لم يجد جريم جيلوتش نفسه، عندما بدأ العمل على أعمال فالتر بنيامين أمام نصوص واضحة ومستقرة. بالأحرى، فقد وجد نفسه أمام أشباح نصوص في الكثير من الحالات، إذ تمثل كتابات بنيامين تركيباً معقداً، ومزيجاً انتقائياً ومتشظياً إلى حد كبير من المفاهيم والموضوعات المستقاة من مجموعة متنوعة من المصادر. وذلك لأن بنيامين، على الرغم من المشروعات الهائلة التي كان ينوي تنفيذها، إلا أنه لم يتم سوى مشروعات قليلة ومجتزأة.
اهتم كتاب «تراكيب نقدية» (٢٠١٩) لجريم جيلوتش، الصادر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” على تقديم دراسة مختلفة لأعمال فالتر بنيامين، تتكئ على استعارة أساسية، وتقترب الدراسة إلا أن تكون عملية تركيبية. وهو شكل مكوّن من عدة نقاط تؤلف نسقاً مفهوماً وواضحاً يمكن من خلاله أن نفهم فالتر بنيامين في صورة كلية.
وعلى سبيل المثال، لم تشكل كتابات بنيامين حول التصوير ووسائل الإعلام مثل الراديو والسينما نظرية متماسكة ومنظمة بشأن وسائل الإعلام الجماهيرية، ولم يكن هذا هو القصد منها أصلاً، لكنها تعد من أعماله الموحية الآن، إذ يُنظر إليها منظرو السينما والإعلام المعاصرون على أنها نقاط انطلاق أساسية.
تأسيس النقد بوصفه جنساً كتابياً
تبدو الرسالة التي بعث بها فالتر بنيامين إلى صديقه الحميم، الباحث في الدراسات اليهودية جرشولم شوليم كاشفة إلى حد كبير، إذ على الرغم من أن الرسالة في الأساس، كما هي كل رسالة، يفضي بها بنيامين بشجونه إلى صديقه، إلا أنها تظهر بوضوح طموح بنيامين بالنسبة للنقد الأدبي.
في ذلك الوقت، لم يكن يُنظر إلى النقد الأدبي في ألمانيا على أنه جنس يمكن الكتابة فيه، ولذلك، كان على بنيامين، حتى يكون الناقد الأدبي الأبرز في عصره، أن يعيد خلق النقد من جديد بوصفه جنساً. وهكذا، دمّر النقد التقليدي السائد في عصره. ولئن كان النقد في تلك الأيام ينتمي إلى الممارسات البرجوازية الجمالية التقليدية، فقد ذهب بنيامين إلى أن تكون نصوصه ذات اتجاه ماركسي صريح. فقد كان عليه أن يكتشف أشكالاً جديدة من النقد وسط الأنساق الاجتماعية والسياسية والثقافية المتحولة في فترة ما بين الحربين.
اتجه بنيامين إلى ابتكار أشكال أخرى مسيسة جذرياً للفن والجماليات، ولم يستعن في سبيل تكوين تلك الأشكال بالأكاديميا التقليدية، بل أملتها عليه الضرورات الاقتصادية التي كانت تحدق بالمثقف في ذلك الوقت، على اعتبار دوره الرائد في المجتمع. كان عليه إذن حتى يدمر النقد التقليدي، أن يخرج بالنقد إلى منطقة أخرى بعيداً عن النقد الأكاديمي العتيق.
لذا هُمش بنيامين كناقد بارز لأكثر من خمسين عاماً، إذ بتحرره من الأشكال التي رسخها النقد البرجوازي الزائف، كان قادراً على تطوير أشكال مبتكرة من النقد الأدبي والاجتماعي.
وقد كان للتبصر الذي تحلى به بنيامين دورًأ في إرساء قواعد جديدة للنقد، والذي تفيد بأن النصوص والصور لها وجود مستقل، أو حياة خاصة بها تتخطى غايات مؤلفيها. إذ أن المؤلف هنا لا يحدد دلالة النص ومعناه لحظة الكتابة، بل أن النص، منذ وجوده يصير محل نزاع دائم، ويقبل الدخول في سياقات جديدة وذلك عبر النقد والقراءة المستمرتين.
يقوم الكتاب على فكرتين رئيسيتين، الأولى أفكار بنيامين التي تتركز على أن ثمة حياة لاحقة للعمل الفني، والثاني هو شخصية بنيامين، ويتناول جريم جيلوتش شخصية بنيامين كمهندس متعدد التقنيات. إذ يلتقط الكاتب فكرتين من أهم أفكار بنيامين الجدلية، وهي الهدم وإعادة البناء. فكل حياة لاحقة لنص ما، تجرده من بعض مزاياه الأصلية، وتكسبه في المقابل إضافات جديدة، وكلما تعرض النص لتبدلات وتحولات، ظهرت دلالته وطاقته الكامنة.
يمكن أن يساعدنا اهتمام بنيامين بالنص في حياته اللاحقة في ضرورة النظر إلى مفكرنا بوصفه مفكراً معاصراً، إذ على الرغم من أن أعماله كانت تكشف أشكالاً تاريخية مغمورة لأعمال ما عادت تُقرأ، إلا أن مقصده من تناولها نقدياً كان دائماً مقصداً راهناً وسياسياً.
من هذه الأشكال التي أكل الدهر عليها وشرب هو الموضوع الذي اختاره بنيامين لنيل شهادة الأستذة، وهو مسرح الرثاء الألماني في القرن السابع عشر، وهي أعمال قد صُرف النظر عنها في ذلك الوقت، ووُصفت كتراجيديا رديئة وغير أصلية، وقد طواها النسيان بحكم أنها أعمال منافية للعقل لوقت طويل، قبل أن يخرجها بنيامين ويميزها عن الأشكال التراجيدية الأخرى، ويعيد تأويلها وإحياءها بصفتها تعبيراً جوهرياً عن ضعف الوجود الإنساني. هكذا، أظهر بنيامين أهمية المجاز في هذه الأعمال بوصفه صورة بلاغية تعبر عن العالم الذي “تفسخ وامتلأ بالتشظي والخراب والخزي”.
بنيامين… نظرة على الترجمة
لم أجد أجمل من تفسير فالتر بنيامين لفعل الترجمة. فعلى اعتبار أن الله قد دعا آدم كي يسمي الخليقة ( قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ)، فإنه بعبارة أخرى، دعا آدم كي يترجم كلمة الله المقدسة إلى البشرية.
لا يعتبر فالتر بنيامين هنا اللغة مجرد واسطة أو أداة لنقل العلامات المتعارف عليها، أو أنها علاقة اعتباطية بين الدال والمدلول كما اعتمدت ذلك بعض مدارس اللغة، بل هي علاقة يتكفل بها الله بالأساس، وهكذا يكون أصل اللغة سهلاً على الإنسان، إذ لم يكن ثمة واسطة بينه وبين الله، فيصل البشر فوراً إلى كلمة الله الموحاة.
لكن ينقطع فعل الترجمة عند السقوط، سقوط الإنسان في الاختبار الإلهي، إذ أن الله لم يكن يختبر آدم في نهيه عن الأكل من الشجرة المحرمة بل كان الاختبار أساساً في أداء آدم لفعل الترجمة نفسه حين استقبل من الله كلمته الموحاة. ولما أخطأ آدم في تفسير كلام الله لم يعد الثاني يتكفل بالتسمية، لم يعد هناك اسم واحد لكل دال فتعددت الأسماء وتشوشت وبدأت تعددية لغات البشر.
عند قراءة بنيامين يجب أن نعلم أن كتاباته تنتمي إلى قطاع كبير من معاصريه في ألمانيا، وتحديداً الجيل الأول من مفكري مدرسة فرانكفورت النقدية، إذ وسمت هذه الكتابات أحداث تاريخية كارثية، الحرب العالمية الأولى، الفوضى الاقتصادية والتضخم والثورة الروسية وتدهورها.
في هذه البيئة الثقافية المتقلبة، أدرك بنيامين ضرورة إعادة النظر ليس فقط في عمل النقد، بل في مهام الكاتب وأساليبه بوصفه مؤلفًأ وناقداً ومؤرخاً. واستكمالاً للعمل النقدي فضّل بنيامين اتباع أسلوب في كتابته ينم عن ممارسات نصية أكثر آنية وتفجراً وأسرع زوالاً، إذ ابتكر صيغاً من القراءة النقدية تتناسب مع الحداثة وانتقائيتها وتتميز باللّايقين. بعبارة أخرى، فضل بنيامين استخدام اللقطة النصية والقول المأثور على ممارسات نصية أخرى تميل إلى الشمولية واليقين.
حدد بنيامين علامات جديدة للنقد التقدمي والثوري، بل ورسم حدود ومكان المثقف الراديكالي بوسفه فناناً وكاتباً وناقداً داخل العلاقات الرأسمالية السائدة للإنتاج وإعادة الإنتاج.
المدينة المتروبولية وسيطرة رأس المال
نظر بنيامين إلى البيئة المتروبولية التي تتوسع أكثر فأكثر وتتغير بشكل دائم على أنها الموقع الرئيسي للسيطرة الرأسمالية، ورأى في دراسة الأشكال المعمارية في المدينة مفتاحاً لكشف سمات الحداثة، وقد نتج عن افتتان بنيامين الدائم بالمدينة الكبيرة وفرة من الكتابات التي تعبّر عن التجارة المميزة للحياة المدينية الحديثة والنزعات الأساسية في تأثيرها على الإنسان: إحساس بالتوهان وفقدان الذاكرة: الخصخصة.
غير أن المدينة الكبيرة بالنسبة له لم تكن موقعاً للاغتراب فحسب، فقد تصوّر المدينة مكاناً للابتكار الثقافي والإثارة الفكرية، ومكاناً للمغامرات الجنسية والسفسطة. فقد كان واعياً أنه على الرغم من أن الحياة المدينية صادمة، إلا أنها لا غنى عنها بالنسبة إلى الناقد الحديث. وهكذا ترفض كتابات بنيامين عن المدينة المتروبولية رفضاً واضحاً الاتجاه الرجعي المعادي للمدينية الذي اعتنقه بعض النقاد.
دائماً ما ترتبط المدنية المتروبولية بسيطرة الأجهزة البيروقراطية، وفي عالم مزقته الأحداث الكارثية، ووُسم بنزع الطابع الشخصي عن الحياة اليومية، كان بنيامين، مدركاً تماماً للوجود الفقير للفرد في العالم الحديث، خاصة المثقف، الفرد الأكثر تعرضاً للتهميش والتشهير. لذا كان بنيامين مثقفاً منعزلاً، إذ لا يقتنع المثقف بالتأمل اللاهوتي الزائف الذي يكثر في تلك الأزمنة، ولا يتأثر بالحمية الثورية الساذجة.
بنيامين وبريخت… صداقة وثيقة
بدأت أعمال برتولد بريخت تجذب اهتمام بنيامين النقدي في بداية الثلاثينيات، وبدأ مع ذلك التعاون بينهما على تحرير مجلة “الأزمة والنقد”، وعلى الرغم من أن تلك المجلة لم يصدر منها عدد واحد، إلا أن علاقة الصداقة قد توطدت وازدادت حدة دفاع بنيامين النقدي عن أعمال بريخت.
إلا أن تلك الصداقة قد قوبلت بمزيج من القلق والكراهية من قبل هروكهايمر وأدورنو، زميلا بنيامين في معهد فرانكفورت للنقد الأدبي. ففي حين ثمّن بنيامين صداقته الفكرية مع بريخت، ارتاب الزميلان من التأثير المعاكس غير المرغوب به لتلك الصداقة على بنيامين، وفي حين قبل بنيامين التحدي الذي يوفره تفكير بريخت الفج، احتقرا ذلك بصفته سذاجة محضة، واعتبرا أعمال الكاتب المسرحي لهواً لا لزوم له، وتغريباً لاهتمامات بنيامين الفكرية الأصيلة.