دون أدنى قدر من الضجيج كانت تعمل على مشروعها الخاص، المشروع الذي لم يتأثر بما يريده السوق وإنما بشغف لأقل قدر مستخدم من الكلمات وأكبر قدر متاح من المعاني، وكانت القصة القصيرة ملعبها الذي راهنت عليه وراهن عليها لتكسب الرهان مؤخراً، القاصة الفلسطينية شيخة حليوي التي لم تسبقها شللٌ مهدت لها الطرق ولا مناصب قد تفرش لها الدروب جوائز بل اعتمدت على نساء قريتها البدوية، حكاياتهن وتفاصيلهن التي اشتغلت منها بحرفية مجموعتها القصصية الأخيرة «الطلبية C345» مما منحها الأحقية بالفوز بجائزة ملتقى القصة العربية بجدارة واستحقاق وسط دهشة الكثيرين ممن لم يسمعوا باسمها قبل الجائزة، وقد كان لـ “رمّان” هذا الحوار مع القاصة الفلسطينية شيخة حليوي حول مجموعتها الأخيرة وفوزها بهذه الجائزة المهمة.
فوز كبير ومهم بجائزة الملتقى العربي التي صار لها وزنها الثقيل في الوسط الثقافي. كيف تلقيت خبر الفوز بهذه الجائزة ومن الذي خطر ببالك في تلك اللحظة بالذات؟
فرح كبير لا يُمكن وصفهُ وإحساسٌ غامر بالفخر. شعرتُ وكأنّ أيادٍ كثيرة تربّت على كتفي وتقول: عملٌ رائع شيخة. أحببتُ اسمي في تلك اللحظة وقد كنتُ بدأت أتصالح مع ندرته في محيطي الفلسطينيّ، كان رئيس اللجنة وهو يتلو اسمي بعربيّة ملحونة كأنّه يتلو عليّ شريط حياتي منذُ طفولتي في “ذيل العِرج” حتّى مطار الكويت. ليس زهواً أو تعالياً وإنّما شعور جديد مفاجئ بالثقة والإنجاز. أنا إنسانة أميل جداً للواقع ولكنّي لا أتوقّف عن الحلم وعن السعي بجهد ومُثابرة لتحقيق أحلامي، ولا أعني الجائزة تحديداً، بل الاعتراف بأنّ ما أكتبهُ يستحقّ أن يصلَ إلى القارئ العربيّ، هو اعترافٌ يوازي الاعتراف بحقّي في الكتابة وحقّي في التخيّل وحقّي في الكلام.
القصة القصيرة لها خصوصيتها في عالم الكتابة ودائماً ما يخاف الكثيرون من الاقتراب منها فالقاص لا يمتلك الهالة التي تحيط بالشاعر أو الروائي إلا أنه وعلى الرغم من كتابتك بعض القصائد سواء على الفيسبوك أو في المواقع لكنك آثرت أن تعرفي نفسك ككاتبة قصة قصيرة من خلال إصداراتك بدءاً من «النوافذ كتب رديئة» وصولاً إلى «الطلبية C345»، أي وقود دفعك للقصة إذن؟
القصّة أقرب إلى عوالمي الّتي أعيشها، ما أقصدهُ أنّ الحياة علّمتني أن أحكي حكايتي كي أدفع عنّي الظلم والتهميش. كنتُ في مراهقتي في مدرسة راهبات الناصرة أختلق قصصاً وأحيك تفاصيلَ وهميّة فقط كي أطرد عنّي شبح التخلّف والجهل الّذي يرافقني كلّما ذكرتُ اسمي واسم قريتي الّتي أخرجُ منها كلّ صباح إلى مدرستي في حيفا. ثمّ لاحقاً كي أدفع عنّي إحساساً بالقهر والألم وأنا أعيش حياة لا تشبهني صرتُ أعيش كلّ يوم حكاية أنا بطلتها. أظنّ أنّ القصّ ولدَ معي كما اسمي وانتمائي وجنسي.
وكيف تحوّل ذلك كلّه إلى كتابة على الورق قبل سنواتٍ خمس؟ إنّه النضج والخوف منه معاً، النّضج الّذي يفرض سطوته على اللغة والخيال، النّضج الذي يقفُ للطفولة بالمرصاد ويشذّب ما نفر منها. كان لا بدّ أن أواجه هذا المأزق وأنا امرأة شارفت على الخامسة والأربعين (حينها) بالكتابة أو بتعبير أدقّ بالحكاية.
يتراوح كل شيء في قصصك (الأشخاص، الأماكن، الأحداث) يتراوح ما بين الواقع والخيال. كيف استطعت القبض على ملامح الفانتازيا وامتلاكها لتبدو شديدة الواقعية بهذه الدرجة وكأنك ترسمين فعلاً ما ترينه؟
لا أعرف ولا أملك إجابة واضحة أو دقيقة. أنا فعلا أرى الأشياء وأعيشها، أمسكُ بالفكرة البدائيّة للقصّة ثمّ أحملها مباشرة نحو مسرح الخيال. أعالج الفكرة على ذلك المسرح ودون تخطيط واعٍ منّي يتداخل العالمان حتّى لا أعود أميّز بينهما. هذه المجموعة بمجملها رسّخت لدي فكرة أنّ الخيال هو طوق النجاة الأمثل في هذا العالم ليس على مستوى النصّ المكتوب فحسب بل على مستوى النجاة، النجاة من مقصلة الحياة.
أغلب شخصيات قصصك أو أبطالها لو صح التعبير هم اللطخة السوداء على قماش أبيض، كائنات لا يقبلها المجتمع بحكم تقاليده، هل هو انحياز عميق للمنبوذين مجتمعياً؟
جدّا! انحياز تامّ لكلّ هؤلاء لأنّني كنتُ يوماً هناك، وما زلتُ هناك بحدّة أقلّ وبنفاق أكثر إتقاناً من الآخر الّذي يُمارس إقصاءه عليّ.
كنتُ امرأة في مجتمع أبويّ بطريركيّ وما زلت، كنتُ بدويّة في مجتمعٍ بدويّ وآخر مدنيّ وما زلت، كنتُ فلسطينيّة مقهورة في قرية غير معترف بها وما زلت في بيتٍ تضعُ السلطاتُ يدها عليه تحت مُسمّى “أملاك غائبين”، كنتُ إنساناً طموحاً شغوفاً طيّباً في عالمٍ فاسدٍ ومُزيّف وما زلت. أميلُ بطبعي لكلّ هؤلاء المنبوذين والمهمّشين والّذين يبدون خارجيّاً ضعفاء وأعرفُ تماماً أنّهم يملكون عوالم غنيّة لا يملكها من كان يتمتّع بالقبول وله صوت وكلمة مسموعة.
كلّما ضاق الخارج عليهم اتّسعت دواخلهم، كلّما ركنوا إلى زوايا تحميهم من الآخرين انفتحت أبوابٌ واسعة في خيالهم. من حظّي أنّني أستطيع أن ألج هذه الأبواب فقط لأنّني أطرقها من الخارج ويفتحون لي.
انتابني شعور وأنا أقرأ مجموعتك «الطلبيّة C345» أني أشاهد حياً من أحياء مدينة ما، أو ربما عائلة بكل تنوع أشخاصها وقصصهم وكأنك ترصدين هنا المجتمع بأكمله أو فلنقل الإنسان، هل أصبتُ في ذلك؟
صحيح. خاصّة أنّي أحرص على أن تكون القصص في المجموعة الواحدة متقاربة بالقدر المتاح، متقاربة في الشخوص وفي العوالم الّتي تعيشها وتعيش فيها. أشعرُ أنّ هناك نوعاً من العدوى الجميلة يحصل وأنا أكتب قصّة ما وأنهيها، يشبهُ مجموعة من الأطفال الخجولين، ما إن يتجرّأ أحدهم على الوقوف أمام الجمهور مغنيّاً أو متحدّثاً حتّى ينبري الآخرون واحداً تلو الآخر مطالبين بحقّهم في العرض وتقديم حكاياتهم.
ويبقى عليّ وأنا أكتب أن أرتّب حضورهم في القصص، أن أعطي لكلّ واحدٍ منهم فرصة الوقوف أمام الآخرين قائلاً: حان دوري وهذه حكايتي.
تميزت قصص المجموعة بتلك اللغة المجتزلة، حادة الذكاء والمراوغة، لغة قناصة لا تكف عن اللهاب خلفها، حادة ولا تقدم معلومات أو مشاهد مجانية رغم ذهاب بعض القصص إلى منطقة سرد أقل حدة، أكثر انسيابية وكأنك لديك مهمة عاجلة لا تنتظر تأجيلاً ولا تحتمل زخرفة أو محسنات. كيف بنيت هذه اللغة وحمولتها المعرفية والفكرية؟
أخجلُ ان أقول أنّي لستُ قارئة كتبٍ نهمة خاصّة في السنوات الأخيرة. كنتُ مرّة كذلك، ولكنّي صرتُ مقلّة وانتقائيّة أيضاً. قد يكون من المُضحك أنّ تكون أقرب الكتب إلى قلبي هي كتب النحو! كلّما سنحت لي الفرصة أعود لأقرأ فصولاً فيها بمتعة شديدة، لا شيء يُضحكني كنوادر النحويين. كما أنّي كنتُ أحفظ المئات من أبيات الشعر القديم، عاداتي القرائيّة تغيّرت كثيراً، أقرأ كتباً أقلّ وأقرأ الكون أكثر. أتأمل الوجوه والسلوكيّات والشوارع والبيوت وكلّ شيء حولي، أقتحمُ حيوات الناس من باب الخيال. ومع كلّ ذلك أنا أقدّس اللغة وأحترمُ ما تقدّمه من بلاغة. ولكنّي أمقتُ الحشو والزخرفات الزائفة وأعتبرها هدراً للفكرة ونقصاً في التعبير وجهلاً تامّاً في كلّ ما تقدّمه اللغة من عبقرية الاختزال والتكثيف.
نشهد في السنوات الأخيرة تزايد كتّاب القصة القصيرة خاصة مع وجود جوائز مخصصة لهذا النوع الرفيع من الكتابة، كيف ترين هذا المشهد فلسطينياً ودولياً وهل تعتقدين أنها مسألة “موضة أدبية” وستتراجع يوماً؟
قد تكون الجوائز محفّزاً لانتشار فنّ القصّة فلسطينيّاً وعربيّاً وهو أمرٌ محمود إذا ارتبط بإنتاج جيّد متجدّد ومختلف، وجائزة المُلتقى في عمرها القصير وعملها المُحايد النزيه أثبتت أنّها محرّك مهم لهذا الانتشار. غير أنّ ارتباط أيّ نتاج أدبيّ وفنّي بجائزة أو مكافأة غير القارئ يؤدّي في مرحلة ما إلى موجة من الأعمال الرديئة قد تؤدّي بدورها إلى تردّي مستوى القراءة والذوق القرائيّ.
رغم ذلك أشعر أنّ القصّة سوف تكون بعد سنوات في مقدّمة الكتابة وربّما تطغى على الشّعر والرواية إن لم تقف معهما جنباً إلى جنب. التقدّم التكنولوجيّ الّذي يتخلخل بسرعة إلى حياتنا سوف يفرض قراءة مختلفة لا تحتمل النصوص الطويلة كالرواية.