في المؤتمر اليهودي السادس في بازل سنة ١٩٠٣، صدم ثيودور هرتسل رئيس المنظمة الصهيونية العالمية مئات الحضور بمقترح قدمه له جوزيف شامبرلين وزير المستعمرات في الحكومة البريطانية آنذاك قبل ثلاثة أشهر من انعقاد المؤتمر. تضمّن المقترح إقامة منطقة حكم ذاتي لليهود في شرق إفريقيا، وهو المقترح الذي عرف لاحقًا بـ”خطة أوغندا“. هذه التّسمية المشتهرة للخطة تنطوي على وصف غير دقيق جغرافيًا لأن تلك الأراضي الخصبة، وهي هضبة شاسعة وسهلية قريبة من بحيرة فكتوريا، ستصبح بعد الاستقلالات الأفريقية جزءًا من دولة كينيا، وتعرف باسم ”أوسين غيشو“.
انطلق اقتراح شامبرلين من عدة مصالح امبريالية وسياسية بحتة، وجاء بعد أكثر من لقاء مع هرتسل الذي طلب في البداية منح اليهود مكانًا في قبرص أو سيناء، وتحديدًا العريش. فمن ناحية أولى وبعد زيارة شهيرة له لشرق إفريقيا في أواخر عام ١٩٠٢ انطلق فيها من مومباسا على الساحل الكيني قاطعًا الأراضي الكينية ثم الأوغندية، انبهر شامبرلين بجمال وغنى المنطقة ونُقل عنه قوله ”إن هذه البلاد هي أراض للرجل الأبيض“، وترسّخت في ذهنه فكرة استيطان وامتلاك تلك المناطق وليس فقط استعمارها لفترة ثم الرحيل عنها. تُرجمت هذه الفكرة على شكل سياسة حكوميّة تبنتها وزارة آرثر بلفور، الذي كان رئيس الوزراء آنذاك، ولأجل تحقيق هذا الطموح الاستيطاني، كان لا بد من استجلاب سكان ”بيض“ يستعمرونها ويتملكون فيها وتصبح وطنًا لهم، وبالتالي تتعزّز السيطرة البريطانية في شرق إفريقيا.
لم يكن من السهل إقناع ونقل كتلة سكانية كافية من الإنكليز للانتقال هناك، أو حتى إغراء أجناس أخرى بيضاء أو غير بيضاء لكن تدور في فلك الإمبرطورية البريطانية، مثل أن يكونوا من فنلندا او الهند، كما اقتُرح. بيد أنّ المجموعة التي توضّح فورًا أنّها الاسهل لجهة التحكم فيها وتهجيرها وتوظيفها فكانت يهود أوروبا الشرقية وروسيا الواقعة تحت الاضطهاد والتمييز في تلك البلدان. ومن ناحية ثانية فإن مشروعًا تهجيريًا لليهود من أوروبا على هذا النحو سوف يقلل من مستويات لجوء أولئك اليهود إلى بريطانيا، وهو ما سيحقق له شعبية في أوساط الناخبين البريطانيين الذين كانت تتفاقم في أوساطهم مشاعر اللّاساميّة وكراهية اللاجئين اليهود. وفي ذات الوقت الذي ستظهر فيه بريطانيا أمام الأوروبيين جميعًا بأنّها صاحبة اليد العليا في حل ”المسألة اليهودية“، فإنها سوف تموضعهم لخدمتها في شرق إفريقيا لكونها هي وليس غيرها من يملك شريان الحياة لمثل مشروع كهذا.
كان المستوطنون الانكليز البيض في كينيا أشدّ المعارضين لفكرة منح اليهود وطنًا قوميًّا هناك، وهم الذين تملّكوا الأراضي الأكثر خصوبةً والأفضل في البلاد. وأطلقوا حملة سياسية وإعلامية كبيرة ضد المشروع، تمثلت في عرائض ورسائل إلى الصحافة البريطانية في لندن، إضافةً إلى ما حفلت به جريدتهم الأكثر تأثيرًا في نيروبي ”أفريكا ستاندرد“ من مقالات متواصلة ضد الفكرة. وقد كشفت تلك الحملة مقدار الكراهية لليهود كجنس وفضحت عمق اللاسامية المتجذرة في أوساط المستوطنين البيض الذين وصفوا اليهود بكل الأوصاف الاحتقارية وبأنهم ”حثالة الأرض“ وأن قدومهم إلى كينيا سوف يدمر نقاء المشروع الاستيطاني الأبيض. كما تصدّرت الكنيسة الإنكليزية أيضًا حملة التحريض ضد اليهود بحجّة أن مصلحة المسيحية في كينيا تقتضي بعدم قدوم هذا الجنس المغضوب عليه من الرب إلى البلاد.
تحمّس هرتسل للمشروع ورأى فيه إنجازًا هائلًا إذ إن فكرة وطن قومي لليهود يتمكنون فيه من حكم أنفسهم بأنفسهم لم تصبح على أجندة الدول الكبرى وحسب، بل وفي أقل من ست سنوات تجسدت بالفعل على شكل عرضٍ مغرٍ من الإمبرطورية البريطانية نفسها. وبالفعل، فقد تضمن العرض البريطاني إقامة منطقة خاصة باليهود وتُدار عبر حكومة يهودية وفقًا لما يراه اليهود من قوانين وتشريعات، واشترط هرتسل أيضًا أن تتحكم تلك الحكومة بقوانين الهجرة والدخول إلى المنطقة المعنية. آنذاك كان هرتسل مُحبَطًا بسبب تعثّر محاولاته في إقناع السلطان عبد الحميد بفكرة السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين بشكلٍ جماعي مقابل مساعدة الدولة العثمانية المُتهالكة في تسديد ديونها الباهظة للدّول الأوروبية. لهذا فقد انطلق تأييده لـ”خطة أوغندا“، ومعه كثير من الرموز اليهودية القيادية آنذاك مثل ليو بنسكر واسرائيل زانغويل، من أنّ الهدف الأكثر إلحاحًا على الحركة الصهيونية كان إيجاد ملجئٍ فوري ليهود أوروبا الشرقية، وخاصةً روسيا وبولندا، بسبب تصاعد اللاسامية ضدهم وليس انتظار ما بدا وكأنه بعيد المنال، وهو فلسطين.
في المؤتمر المذكور وإثر عرض هرتسل المقترح صُدم الكثيرون وأطلقوا ضدّه معارضة شرسة إلى درجة اتّهام هرتزل بخيانة المشروع الصهيوني وترك حلم فلسطين. وكان يهود شرق أوروبا أشد المعارضين رغم ان الميزراحيّين منهم أيّدوا هرتسل لقناعتهم الدّينيّة بعدم جواز العودة إلى ”أرض الميعاد“ قبل تصريح جلي وعلامات واضحة من الرب. أما يهود غرب أوروبا فقد أيّدوا هرتسل وتحمّسوا للفكرة بكونها الأسرع والأكثر عملية لإيجاد وطن يمثل الملجأ الفوري ليهود أوروبا.
رغم المعارضة الواسعة للفكرة إلا أنّ هرتسل أقنع المؤتَمِرين بالموافقة على إرسال لجنة استكشاف إلى كينيا تدرس الوضع على الأرض وتقدّم تقريرها للمؤتمر السابع، الذي خُوّل البت في الموضوع إليه، وهو ما حدث. وقد انشغل يهود أوروبا بمقترح أوغندا لما يقارب السّنتين وأشعل النقاشُ حوله مرارت واتهامات بل وانشقاقات في قلب الصهيونية. ويذهب البعض للقول بأنّ موت هرتسل المفاجىء، وقبل انعقاد المؤتمر السابع سنة ١٩٠٥ يعود إلى الضغط النفسي والجسدي الذي تعرّض له وسط ذلك النقاش.
جاء تقرير اللجنة الميدانية المكوّنة من ثلاثة خبراء خلافيًا، حيث أيّد المقترح واحدًا منهم فيما عارضه اثنان. والمفارقة شديدة الحدة تمثلت في التّسويغ الذي قدّمه عضوا اللجنة لتفسير رفضهم المقترَح، وهو كون الأرض الأفريقية خالية من السكان وغير معمورة أو مزروعة ولا تصلح بالتالي لأن تكون وطنًا لليهود. وكأن ما يصلح لأن يكون وطنًا لهم يجب أن يكون مأهولًا بالسّكّان – على خلاف الأطروحة الزائفة التي ظلت تردد بأن اليهود يبحثون عن أرض بلا شعب لهم كشعب بلا أرض… ويستهدفون فلسطين لأنها تتوافق مع تلك الرؤية.
كان زئيف جابوتنسكي، أحد عتاة اليمين الصهيوني والأب الروحي للصهيونية التصحيحيّة المُنشقّة عن المنظّمة الصهيونية العالميّة، متردّدًا إزاء مقترح شرق إفريقيا، ونُقل عنه القول بأن ليس لديه أيّ حبّ رومانسي من نوع خاص لفلسطين، لكنّه مولَعٌ بفكرة الوطن اليهودي. جابوتسكي، ذو التعليم العالي والنزعة البرجوازية، كان غربي الهوى رغم ولادته ونشأته في أوديسا في أوكرانيا، وكان علمانيًا يميل إلى فكرة إيجاد ملجئ لليهود بالسرعة الممكنة، وليس بالضرورة في فلسطين. لكنّه حسم أمره باتّجاه فلسطين لقناعته بأن البعد الديني هو الوحيد الّذي يمكن أن يحرّض يهود أوروبا الشرقيين على الهجرة. لذلك، اصطفّ جابوتنسكي في نهاية المطاف مع الرّافضين لفكرة شرق إفريقيا، التي ماتت عمليًا سنة ١٩٠٥.
جابوتنسكي نفسه وفي رحلة بالطائرة من جنوب إفريقيا سنة١٩٣٧، مرّت طويلًا فوق كينيا في طريق العودة إلى أوروبا، بهَرَه جمال البلاد وخضرتها وامتداد أرضها السهلية، ونظر إلى المنطقة التي كانت محطّ المقترح البريطاني. ونُقل عنه قوله حينها: ”أعرف أنّه علينا الآن أن نُركّز كل بوصلتنا على فلسطين، لكن لا أملك إلّا أن أتساءل إن كنّا قد أخطأنا في رفضنا لفكرة أن تكون إسرائيل هنا ووفرنا الكثير من الوقت“.
في المقابل ومن ضمن القيادات الثانوية التي أيّدت ”خطة أوغندا“ بقوة كان هناك إليعازر غولدريتش الذي كان يُسمّي نفسه ”أمير القدس“، وهو شقيق رئيس الاتّحاد الصهيوني الأفريقي. كان غولدريتش مقتنعا بأن الأرض الحقيقية والأفضل لإقامة وطن قومي لليهود عليها تقع ما بين نهر النيل والفرات والتي تمتد لتتضمن أيضًا شرق إفريقيا (جنوبًا من مصر)، وشهدت ولادة الإسرائيليّين الأوائل.
غولدريتش صبّ غضبه على المؤتمر الصهيوني السابع الذي رفض خطة شرق إفريقيا، واتّهم المنظمة الصهيونية بالخداع واعتماد تقرير غير كاف من قبل البعثة التي أُرسلت لكينيا وزارت جزءًا صغيرًا فقط من الأرض الّتي منحتها الحكومة البريطانية لليهود. وكانت تقارير ذكرت أن اللجنة الثلاثية الميدانية تم تضليلها من قبل المستوطنين البيض في كينيا وأُخذت إلى أرض جرداء منفّرة، وليس إلى الأرض الأصلية الواردة في الوعد البريطاني. وصف غولدريتش بعض أعضاء المؤتمر بالمتنمّرين والعاهرات الذين تسببوا في وفاة هرتسل بسبب استحواذ فكرة فلسطين على عقلهم. إضافةً إلى تأييد غولدريتش، كان الحماس والتأييد الأهم لـ”خطة أوغندا“ قد جاء من المفكر الصهيوني المؤثر اسرائيل زانغويل، الذي رأى في رفض المؤتمر السابع للخطة خطيئة كبرى، خاصة وأنّ المقترح يأتي من بريطانيا وفي عرض رسمي لليهود لم يتسلموه من أية قوة عظمى في كل تاريخ الشتات اليهودي. وجادل بأن الحال اليهودي مقلوب رأسًا على عقب، ففي حين أن الوطن الأم هو الذي يُنشئ المستعمرة، أو المستعمرات، كما في الحالات الأوروبية الكولونيالية التقليدية، فإن الحالة اليهودية مُختلفة إذ أنّ المُستعمرة هي الّتي سوف تُنشئ الوطن الأم.
انشقّ زانغويل عن المنظمة الصّهيونيّة العالمية وأسّس منظّمة خاصّة به هدفها البحث عن أرض لليهود غير فلسطين. وشرع في جهود فردية مع وزارة الخارجية البريطانية لإعادة فتح ملف كينيا – أوغندا، وضمّت بعض مراسلاته مع الوزارة رسائل استنجاد من يهود أوكرانيا بسبب تعرضهم لقمع متزايد من الحكومة الروسية. واستغاثت إحدى تلك الرسائل بزانغويل وحثّته على التّواصل مع الملك البريطاني لمنحهم الأرض في أوغندا: ”الأمة اليهودية بأسرها تريد أوغندا… حياتنا ليست آمنة ونريد أن نغادر هذه الأرض الملوثة بالدماء“. ظلّت ”خطة أوغندا“، وبرغم رفض المنظمة الصهيونية العالمية رسميًا لها، تتردّد بقوة على أجندات الكثير من الصهاينة ولم تذوِ بشكل نهائي إلّا مع صدور تصريح بلفور المشؤوم والشهير عام ١٩١٧.