنا.” خلال خريف عام ١٩٨٠، التحقت بجامعة وارسو لدراسة علم النفس. كان الحرم الجامعي جزءاً من الثكنات العسكرية الألمانية خلال الحرب، وقد عاشت في سكنات الطلاب القريبة من آثار الحي اليهودي. كانت الشوارع مليئة بالحفر التي نجمت عن أعمال التدمير النازية الممنهجة عام ١٩٤٤. خلال السنة الثانية من الدراسة، وكردّ على التظاهرات التي عمّت البلاد، أعلنت الحكومة الأحكام العرفية. الآن وفي رواق الفندق المريح، ما زالت توكارتشوك تحاول منع نفسها من التأثر بتلك الأحداث. “كان ذلك صعباً جداً لفتاة صغيرة قادمة من الأقاليم. لم يكن هناك ما يمكن شراؤه في المتاجر سوى الخل والخردل، وقد اعترى اليأس الأجواء. كان الناس في غاية التشاؤم، ما كنتُ لأصدق أن الاتحاد السوفيتي سيسقط يوماً.”
بعد تخرجها عام ١٩٨٥، تزوجت توكارتشوك من أحد زملائها في دراسة علم النفس، وانتقلا للعيش في بلدة بعيدة عن مدينة روكلو. هناك، تخصصت توكارتشوك في علم النفس السريري وعملت مع مدمني المخدرات والكحول، لكن الإنهاك أصابها خلال سنوات قليلة. تقول: “أنا عصابية على نحو شديد لا يسمح لي بأن أكون معالجة نفسية.” تمكنت بعد ذلك من الحصول على جواز سفر قادها خلال شهور قليلة إلى لندن، حيث درست اللغة الإنجليزية وعملت في وظائف مختلفة، مثل تجميع الهوائيات في مصنع وتنظيف غرف فندق راق، فيما قضت بقية الوقت في متاجر الكتب تقرأ عن النسوية التي لم تكن موضوعاً للحديث في بولندا. كتبت إحدى قصصها الأولى “ذا هوتيل كابيتال” من منظور عاملة تنظيف تبتكر قصصاً عن الأِشخاص الذين تنظف غرفهم بناء على أمتعتهم الشخصية. تخبرني توكارتشوك فيما تنظر حولها في بهو الفندق: “في كل مرة أذهب فيها إلى فندق، أتذكر أن عاملات التنظيف هن بشر مثلي، وأن بوسعهنّ الكتابة عني وعن الفوضى التي أتركها في غرفتي”.
بعد عودتها إلى بولندا برفقة زوجها، أنجبت توكارتشوك ابنها وبدأت الكتابة بصورة جدية. تُرجع الفضل إلى علم النفس الذي عرّفها بإمكانية وجود الوقائع المتعددة في وقت واحد. في إحدى تجاربها الطبية، عملتْ مع شقيقين لكل منهما رواية عاطفية مختلفة عن علاقات أسرتهما. تستذكر: “كانت تلك أولى خطواتي في الكتابة. فأن تكتب يعني أن تبحث عن آراء معينة ومحددة جداً فيما يخصّ الواقع.”
كانت رواية توكارتشوك التي نُشرت عام ١٩٩٣حكاية فلسفية تحصل أحداثها في فرنسا خلال القرن السابع عشر، فيما قصّت روايتها الثانية حكاية وسيطة روحانية في مدينة روكلو خلال عشرينيات القرن العشرين. حققت روايتها الثالثة أول نجاح كبير لها، وهي راوية “البدائية وأوقات أخرى” الصادرة عام ١٩٩٦، وكتبتها بوحي من حكايات قصّتها عليها جدّتها لوالدتها أثناء طفولتها.
بلمسة من الواقعية السحرية، تراقب أربعة ملائكة حارسة أحداث الرواية التي تنقل أحداث حياة عائلتين في قرية بولندية خيالية خلال القرن العشرين، وتتمحور في غالبها حول العلاقات بين البولنديين واليهود، إذ يزور البولنديون الأطباء اليهود ويتسوقون في متاجرهم، بينما يرفضون علاقة الحب التي جمعت بين امرأة بولندية ورجل يهودي. اعتُبرت الرواية عملاً إبداعياً خلاقاً بسبب جمعها بين العناصر الخيالية وأحداث التاريخ الطويل.
في نفس الفترة، وقَعت توكارتشوك في حب وادي كلودزكو ذي المساحات الخلابة في سيلزيا السفلى قرب الحدود التشيكية. اشترت هي وزوجها منزلاً بسيطاً بواجهة خشبية وقاما بإجراء تعديلات عليه، قبل أن تفتن توكارتشوك بتاريخ وثقافة المنطقة. بعد فترة قليلة من الانتقال للعيش هناك، مرّت بكنيسة ولاحظت تمثالاً للقديسة سانت ويلجفورتيس، ومن هناك بدأت الفكرة الأساسية من روايتها التالية “منزل النهار، منزل الليل” التي نُشرت عام ١٩٩٨. فتكتبُ عن صدفة جمعتها بكتيّب في متجر الهدايا التابع للكنيسة، روى فيها الكاتب الذي ذُكر اسمه على أنه “باسخاليس، راهب” أحداث حياة القرون الوسطى التي عاشتها القديسة. بحسب الأسطورة، فقد رغبت ويلجفورتيس في أن تصبح راهبة قبل أن يخطفها والدها من الدير ويجبرها على الزواج. تضرعت إلى يسوع ليساعدها على صدّ العريس المرتقب، وقد استجيبت صلواتها بأن حصلت على سمات ذكورية ولحية مشابهة للحية المسيح، ما دفع والدها لقتلها. تتساءل إحدى الشخصيات: “من هو هذا الشخص الذي كتب عن حياة قديسة؟ وكيف تمكن من معرفة كل هذا؟” ليتضح أن باسخاليس ما هو إلا شخصية خيالية نُسجت على نحو فريد لتتم كتابة سيرة حياة هذه القديسة التي تبدو في هيئة رجل، وتذكر الحكايات أنه حمل منذ طفولته رغبة شديدة ليصبح امرأة. تستمر حدود الإقليم الذي تحدث فيه هذه الحكاية في التغير، تماماً كما تتغير مكانة هاتين الشخصيتين باستمرار، وهو ما يزيد من حصولهما على التعاطف.
باحتوائها على المذكرات والخيال والأساطير، كانت تلك الرواية محاولة توكارتشوك الأولى لكتابة نص ينتمي لأكثر من فئة، وهو الأسلوب الذي استخدمته لاحقاً في كتابة روايتها “رحلات جوية”. فقد نبعت روايتها هذه من شعورها بحرية السفر لأول مرة في حياتها، إذ مكنتها سمعتها الدولية المرموقة من الحصول على دعوات لحضور مهرجانات أدبية في كل أنحاء العالم، في وقت كَبُر خلاله ابنها وانتهى زواجها. أصبحتْ مشغولةً بفكرة تأليف كتاب عن الرحلات، لكن الكتابة التقليدية عن السفر كانت بسيطة لحدّ جعلها تفتقر لمعاني القلق والعدائية والنشاط والإلحاح التي تميز السفر.
تقول: “حاولتُ مراراً العثور على أسلوب لهذا الكتاب، ولم أنجح”. لكنها عندما بدأت بجمع ملاحظاتها أدركت أنها كافية لتكوين رواية. ولتتمكن من تحديد شكل الكتاب النهائي، قامت بتوزيع مئة وستة أجزاء من الكتاب على أرض الغرفة التي تعمل فيها، ووقفت على طاولة لتستعرضها من الأعلى. يتعلق أحد هذه الأجزاء بفيليب فيريهين، وهو عالم التشريح الفلمنكي الذي عاش في القرن السابع عشر، والذي أطلق اسم “عقب أخيل” على حالة الوتر العقبي التي تصيب أوتار القدم. في شبابه، اضطر فيريهين لبتر إحدى ساقيه، وعاش بعدها عذاباً مستمراً بسبب المساحة الفارغة التي تركتها ساقه، فأياً كان ما تقطع، سواء ضلعاً من جسد أو جزءاً من الشعب، فإن له القدرة على الإيلام. يستنتج فيريهين “أن علينا البحث في ما يسبب لنا الألم.”
في نهاية اليوم الذي تلا مهرجان أبوستروف، كانت توكارتشوك تتناول الغداء في أحد مطاعم وارسو الهندية برفقة شريكها منذ أحد عشر عاماً، غرزيغورز زيغادوا، وهو رجل لطيف في آخر الأربعينيات من عمره ذو شعر داكن ويطغى القلق على عينيه. صدرت نتائج انتخابات الاتحاد الأوروبي المُحبِطة، فقد حصل حزب القانون والعدالة على أكثر من ٤٥% من الأصوات، وهي أكبر نسبة تصويت حصل عليها في تاريخه، متقدما بسبع نقاط عن منافسه المعتدل في التحالف الأوروبي. في حين حصل حزب فيوسنا على ٦% من الأصوات، ما يمكنه من إرسال ثلاثة ممثلين إلى بروكسل، لن تكون مونيكا بلاتك، المعجبة ببرنامج “راديولاب” الإذاعي من بينهم.
عمل زيغادوا مترجماَ للألمانية، أما وظيفته الآن فهي “الاعتناء بأولغا” بحسب وصفه، فهو سائقها الخاص والساعي لإنجاز المهام التي تحتاجها، كما أنه مساعد باحث لها، وهكذا. تشير هي إليه بـ”المدير”، بينما يصف هو كتابتها بـ”مشروع العائلة”. إضافة إلى سعيه لتوفير كل ما يمكن أن تحتاجه فوراً؛ كقهوة الإسبرسو أو نسخة من أحد الكتب، كما يقدم لها المساعدة التقنية. كان يتدخل أحياناً أثناء حديثي مع أولغا لتوضيح نقطة ما تحدثَتْ هي عنها، أو لتحذيرها بصوت عال من أن تفشي ببعض الأسرار.
مساءً، قادنا زيغادوا إلى فروتسواف التي تقع على بعد ثلاث ساعات. كانت سيارة الفولفو الخاصة بهما مليئة بحقائب السفر وأكياس الملابس، وشجرة الزان التي حصلت عليها توكارتشوك من مهرجان أبوستروف. بينما كنا ننطلق، ربطت توكارتشوك ضفائرها ومدّت يدها للوصول إلى كيس من رقائق الأرز المصنوعة بنكهة اللفت. حاول زيغادوا جاهداً التغلب على أزمة السير، واضطر في إحدى المرات إلى التوقف وسط أحد ممرات وارسو الدائرية، وهو ما يسبب الارتباك طبعاً. أمضى كلاهما الكثير من الوقت في التنقل عبر أوروبا بنفس هذه الطريقة خلال السنوات التي قضتها في التحضير لكتابة أحدث رواياتها “كتب جاكوب” التي صدرت عام ٢٠١٤، إذ قاما بزيارة أوكرانيا، وبلغاريا ورومانيا وجمهورية التشيك وألمانيا وتركيا، وذلك للسير على درب بطل الرواية، جاكوب فرانك. (من المتوقع أن يتم نشر النسخة الإنجليزية العام المقبل، وقد قامت بترجمته جينيفر كروفت، سبق وأن ترجمت كتاب “رحلات جوية”.
عاش بطل الرواية جاكوب فرانك يهودياً بولندياً في القرن الثامن عشر وادّعى أنه المسيح، وقام خلال حياته بجمع الالآف من أتباع السبتية، وهي الطائفة اليهودية المسيانية التي ينتمي إليها. قام فرانك بدمج التعاليم المسيحية في اليهودية السبتية، كما أجرى طقوس تعميد جماعية. رغبت توكارتشوك بعيش تجارب في أماكن أحداث الرواية بنفسها، كما أجرت أبحاثاً تاريخية للتعرف على تفاصيل ذلك العصر. “أنا كاتبة ولست مؤرخة، ولذلك يجب عليّ عيش التجربة بكافة تفاصيلها، بحيث أشم وألمس وأرى الأشياء بنفسي”. لقد عاينَتْ بنفسها الأشجار وأوراقها، لون التربة ومجرى نهر دنيستر. في مدينة لافيف الأوكرانية، جلسَتْ توكارتشوك في الكاتدرائية لتتخيل مشهد أتباع فرانك أثناء التعميد الجماعي. ولأكثر من نصف عقد من الزمن، غمرت نفسها بكل ما قد يكون لفرانك علاقة به: بولندا في القرن الثامن عشر والدين والتصوّف، والتنوير اليهودي في وسط أوروبا. كان إدراكها لكل التفاصيل أمراً ذا أهمية بالغة بالنسبة لها. في أحد مشاهد الرواية، صورت مجموعة من النساء الجالسات أثناء استخدامهن إبر الخياطة المعدنية التي ينعكس عليها الضوء، لكنها شعرت بوجود خلل ما عندما أعادت قراءة المشهد، إذ أدركت حينها أن الإبر المعدنية لم تكن موجودة في ذلك الوقت وفي ذلك الجزء من أوروبا، حيث استخدم الناس إبراً خشبية للخياطة. مع اقتراب انتهائها من تأليف الكتاب، لاحظ المستشارون الذين تم تعيينهم من قِبَل ناشرها أن البطاطا لم تكن منتشرة وسط أوروبا في ذلك الوقت، بل كان الأرز المستورد من تركيا هو العنصر الغذائي الأساسي. وكانت النتيجة أن قدمت توكارتشوك أحد أنجح أعمالها حتى الآن. فقد استطاعت الرواية وخلال تسعمئة صفحة مزج وجهات نظر عشرات الأشخاص الذين عرفوا فرانك؛ منهم القسّ بينيديكت شمييلوفسكي الذي كتب أول موسوعة باللغة البولندية، والحاخام اليهودي إليشا شور الذي كان مفتوناً بشخصية فرانك، والنبيل البولندي موليفدا الذي كان مترجماً وصديقاً لفرانك قبل أن يخونه في نهاية الأمر، إضافة إلى جدته اليهودية تصارع الموت، ولكنها تبتلع تميمة قبلانية فتصبح خالدة.
سرعان ما تصدّر الكتاب قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، كما حاز على جائزة نايكي الأدبية المرموقة في بولندا. وقد أبرز نجاح الكتاب أمراً كان واضحاً خلال زيارتي وهو أن الحديث عن تراث بولندا اليهودي أصبح اليوم مقبولاً بصورة أكبر مما كان عليه عند زيارتي خلال التسعينيات. ارتدى أحد أعضاء اللجنة في أبوستروف قميصاً بحروف من اللغة اليديشية الخاصة بيهود أوروبا، كما أقيم متحف تاريخ اليهود البولنديين الجديد ذائع الصيت في موقع في أحد أحياء وارسو اليهودية.
(“بولين” هو الإسم اليديشي لبولندا.) تخبرني توكارتشوك: “لا يمكن الفصل بين الثقافة البولندية والثقافة اليهودية”،. ومع ذلك، ما زال الغموض يلف تبنّي بولندا لهذا التراث. في المرة الأولى التي قرأتْ فيها توكارتشوك عن فرانك، أدركتْ أن كثيرين يميلون لنسيان قصته سريعاً، مثل كاثوليك بولندا الذين يشعرون بالخجل من معاملة الكنيسة لفرانك، إذ تعرض للسجن في دير لمدة ١٣عاماً، إضافة إلى اليهود الأرثوذوكس الذين يعتبرون فرانك خائناً، بالإضافة إلى أحفاد الفرانكية البولنديين، ممن لا يرغبون بتذكر أصولهم اليهودية.
تستمتع توكارتشوك بدورها في تحدي المعتقدات الأرثوذكسية، وفي إحدى مقابلاتها التي أُجريت بعد فوزها بجائزة نايكي، شجعت المواطنين على التعايش مع ماضي الأمة المظلم. “لقد خلقنا هذه الصورة من تاريخ بولندا وصوّرناها على أنها بلد متفتّح ومتسامح”، قالت توكارتشوك. “مع ذلك، لقد ارتكبنا جرائم استعمارية فظيعة، بأغلبية وطنية تقدم الدمع لقمع الأقلية ولمالكي العبيد، ولقتلة اليهود.” عند استخدامها كلمة مُستعمرين، قصدت توكارتشوك احتلال بولندا لأوكرانيا. امتلأ صندوق بريدها الإلكتروني وصفحة الفيسبوك الخاصة بها برسائل تتهمها بالخيانة. فقد كتبَ أحدهم: “الموت هو ما سينتقم من مثل هذه الأكاذيب”. فيما دعا آخرون إلى نفيها من بولندا. شعرتْ كروفت بالقلق على سلامة توكارتشوك وطلبت منها مغادرة البلاد لفترة من الزمن، في حين قام ناشري توكارتشوك بتعيين حراس شخصيين لها بشكل مؤقت، لكنها حافظت على هدوء أعصابها، ووصفت ذلك بالهرطقة التي تكشف جميع أطراف المعادلة وتفرض التحدي في تجاوز تلك الحدود. “إنه فعلُ العقل الحُرّ.”
باتت توكارتشوك مؤخراً تدرس فكرة قضاء وقت أقل في منزلها الريفي في وادي كلودزكو، حيث تعمل على تجديد المكان وتوسيعه. وكانت توكارتشوك قد اكتشفت قبل خمس سنوات مهرجاناً أدبياً صيفياً يُقام في بلدة نوا رودا القريبة، والذي يستضيف كُتّاباً من مختلف أنحاء شرق أوروبا، كما حصلت على دعم من الحكومة المحلية وعدد من الرعاة في القطاع الخاص، من ضمنهم مُصنّع أوراق للحمّام. “خطرت لي فكرة صنع ميدالية من ورق الحماّم لوزير الثقافة”، قالت توكارتشوك ضاحكة.
في أحد الأيام، سافرت هي وزيغادوا من شقتهما في روكلو إلى الريف لتفقد أعمال البناء. بينما كنا نتجه إلى جنوب المدينة، مررنا بنصب تذكاري لإحياء الذكرى الستمئة لاستعمار المنطقة، قبل مرورنا بمخزن تابع لشركة أمازون. كان هناك رجل أبيض كبير في السن يقطع الشارع ويمسك بيد مختلط العِرق. “إنه طفل بولندي جميل”، أشار زيغادوا. وبينما كنا نصعد الطريق السريع إلى الجبال، انهمرت أمطار غزيرة. بشكل دفع توكارتشوك للاعتقاد بأنه يتحداها بشكل شخصي. “لن نستطيع أن نرى المنظر”، قالت بتذمّر. تحب توكارتشوك تسلق أعلى المطل الواقع خلف منزلها عند اعتدال الطقس، فبوسعها هناك رؤية الجبال التي تمتد على طول الحدود مع التشيك. بدأت أنتبه إلى البيئة التي تصفها توكارتشوك في كتابها “سِر بمحراثك على عظام الموتى” الذي تُرجم حديثاً ويتحدث عن لغز مقتل حيوانات. عندما بدأتْ بكتابته، كانت قد بدأت بخلق فكرة كتاب “كتب جاكوب” ولكنها كانت تعلم أنه سيستغرق سنوات عدة، وكانت بحاجة إلى تسليم كتاب إلى ناشرها في ذلك الوقت.
قرّرتْ أن تخوض تجربة كتابة رواية بوليسية بدافع رغبتها بكتابة “شيء خفيف”. “تعرف أن لديك نموذجاً…” قالت توكارتشوك. “لا تحتاج سوى للوقت لتضع الخطة، وبعدها يصبح الأمر سهلاً. لا عجبَ في قدرة كاتبي الألغاز على نشر كتاب جديد كل سنة.” حاول زيغادوا هنا من مقعد السائق أن يسكّتها على عجل. فكرت توكارتشوك بكتابة الألغاز لأول مرة أثناء قضائها فصل الشتاء وحيدة في الوادي بعد انفصالها عن زوجها وبرفقة كلبيها. اختفى الكلبان في إحدى المرات. تقول: “بدأت بسؤال الناس عما جرى”. ” أخبرني أحدهم بوجود حملة صيد كبيرة في المنطقة، وأن الصيادين السكارى يقومون أحياناً بقنص الكلاب.” تكمل حديثها “كان هذا قبل عدة أعوام، واستمر تفكيري بالأمر مدة طويلة. كأن يكون الكلبان في الثلاجة، أو أن يظهرا يوماً على مائدتي.” يمكن لهذا الكتاب أن يكون أي شيء إلا رواية ألغاز تقليدية، إذ تعيش الشخصية الرئيسية يانينا دوشيكو في قرية غير محددة، وتخوض حرباً بنفسها ضد جيرانها الصيادين. تعاني دوشيكو النباتية والمؤمنة بحقوق الحيوان من الحزن الشديد جراء اختفاء حيواناتها الأليفة على نحو مفاجئ، ما يجعلها تعاني من الآلام الجسدية والعقلية. أثناء القصة، يموت جيرانها الواحد تلو الآخر بطرق غير متوقعة، يختنق أحدهم بعظمة أثناء تناوله الغزال الذي اصطاده، فيما يقع آخر في بئر مهجورة. فتحاول دوشيكو إقناع الشرطة بأن موت جيرانها هو نتيجة انتقام الحيوانات بنفسها من صياديها. تُروى القصة بكاملها بصوت دوشيكو المحمّل بمعاني الغرابة والهوس، فهي تعيش في عزلة تامة وتصبّ اهتمامها على التنجيم والأبراج في محاولة لفهم العالم. “النظام موجود، وهو في متناول اليد”، فهي روح عارية تفتقر لأي دفاعات عقلية. تتساءل في بداية الكتاب بينما تفكر في آلامها: “ربما من الممكن أن يعتاد المرء على ذلك؟ أن يتعايش معه تماماً كما تعايش الناس في أوشفيتز وهيروشيما، دون التفكير فيما حدث في الماضي.” ومع النهاية، تدرك استحالة ذلك وتقول: “صُنعت كل ذرة في هذا الكون من المعاناة.”
شيئاً فشيئاً، تحول الطريق الأسفلتي إلى أوساخ، وظهر ثعلب لوهلة قصيرة قبل أن يختفي مجدداً. تشعر توكارتشوك بالدهشة لما كانت تبدو عليه المنطقة بعد الحرب، عندما غادرها الألمان واستقر فيها البولنديون. فتقول: “تعامل البولنديون مع هذه المنازل بصفتها مكاناً لاستقرار مؤقت، فلم يعتنوا بها. كانوا على يقين من قيام حرب عالمية ثالثة وأنهم سيضطرون للمغادرة مجدداً.” ظهر المنزل وسط الضباب، وإلى جانبه كومة كبيرة من التراب الأحمر نتيجة لعمليات الحفر، قام بها رجلان مستخدمين خلاطاً إسمنتياً لصنع طين يوضع عليه الطوب. دخلت توكارتشوك إلى المنزل وقد استقبلها مقاول في منتصف العمر مرتدياً قبعة موزعي الصحف وسترة سوداء مبطنة. لم تصل الكهرباء إلى المنزل، فيما سارت توكارتشوك بحذر على الأرضيات التي لم ينته العمل بها، تتفحص بلاط المطبخ وتناقش ألوان الطلاء. في الأعلى، تفحصت برفقة زيغادوا سير العمليات في غرف النوم. كانت خطة توكارتشوك بأن تكون الغرفة ذات النوافذ الأكبر غرفة للضيوف تقيم فيها شقيقتها المقربة منها، فيما حاول زيغادوا إقناعها بجعلها غرفة العمل الخاصة بها. لديها في منزلها في روكلو مساحتها الخاصة بالكتابة، لكنها اعتادت على العمل في المطبخ، تقول: “هذا ما يحدث للنساء دائماً.”
هزّ زيغادوا رأسه وردّ “ليس في زمني.”
نظرت توكارتشوك خارج النافذة: “هل أنت متأكد من أننا لن نستطيع الوصول إلى قمة التلة؟ ربما بالسيارة؟” أجاب: “يمكننا أن نحاول.”
في السيارة، تذكرت شتلة الشجر التي تم توزيعها في مهرجان أبوستروف الأدبي، فقدمتها قالت لبستانيّ يقف عند المدخل: “سيد رومان! هذه لك.” فتساءل: “ماذا أفعل بها؟” قالت توكارتشوك: “لا أدري. إنها شجرة زان، وهي بحاجة لمساحة تنمو فيها، لكنني لا أريد أن تغطي الإطلالة. ما رأيك؟” سارا معاً باتجاه بستان من الأشجار أمام المنزل. عادت توكارتشوك راضيةً بعد لحظات وقالت: “قمتُ بزراعة هذه الغابة هنا. لا أملك ما يكفي من الخيال، ولم أتوقع أن تنمو لتصبح بهذا الطول. فهي تحجب عنا الشمس صباحاً. أصدرت السيارة أصواتاً احتجاجية بينما حاول زيغادوا السيطرة عليها على الطريق الترابي المليء بالطين الآن. شجعته توكارتشوك: “دعنا نحاول.” قبل أن تصرخ بخوف عند انزلاق السيارة. أكد زيغادوا: “لا يمكننا سلوك هذا الطريق”. ردت توكارتشوك بحسرة: “ليس هنالك ما نراه في أجواء كهذه بكل الأحوال، فالضباب يعمّ المكان. خسارة!” أصدرت السيارة أصواتاً مجدداً بينما حاول زيغادوا الانعطاف على الطريق الضيق بهدف العودة. كان هناك مكان مخصص لاختباء الصيادين فيه وسط الغابة، يسمى المنبر. قالت توكارتشوك بحزن: “يا للأسى! هذا منبر جديد. في الرواية، تقول دوشيكو: “أليس هذا منتهى العجرفة؟ أليست فكرة شيطانية أن تسمي نقطة للقتل بالمنبر؟ أن تعيش في وسط أوروبا، حيث تتوافد الجيوش وتغادر بعد أن بعد أن تدمر كل شيء، تصبح الثقافة بمثابة لاصق. قالت توكارتشوك أثناء تواجدنا في السيارة. “يدرك البولنديون أنهم لولا الثقافة ما كانوا ليتمكنوا من البقاء كأمة”. يجمع شمل هذه الأمة شعر ميتسكيفيتش الوطني أو أساطير الشعب الفخور ببقائه موحداً حتى عندما تباغته جيوش الغزاة، هذا ادّعاء أشبه بإناء مكسور، يقوم بعمله طالما يمكن لصق أجزائه ببعضها، لكنه لا يزال متصدعاً. ولكن، إذا ما كان صعباً وجود ثقافة بولندية دون وجود ثقافة أوكرانية أو ثقافة يهودية، ماذا يحدث عندما تتعرض هذه الأقليات للاضطهاد والقمع؟ تقل فاعلية اللاصق وتنتشر الشظايا. قد يحاول فنانون تعويض الضرر، من خلال قصّ حكايات تسلط الضوء على حياة البولنديين واليهود معاً في انسجام، أو بالتغني بكلمات ميتسكيفيتش بالأوكرانية، لكنهم لن ينجحوا في استعادة الإناء بشكله الأصلي. تجمع أعمالهم الشظايا تكون منها شيئاً جديداً. إن الإناء الذي صنعته توكارتشوك من تاريخ بلادها ممزق ومشتت، وهذا ما يجب أن تكون عليه بعد ما حدث خلال القرن الماضي. وجه البعض سخطهم مما تكشفه أعمال توكارتشوك نحوها.
يأتي العنوان البولندي لرواية “رحلات جوية” Bieguni (بمعنى الرّحالة)، وهو مشتق من اسم طائفة أرثوذكسية روسية يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر، آمن أتباعها بأن استمرارهم في التحرك سيحميهم من قوى الشر. بشكل أو بآخر، فإن بولندا بلد من الرحالة الذين يركضون من شرور الماضي، إذ تحلّ مجموعاتها العرقية المختلفة مكان بعضها البعض في مختلف مناطقها. يقول الرحالة المتدينون: “مبارك هو ذاك الذي يغادر باستمرار”. لكن هذه الرحلة مؤقتة وحسب، تقول توكارتشوك “بُنيت كل ثقافة على شيء من آليات الدفاع. وهذا طبيعي جداً، فنحن نحاول كبت كل ما يتسبب لنا بالانزعاج.” كما ترى أن دورها يتمثل في دفع قرائها لمراجعة بعض من جوانب التاريخ، وهو ما يفضلون تجنبه، سواء كان ذلك تاريخهم الشخصي أو تاريخ أمّتهم. تقول أنها أصبحت “معالجة نفسية للماضي”.