صوّر الفلسطينيون أفلامهم الأولى في فلسطين، منتصف الثلاثينيات، بوقتٍ مبكرٍ بالنسبة لمعظم جيرانهم العرب، فقد سبقهم صناع أفلام في مصر، مصريون أو فلسطينيون مهاجرون، كالأخوين لاما (أو الأعمى)، الذين صنعا أول فيلم روائي عربي طويل في الإسكندرية، وبعد توقف صناعة السينما في فلسطين بعد النكبة بسبب تهجير صُنّاعها الأوائل، صنع سينمائيون فلسطينيون وعرب وغربيون، أفلاماً بدعم من منظمة التحرير في الأردن ولبنان وسوريا، سميت تلك المرحلة التي توقفت منتصف الثمانينيات بسينما الثورة الفلسطينية.
لكن معظم أرشيف هاتين المرحلتين من تاريخ السينما الفلسطينية تعرض للضياع والنهب، جعلتا من إمكانية دراستهما أو الاطلاع على إنتاجاتهما تبدو مسألة معقدة، ما تسبب بكارثة لا تزال قائمة حتى اليوم في مستودع الأرشيف الفلسطيني، الذي حتى اليوم لم يجد مؤسسة جامعة تجمع ما تبقى منه، وتؤرشف للمرحلة الجديدة من السينما الفلسطينية. ولا يزال العمل على تجميع أرشيف تلك المرحلتين يجري بمبادرات فردية من أفراد ومؤسسات خاصة، إحداها مشروع ترميم نسخ من أفلام سينما الثورة الفلسطينية، ورصد التصورات البصريّة التي ميّزت إنتاجات تلك الحقبة، الذي قامت به مؤسسة “فيلم لاب: فلسطين”، بالتعاون مع جامعة ”شيفيلد هالام“ في بريطانيا، حيث أطلقوا مشروع الترميم والتحويل الرقمي لبعض أفلام تلك الحقبة ضمن مشروع بحث سمي ”تداخلات إبداعيّة“ للحفاظ على الأرشيف والذاكرة الفلسطينية، مستهدفاً الأرشيف والأفلام التي دمرت نسخها أو نهبتها قوات الاحتلال إبان الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وتحديداً أرشيف وحدة أفلام فلسطين، الذي نهبه جيش الاحتلال الإسرائيلي من مستودعات المنظمات الفلسطينية، ولا يزال معظم ذلك الأرشيف المنهوب في مستودعات الجيش الإسرائيلي تحت مسمى ”غنائم حرب“ وتم العبث ببعضه، وذلك بحسب الباحثة الإسرائيلية في التاريخ البصري رونا سيلع، التي أتيح لها الإطلاع على جزء منه، وأنجزت حوله فلماً بعنوان “المنهوب والمخفي: الأرشيف الفلسطيني في إسرائيل”.
في جامعة جامعة ”شيفيلد هالام“ في بريطانيا، حصل باحثون على نسخ لخمسة أفلام من فلسطينيين حملوا نسخ تلك الأفلام معهم في شتاتهم حول العالم، وقام الباحثون بترميم وتحويل رقمي لتلك الأفلام من حقبة السبعينات والثمانينات، كمساهمة في التصدّي لعملية السطو والمحاولات المتكررة لمحو الذاكرة والتراث الثقافي والفني الفلسطيني، وبالتالي محو الهوية والتاريخ.
وُجدت تلك النسخ من الأفلام الخمسة في مجموعات خاصّة، تعود ملكيّتها لأفراد عائلات صنّاع تلك الأفلام، وبعضها لم يسبق عرضه للجماهير. إثنين من تلك الأفلام وجدت نسخهما المخرجة عزّة الحسن لدى عائلة المصور السينمائي الراحل هاني جوهريّة، بينما وجدت عائلة الفنان والمخرج إسماعيل شمّوط شريطين سينمائيين من إخراجه بين أغراضه الشخصيّة بعد رحيله، بينما حافظ المخرج العراقي قاسم حول على نسخة من فيلمه ”الهويّة الفلسطينيّة“ الذي أنجزه عام ١٩٨٣ وموضوعه سرقة الأرشيف الفلسطيني من بيروت عام ١٩٨٢ ومحاولات السطو على الذاكرة الفلسطينية، ما يجعل موضوع الفيلم يتقاطع مع صلب مشروع تداخلات إبداعية.
الدكتورة أناندي رامامورثي وهي باحثة في ثقافات ما بعد الاستعمار من جامعة شيفيلد هالام، التي أنجزت أبحاثا في قضايا متعلقة بمواضيع العنصرية والإمبريالية والمقاومة الثقافية، هي أيضاً أحد المشاركين كمحققة في مشروع “تداخلات إبداعية”، والتي تشارك حاليا في “مهرجان سينما فلسطين الدوحة“، بمحاضرة تفاعلية حول المشروع، والهدف منه، وكيف تم العمل على ترميم تلك الأفلام ودراستها، وأهمية مشاركتها مع الجمهور العالميّ، لخلق فهم أعمق لتاريخ السينما الفلسطينية في فترة هامّة من تاريخ الشعب الفلسطيني.
تتضمن مجموعة الأفلام المرممة، فيلم “زهرة المدائن” (١٩٦٩) للمخرج علي صيام ومن تصوير هاني جوهريّة، حيث تُستعمل أغنية زهرة المدائن الشهيرة لفيروز، خلفية صوتيّة للفيلم الذي يعرض حياة الفلسطينيين التي جعلها وجود جنود الاحتلال غير عادية. وكذلك فيلم ”فلسطين في العين“ (١٩٧٦) من إخراج مصطفى أبو علي وترميم المخرجة عزّة الحسن الذي يتناول استشهاد المخرج هاني جوهريّة في معركته الأخيرة التي فقد فيها حياته وهو يحمل كاميرته، وضمن هذه المجموعة أيضًا فيلم ”النداء الملحّ“ (١٩٧٣) لإسماعيل شمّوط الذي يصوّر العازفة الفلسطينية المصريّة زينب شعث تغنّي الأغنية التي أصبحت فيما بعد أيقونة موسيقية نضالية، والتي كتبت كلماتها الشاعرة الهندية لاليثا بونجابي.
أما فيلم ”وهج الذكريات“ (١٩٧٢) لإسماعيل شمّوط، والذي رممه ابنه المخرج بشّار شموط، وترتكز قصة الفيلم على حكاية رجل فلسطيني عجوز، والذي يحضر في لوحة شمّوط التي حملت عنوان ” نار وذكريات“. يحاول الفيلم كشف ذكرياته عن طريق استعمال الصور الأرشيفية ولوحات شمّوط لسرد حكاية التهجير الفلسطينية ومقاومته، من خلال تقنية المونتاج للصور والبصريات ودمج الصوت معها متجنّبا السرد الكلامي فيه.
أما الفيلم الخامس ”الهويّة الفلسطينيّة“ (١٩٨٣) للمخرج العراقي قاسم حول، الذي يعتبر نموذجا نادرا لإنتاج سينمائي لمنظمّة التحرير الفلسطينيّة بعد مغادرة بيروت. يوثّق الفيلم للمراكز الثقافية والتعليميّة التي دمرها الاحتلال أثناء الغزو ونهب محتوياتها من الوثائق والأفلام والصور والمخطوطات المعاصرة والتاريخيّة. لم يُعرض الفيلم منذ عرضه الافتتاحي الأول في مدينة ليبزيغ الألمانيّة عام ١٩٨٣ في أي عرض عام، وظلّ منذ حينها حبيساً ضمن أرشيف المخرج، مثل بعض أفلامه الأخرى ”صبرا وشاتيلا“ الذي صوره بعد المذبحة، وقابل فيه ٣ أسرى إسرائيليين كانت المقاومة الفلسطينية تحتفظ فيهم بملجأ تحت الأرض بعد أن أسرتهم أثناء الاجتياح، وحاز الفيلم على جائزة مهرجان دمشق الدولي ولم يعرض بعدها في عروض جماهيرية.
قاسم حول الذي ارتبط اسمه بسينما الثورة منذ البدايات وكان من مؤسسيها، وكان له نصيب كبير من الأفلام التي نهبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث فقد له عدة أفلام من بينها “لماذا نزرع الورد؟ لماذا نحمل السلاح” وفيلم “الكلمة والبندقية” عن اغتيال الشهيد غسان كنفاني، فيلم “تل الزعتر” وأفلام أخرى. وقاسم أيضاً التقى صدفةً أثناء عرضه أفلاماً من نتاجات سينما الثورة وأفلاماً عالمية على جدران المخيمات الفلسطينية عام ١٩٧٣، وتحديداً في مخيم شاتيلا برائد السينما الفلسطينية إبراهيم حسن سرحان الذي صور أفلاماً في مدينته يافا عام ١٩٣٥ وحتى النكبة، وأخذ قاسم عن سرحان في لقاء نشر في عدة صحف ومجلات وكذلك في كتاب قاسم حول “السينما الفلسطينية”، أخذ في هذا الحوار من إبراهيم حسن سرحان شهادة تاريخية هامة عن سينما ما قبل النكبة، ورأى النسخ الخام من أفلام إبراهيم في بيته في المخيم، حيث كان يعيش منذ الستينيات ويعمل سمكرياً.
هذه النسخ الوحيدة التي كانت متبقية من أفلام من يعتقد بأنه رائد السينما الفلسطينية، دُمرت واحترقت في حرب المخيمات في بيروت، لتفقد للأبد كما أختفى مثلها الكثير من أفلام صناع تلك المرحلة.
في الذّكرى السّبعين لنكبة فلسطين، قام طاقم المشروع البحثي “تداخلات إبداعية” في جامعة شيفيلد هالام في إنجلترا، بترميم وترقيم خمسة أفلام من أرشيف سينما الثورة الفلسطينيّة لمخرجين رحلوا عن عالمنا منذ زمن طويل، وبقيت أفلامهم قيد الذاكرة. تمت عملية ترميم الأفلام بإشراف الدكتورة أناندي رامامورثي، الباحثة في ثقافات ما بعد الكولونياليّة في جامعة شيفيلد. تُعرض ضمن برنامج “تداخلات إبداعيّة: سينما الثّورة الفلسطينيّة” في “مهرجان سينما فلسطين الدوحة”، الأفلام التالية: “زهرة المدائن” (١٩٦٩) إخراج علي صيام سينماتوغرافيا هاني جوهريّة، ترميم عزّة الحسن. “فلسطين في العين” (١٩٧٦) إخراج مصطفى أبو علي، ترميم عزّة الحسن. “الهويّة الفلسطينيّة” (١٩٨٣) إخراج وترميم قاسم حول. “النّداء العاجل” (١٩٧٣) إخراج إسماعيل شمّوط، ترميم بلال شمّوط. “وهج الذكريات” (١٩٧٢) إخراج إسماعيل شمّوط، ترميم بلال شمّوط.