منذ أن بدأ الكتابة في سبعينيّات القرن الماضي، تُلاحق الرقابة بكافة أشكالها في سوريا وخارجها أحياناً روايات نبيل سليمان، الذي بدوره يلاحق الحدث السوري، أو ما وراء هذا الحدث، وخاصةً المسكوت عنه، ولهذا اعتُدي عليه وعلى منزله أكثر من مرة، ومُنعت غالبيّة كتبه بل ولم يُعرض منذ قرابة ربع قرن مسلسل عن رواية له. هو الذي في هذا البوح على شكل حوار، يتحدث في الأدب، والسياسة، والذكريات، فينتقل من حكاياته مع محمود درويش، للحديث عما يسميه بـ”الزلزال السوري”، و”الربيع العربي”، والقضية الفلسطينية، وعن داعش والأدب المرتبط بالحقبة السوداء لحكمها في سوريا والعراق، وعن الرواية التاريخية، والنقد، والجوائز الأدبية، ومحاور أخرى، دون تكلّف، وبكل تلقائية وشفافية.
بما أننا كنا “ندردش” قبل البدء في الحوار حول محمود درويش، هلا حدّثتنا عن علاقتك به؟
يمكن وصف علاقتي بمحمود درويش بأنها “صداقة عن بعد”… التقينا للمرة الأولى في العام ١٩٨٠ في بيروت، وكان وقتها درويش في مركز الأبحاث الفلسطيني، وكنت أقيم برفقة بوعلي ياسين رحمه الله في بيروت لفترة قصيرة، وكان آخر لقاء بيننا في اللاذقية، حيث كان ضيف “مهرجان المحبة” هناك، قبل قرابة خمسة عشر عاماً، على ما أذكر… تواصلنا بعد ذلك بندرة، وليس وجهاً لوجه.
أَكِنّ لمحمود درويش محبّة غامرة كأديب وشاعر كبير، وأظن أنه كان يكن لي شيئاً من الحب، ومما يؤكد ذلك أنه لدى الاعتداء عليّ في اللاذقية عام ٢٠٠١، وكان جليّاً أنّ هذا الاعتداء مُدبّر من جهة رسمية، كان هو في القاهرة، ورفع، وقتها، صوته عالياً ضد الاعتداء عليّ.
اعتُديَ عليك وعلى منزلك مرّتين تفصل بينهما عشرة أعوام… هل كان ذلك بسبب كتاباتك أم مواقفك السياسية؟
بسببهما معاً، في اعتداء العام ٢٠٠١، كانت عدّة شهور قد مضت، ما بين أربعة إلى خمسة، على صدور رواية لي بعنوان “سمر الليالي”، عن المعتقلات السياسيّات من الشابات السوريات والفلسطينيات اللواتي تلقفتهن السجون السورية وفتكت بهن، ومع أن الرواية حصلت على الموافقات، إلا أنها أثارت حفيظة البعض.
في سوريا هناك موافقتان لا بد للكتاب وصاحبه وناشره الحصول عليهما قبل النشر، واحدة من قبل الطباعة، وأخرى بعدها للسماح بالتداول بها، والرواية كانت “شرعية” من هذه الناحية، ولكن على ما يبدو أن بعض المثقفين قد نمّوا عليها لذوي الشأن القمعي…، وقد جاء ذلك في فترة ما كان يعرف بـ”ربيع دمشق”، وكنت من المنخرطين فيه، وقد أقمت في بيتي في اللاذقية ندوة أو جلسة يتيمة أعقبها الاعتداء عليّ مباشرة، ثم قُمع كلّ ما يتعلق بـ”ربيع دمشق”، ابتداءً من الشهر الثّاني في العام ٢٠٠١.
كان سبب الاعتداء الأخير في العام ٢٠١١ المواقف، وكان قد حدث في مطلع شهر تموز من ذلك العام، بعد حوالي عشرة أيام من انعقاد مؤتمر “سميراميس” للمعارضة السورية في مدينة دمشق، مع أنه كان بموافقات رسمية، وضمّ قرابة المئة معارض ومعارضة من المثقفين السوريين والمهتمين بالشأن العام. ويبدو أن ذلك لم يرق للبعض، فكانت الإيعازات بـ”تربية فلان أو فلانة” بأن “ربّوا هذا الكلب”، فكان ما كان.
هل سُجن نبيل سليمان… هناك أنباء متضاربة في هذا الشأن؟
لم أُسْجَن، لكنّي تعرّضتُ للتّوقيف مرة في العام ١٩٧٨، بسبب كتاب كنت أحمله وأنا عائد من بيروت إلى دمشق، وكان ذلك لليلة واحدة ليس أكثر.
بمناسبة عبور الرواية التي تسبّبت بالاعتداء عليك عام ٢٠٠١، ما حكايتك مع الرقيب في سوريا أو حكاية الرقيب معك والتي تمتد لعقود وتتواصل، إلى درجة منع روايتك “ليل العالم” الصادرة قبل ثلاثة أعوام؟
بدأت حكايتي مع الرقيب الاجتماعي أولاً، الذي أساءت إليه روايتي الأولى “ينداح الطوفان”، الصادرة في العام ١٩٧٠، بحيث قُرِئَت بمطابقة حرفية، فكان بعض من في القرية التي ينتمي إليها أهلي قد وجدوا فيها ما هو مُسيء، بحيث اتهموني بأنني أقصد أشخاصاً بعينهم رجالاً ونساءً… الرقيب الاجتماعي “فظيع”. دائماً ما أتحدث عن سلطانين: السلطان الاجتماعي والسلطان الديني، وهذان عادة ما يتحالفان مع السلطان السياسي بقدر ما يمكن أن يكونا متخاصمين معه في لحظة أو أخرى، وهذا كله يضرب رأس الإبداع والثقافة المعارضة بصورة خاصة.
أمّا روايتي الثانية “السجن”، وصدرت في بيروت عام ١٩٧٢، فمنع الرقيب المخطوطة من النّشر، ولم يمنحني الموافقة على طباعتها في سوريا، وإن كان لذلك فضل عليّ، إذ اضطرني إلى نشرها في بيروت، وكنت وقتها في السابعة والعشرين، وفتح لي باباً لم أكن أخطط له.
مُنِعت بعد ذلك روايتي “جرماتي”، وصدرت في القاهرة عام ١٩٧٧، حيث لم يكن منع تداولها في سوريا كافيًا، بل كذلك اعتبار أن في الرواية ما ينطوي على خيانة، فُصلتَ جرّاءها من اتحاد الكتاب السوريين لعدة سنوات، ثم تطاول المنع بعد ذلك إلى مسلسل تلفزيوني أعدّ عن روايتي “أطياف العرش”، وصدرت في القاهرة للمرة الأولى عام ١٩٥٥، ورغم إنتاج العمل، وبعد أن أوغل كاتب السيناريو لخلافات بيننا، صدر منع عرض المسلسل، ولا يزال ممنوعاً حتى هذا اليوم، بينما عُرض في محطات أخرى، قبل قرابة عشرين عاماً.
في العام ٢٠١٤، صدرت روايتي “جداريات الشام” (نمنوما)، في مجلة دبي الثقافية، فمُنعت المجلة والرواية التي كانت ترافقها ككتاب العدد، وذلك في أيّار (مايو) من ذلك العام… والسبب أن هذه الرواية مشغولة بأحداث السنة الأولى في ما أسميه بالزلزال السوري أي العام ٢٠١١ في شتى المناطق السورية، وكانت طبعتها الثانية قد صدرت في عمّان عن دار فضاءات ولا تزال ممنوعة في سوريا.
أما رواية “ليل العالم”، وقد صدرت عام ٢٠١٦ ضمن مجلة دبي الثقافية أيضاً، فمُنعت مع السماح للمجلة بالعبور إلى سوريا دونها، وهي مشغولة بما جرى في مدينة الرقة منذ عام ٢٠١١ وإلى ما بعد إقامة داعش دولتَها واعتبار الرّقّة عاصمة لها في سوريا. روايتي الأخيرة “تاريخ العيون المطفأة “، وصدرت قبل شهرين تقريباً عن دار مسكلياني في تونس، لم تُعرض على الرقابة في سوريا بعد، على حدّ علمي، وأعتقد أنها لو عُرضت على الرقيب السوري فستُمنَع!
أسباب منع رواياتك في سوريا باتت معروفة، ولكن لماذا تمنع بعض الدول خارج سوريا أعمالك الروائية وغيرها؟
بعض الدول العربية منعت رواياتي بالفعل… في الكويت مُنعت ثماني روايات لي، ولسنوات طويلة وبعضها لا يزال ممنوعاً حتى اليوم، حتى في عمّان، وقبل قرابة العشرين سنة، ومن طرائف الأمور، مُنع كتابي “الأدب والأيديولوجيا في سوريا” الذي ألفته مع بوعلي ياسين وصدر العام ١٩٧٤ في إحدى دورات معرض الكتاب في عمّان… أحياناً الرقابة لها طرائف وألغاز، بقدر ما لها من مرارة وسخف.
عملت وعشت وأسرتك في الرقة لسنوات، ومع ذلك لم نرَ الرواية في روايات نبيل سليمان إلا حديثاً وبالتحديد في “ليل العالم”؟
دخلت الرقة للمرة الأولى عام ١٩٦٧، وهي سنة تخرجي من الجامعة، حيث تعيّنت مُدَرّساً هناك… أحببت هذه المدينة بشكل كبير، حتى أنها سرت في نسيجي وروحي ودمي، وفي العام ١٩٦٩ تزوجتُ وأقمتُ فيها، وأيضاً فعلتْ بزوجتي ما فَعَلَتْه بي هذه المدينة… الرّقّة وَشَمَتْ روحي حتى اليوم، مع أنني غادرتها إلى حلب في العام ١٩٧٢، ورغم مرور سبعة وأربعين عاماً، ورغم ما حدث فيها منذ العام ٢٠١١، لا تزال علاقاتنا في الرقة على حميميتها. حاولت مراراً أن أكتب عن سنواتي في الرّقّة، وكنت أعجز في كل مرّة، حتى جاء زلزال عام ٢٠١١.
لماذا تطلق اسم زلزال على ما حدث ويحدث في سوريا، وليس ثورة أو انتفاضة أو غير ذلك؟
أحترم أية تسمية لما حدث ويحدث في سوريا… بالنسبة لي، أظن أن كلمة ثورة لا تفي بالغرض إزاء ما عشناه في سوريا… في الشهور الأولى، كانت انتفاضة سلمية، أو حراكاً سلمياً بنسبة عالية، وساهمتُ فيه، واعتُديَ عليّ بسببه، وفي الأشهر الأولى كتبتُ مقالات كثيرة تؤيد هذا الحراك، لكن بسرعة كبيرة قُمِع هذا الحراك، وكانت هناك ردود فعل على هذا القمع حَرَفَتْه عن مساره.
ابتدأ الزلزال أو الثورة أو الحراك، مع عدم التّحفظ على أية تسمية، في منتصف آذار ٢٠١١، وبدأ القتل في الأسبوع الأول لهذا الحراك، خاصةً قتل الشباب ممن تصدروا واجهة هذا الحراك، حيث بدأ النظام بقمع شرس وفوري، وجرى في حمص ما جرى بعد شهر من بدء الحراك، حيث فُضّ اعتصام هناك سقط نتيجته عشرات القتلى، ولكن ما جرى أن رد الفعل المعارض ابتدأ يأخذ سمة العسكرة، وبسرعة ضوئية بدأت تتسلل إلى هذه العسكرة وتندغم فيها سمة الأسلمة، وهذا برز منذ صيف ٢٠١١، ومع ذلك بقي الصوت السلمي، والشبابي على وجه الخصوص، عالياً وأسطورياً، فكان من أنبل وأشجع التحركات ضد الأنظمة القامعة، فمئات الآلاف في حماة، في آب ٢٠١١، كانوا في الشوارع، وهذا ما كتبتُ عنه في روايتي “جداريات الشام”، لكن بالتوازي مع استفحال قمع النظام وتصاعد العسكرة والأسلمة، بدأ الصوت السلمي يتراجع، وبدأ الصوت الشبابي يخفت، حيث تمّت تصفية قسم كبير من الشباب على يد النظام، أو فرّوا، أو مالت بهم الرياح باتجاه العسكرة أو الأسلمة.
أنا ضد العسكرة أو الأسلمة، كما أنني ضد القمع من أية جهة كانت، سواء النظام أو غيره… أنا ممّن يؤمنون بالسّلميّة، ولو أن الحراك بقي سلمياً لما فقدت سوريا من الضحايا أكثر من مئات الآلاف، لكنّ “لو” لا تفيد في حركة التاريخ.. يلتبس عليّ الأمر كمفهوم تاريخي، وكمصطلح سياسي للتعبير عنه.
بالنسبة للزلزال، وجدت أن هذا الوصف يحتمل معنى التغيير، ومعنى التخريب، ومعنى الدمار، وعندما بدأتُ باستخدامه، قام أحد الكتاب المرموقين من المعارضين السوريين، وكنت كتبتُ عن رواياته باحتفاء دون أن أتعرف إليه، وأقصد فوّاز حداد، الذي وجدتُ في إحدى رواياته تلوثاً بالطائفية. فجُنّ جنونه، وهو كاتب وصديق محترم، لكنّه بدأ يسوّق على أن استخدامي لوصف الزلزال هو هرب من استخدام وصف الثورة لما يحدث في سوريا، ولحق به بعض من طالتهم الغربة والمنافي والهجرة، أو أوقعتهم الثأرية من النظام بضباب النظر، وهناك أكثر من آخر تقوّلوا على استخدامي لهذه الكلمة ما تَقَوّلوه .. الآن، وبعد ثلاث إلى أربع سنوات من استخدامي لوصف الزلزال، باتت مفردة طاغية تُستخدم بكثافة ليس فقط في الشأن السوري فحسب، وهذا يسعدني بقدر حزني السابق على التسرع والسطحية اللذين ووجه بهما هذا المصطلح، فحتى لو كان خطأً، فالأجدى الحوار من أجل التصحيح بدلاً من التخوين.
هل برأيك ثمة ما يمكن وصفه بالربيع العربي؟
بدأ الأمر كذلك، ولكنه لم يستمر على هذه الشاكلة… كنت من المتفائلين جداً بهذا الحراك، وأتذكر أن حواراً أجراه معي صحفي يمني يقيم في السعودية رفعت صوتي بشعاراتية عالية بأن “دقت ساعة الربيع العربي”، لكن للأسف كلّ ذلك حُوّل إلى خراب ما بعده خراب ليس في سوريا وحدها، وليس فقط بسبب الأعداء، وليس فقط بسبب الأنظمة وقمعها وما أدراك… هناك أسباب عديدة جعلت من هذا الزلزال مدمراً في سوريا أو ليبيا أو اليمن.
التجارب السورية والعراقية واليمنية والليبية تجارب تتطابق إلى حد كبير، مع الإدراك بأن ثمة تفاصيل تميّز بين هذه التجربة وتلك، أما التجربة التونسية فهي مغايرة، والمعاناة فيها كانت كبيرة، وعلينا ألّا نتوهم بانتصار ثورة الياسمين “بغمضة عين”، مع العلم أن العدد الرسمي الذي أعلن عنه من الشباب التونسي المتأسلم الذي جيء به إلى سوريا عبر تركيا، ثلاثة آلاف شاب تونسي، إضافة إلى النساء، وهذا مؤشر مجتمعي خطير بالنسبة لتونس.
الآن في الانتخابات الرئاسية التونسية ثمة أمران فظيعان، أولهما النسبة المتواضعة للمشاركة في هذه الانتخابات، والثانية أن النتائج كانت بمثابة صفعة إلى كل القوى السياسية الحاكمة والمعارضة في تونس، من حركة النهضة إلى الجبهة الشعبية، والأمر “الطريف” الآخر، وهو مؤشر نقيضين ديمقراطي وقمعي في آن، هو اعتقال أحد مرشحي الرئاسة مؤخراً، الّذي هو نفسه الآن أحد المُنافِسَيْن في دورة الإعادة على رئاسة الجمهورية التونسية… هذه الفنتازيا العربية عجيبة غريبة.
تجربة السودان مميزة جداً جداً، وفي أسوأ وأسود لحظات اليأس جاءت الثورة السودانية لتعيد إلينا الروح قليلاً… في الجزائر أنا متشائم، فالمؤسسة العسكرية والنظام القديم لا يزالان يحكمان، بل إن القيادة العسكرية الآن متشددة إزاء الربيع الجزائري أكثر فأكثر، ولا أظن أن المستقبل الجزائري سيكون كحال التجربة السودانية أو التونسية، وأتمنى أن أكون مخطئاً.
لأعود إلى الرواية والحديث عن داعش… باتت في فترة ما ولا تزال نسبياً الكتابة الروائية وحتى التسجيلية عن مرحلة حكم داعش رائجة، وكأنها “موضة”، لدرجة صدور روايات بعناوين غريبة تبدو للاستهلاك التجاري مثل “حبيبي داعشي” وغيرها، هل هناك ما يمكن تسميته مجازاً في الرواية الداعشية ليس من باب الترويج بل من باب الرصد؟
لا أوافق على مصطلح “الرواية الداعشية”، هناك بعض الأعمال التي تناولت هذه الزاوية، ولا أعرف في سوريا إن كان هناك عمل روائي غير روايتي “ليل العالم”، ربما شهلا العجيلي في روايتها “صيف مع العدو”، قد تطرق إلى الأمر، ولكن لم يكن الحديث عن داعش محورياً، ولا يوجد بين بقية الأعمال، في حدود اطلاعي، عمل إبداعي مهم يعالج هذه الحقبة الزمنية، مع وجود العديد من الأعمال السطحية في هذا الجانب، لكن الشاب التونسي هادي يحمد سجل في كتابه “كنت في الرقة” ما رواه له محمد فاهم أحد التونسيين الذين انضموا إلى داعش، فهي سردية سيرية وثائقية، ويتحدث فيها عن الكثير من التفاصيل ما بين التجند والاستفاقة، وكان أحد الفارين من داعش… أدبياً يبدو العمل متواضعاً، لكنه إنسانياً يحمل من الحساسية الكثير.
لي صديق يدعى إبراهيم الخليل، كان فرّ من الرقة بعد السيطرة الداعشية عليها، وكلمني بعد العودة إليها عن بيوته الثلاثة المدمرة، وأنه كتب رواية من المفترض أن تكون عن هذه المرحلة.
كُتبت الكثير من الروايات والأعمال الأدبية حول الأزمة السورية، أو ما تصفه بالزلزال، حتى أنه لا يمر عام منذ ٢٠١١، إلا ويصدر عن العديد من دور النشر العربية في مختلف الدول روايات لكتاب سوريين في المجمل حولها… هل بات برأيك ما يمكن تسميته برواية “الأزمة السورية”؟
بالنسبة لي، كتبتُ عن أكثر من خمس وعشرين رواية تتصل بالزلزال السوري، وأغلبها كتب ونشر في الخارج، وقرأتُ ربما ما نسبته ٩٠٪ ممّا كُتب في هذا الاتجاه في السنوات الأخيرة، وبعض هذه الروايات المتواضعة فنياً احتفيت بها نكايةً بـ”كذا وكذا”، مع أنها لا تستحق الاحتفاء فنياً، وأحيان يضطر الواحد منا لذلك في ظرف ما لغرض ما، وأقولها بصراحة… لكن الآن بات هناك مدوّنة كبرى لأكثر من خمسين رواية بعضها الأعمال الأولى لأصحابها، وبعضها لمخضرمين، وأغلبها لمن هم في الخارج، ممن خرجوا طوعاً (المنفى الطوعي)، أو ممن خرجوا مرغَمين،.. خرج عدد كبير من الكتاب السوريين ممن يعلو صوتهم في الخارج طوعاً بعد العام ٢٠١١، وهذا حقه.
في الدراسات الكثيرة التي قمت بها حول الرواية السورية في السنوات الثماني أو التسع الأخيرة خرجتُ بتصور مفاده أن أكثر هذه الأعمال متواضعة فنياً، وبعضها “سخيف” من الناحية الفنية، بحيث يقوم على الشعاراتية ويقع في مطب الثأرية من النظام، وبعضها تلوثت رؤيتها حتى بالطائفية… قلة قليلة من الروايات التي تمتعت بأهلية فنية عالية أذكر منها بعض روايات شهلا العجيلي، وخالد خليفة، ومها حسن، وهيثم حسين، وممدوح عزام، وغيرهم، ومن هذه الأعمال لكتاب وكاتبات مقيمين في سوريا حتى اليوم كخالد خليفة وممدوح عزام والناقد جمال شحيّد في دمشق، وأنا في اللاذقية، وسوسن جميل حسن التي تقيم ما بين اللاذقية وألمانيا، وبعضهم استُدعي لهذ الفرع الأمني أو ذاك لفترة وجيزة، وهذا كله من العجائب السورية.
أين القضية الفلسطينية من كتابات نبيل سليمان؟
دعيني أقول لكِ شيئاً… أنا فلسطيني من سوريا وسوري من فلسطين، ففلسطين بالنسبة لي وأعتقد بالنسبة للغالبية الساحقة (٩٩.٩٩٪) من السوريين في أردأ حالاتهم وأفضلها هي الأساس، فكل سوري فلسطيني رغم كل الخراب الروحي الذي جرى… فلسطين موجودة في بعض كتاباتي، ولكنها بوصلة الروح.
في ملتقى الرواية الأخير في القاهرة، كانت لي أحاديث مع الصديق الروائي الفلسطيني يحيى يخلف، وضمنها سألته: بتّ على مشارف الخامسة والسبعين، وجئتَ إلى الرقة، هل يعقل أن لا أذهب أنا إلى فلسطين؟! ويبدو ذلك، لأنه ليس بإمكان السوري زيارة فلسطين… أمنيتي أن أرى فلسطين وأزورها قبل أن أموت.
بعيداً عن الحديث ذي الشجون حول سوريا وفلسطين والزلازل العربية كما تحب تسميتها… ما رأي نبيل سليمان بالجوائز الأدبية العربية… إيجابياتها وسلبياتها؟
ليس فيها سلبيات، السلبيات في الكتّاب، وهذا ينطبق على المحكّمين الذين هم كتاب ونقاد ومن المفترض أن يتحلوا بالنزاهة والموضوعية، وأي خلل هنا فهو ليس فقط من المنظم بل من المحكّم والكاتب أيضاً… من حق من ينظم الجائزة أن يفعل ما يشاء، لكن تكالبنا والتنازلات والتواطؤات التي نقدّمها ككتاب هي الّتي أفسدت غالبية هذه الجوائز، مع أن لبعضها ميزة إيجابية واحدة، وتفي بحق الكاتب في التّمتّع بالمال قبل أن يموت… عشنا شبابنا كله على أن ارتداء ربطة عنق تجعلك متهماً بالبرجوازية… من حقنا أن نملك المال، ولو القليل منه، حتى إن رغبنا في المشاركة في فعالية أدبية لم نُدْعَ إليها، نستطيع المشاركة فيها على نفقتنا الخاصة!
كتبتَ عن سوريا في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وفي حقب كثيرة، هل تعبرها روايات تاريخية؟
طوال عمري لم أستخدم مصطلح “الرواية التاريخية”، بل أستخدم تعبيراً رديفاً أراه أكثر دقة وهو “الحفر الروائي في التاريخ”… كانت الرواية التاريخية في مرحلة من تطور الرواية العربية تتقفى التاريخ كثيراً كما عند جورجي زيدان، أو فريد أبو حديدي، أو محمد أرناؤوط. وفي النصف الثاني من القرن العشرين برز ما يمكن تسميته بـ”الحفر الروائي في التاريخ”، بحيث تتخلق الحادثة أو الواقعة أو الوثيقة من جديد، وحينها تصبح الكتابة الروائية هي الوثيقة، ووُفّق هذا المفهوم فالتاريخ نبع لا ينتهي، وكنز لا ينضب، وتنهل منه الفنون جميعاً .. الرواية تألقت كثيراً في هذا المجال، أحياناً بالاندغام مع روايات تحفر في الراهن، أو تحفر فيما مضى بعين على الراهن والمستقبل.
هناك من بات يقول بأن النقد يحتضر في العالم العربي، وربما عالمياً… ما رأيك بذلك؟
أمام حالة “الفوران” الروائي والشعري قد تبدو المحصلة النقدية متواضعة، لكن هذا “الفوران” أكثره زبد، وسيذهب جفاء… إذا كانت في العام الواحد تصدر على الأقل ثلاثمائة رواية عربية، لو كان منها ما نسبته خمسة بالمائة بمستوى فني متوسط فأعلى، فهذا جيد، بمعنى أننا إن كان لنا ذلك، سيكون لدينا في عشر سنوات قرابة المائة وخمسون رواية بمستوى جيد أو رفيع، وهذا في أسوأ الحالات… هذه الفورة لها علاقة بالنقد والعكس، وأكثر النقد يشكو من ضعف التطبيقي فيه، ومن طغيان الصحافي فيه، ومن تعالي الأكاديمي فيه ورطانتهم والتعالي على النص، لكن هناك نقاد كبار لا يزال لهم حضور عربياً، علاوة على أجيال جديدة من النقاد ممن سيكون لهم شأن كبير، لكننا بحاجة إلى الكثير في هذا المجال. لكني لست مع وصف الاحتضار، ففي الوطن العربي هناك نشاط نقدي متواضع يشكو من العلل التي أشرت إليها آنفاً، مع الإشارة إلى أن المراجعات الصحافية في أرقى دول العالم باتت فناً نقدياً رفيع المستوى، ولا يكلّف به إلا كبارهم فيه.
أنت الآن تنشر في الخارج، لكن على حد علمي، كانت لديك دار نشر… أليس كذلك؟
أسستُ دار الحوار للنشر عام ١٩٨٢، وعملتُ فيها برفقة زوجتي قرابة العشر سنوات، ثم نقلتُ ملكيتها إلى ابنتي الوسطى إيناس، وبدأتُ أنسحب تدريجياً، حتى أنني ولأكثر من ربع قرن متفرغ بنسبة ٩٠٪ للقراءة والكتابة، أما الدار فلا تأخذ أكثر من النسبة المتبقية على مستوى الوقت والجهد بحيث أشارك في قراءة المخطوطات وغير ذلك.
يمكنني أن أصفك بالروائي المقاتل… ألا تفكر بعد كل هذه التجربة الغنية بكتابة سيرتك الذاتية؟
لستُ مقاتلاً سيدتي… أنا مسالم… أما بالنسبة لموضوع السيرة الذاتية، فبكل صدق، وهو ليس تواضعاً على الإطلاق، لا أجد في حياتي ما يستحق أن يدون في كتاب سيريّ… صحيح أن هناك بعض اللحظات المهمة في تكويني، وداخل تجاويف الروح، لكنكِ تعثرين عليها في هذه الرواية أو تلك، فـ”هزائم مبكرة” فيها من السّيَريّة قدر لا بأس به، وكذلك “ليل العالم” حيث عدت فيها ما عجزت عن كتابته حول الرقة منذ دخولي إليها عام ١٩٧٦، وكذلك رواية “في غيابها”، و”مجاز العشق”، ولا أعتقد أن الناس مهتمون بمعرفة تفاصيل حياتي الشخصية أو يومياتي.