كتبها طارق علي ونشرتها الغارديان في ٢٥ مارس ٢٠١٧، وهذه ترجمتنا لها.
شكّل الأدبُ الثقافةَ السياسيةَ في روسيا أثناء نشأة فلاديمير ألييتش لينين، واجهت النصوص التي تحدثت في السياسة صراحةً صعوبة في النشر تحت حكم نظام القيصر. فقد اعتاد كُتاب المقالات على التخفي حتى “يتمكنوا من التعافي”، أي أن يتراجعوا عن كتاباتهم أمام الملأ. فيما شَهِدت مراقبة الروايات والأعمال الشعرية شيئاً من اللين، وإنْ لم تَسْلم بعض الأعمال.
كان القيصرُ المراقبَ الأكبر طبعاً، ففي حالة بوشكين، فقد أصر “أبو الشعب” نيكولاي الأول أن يقرأ الكثير من أبياته الشعرية قبل أن يسمح بطباعتها، ونتيجة لذلك مُنع البعض وتم تأخير نشر أعمال آخرين، فيما تم التخلص من الأعمال الأكثر جرأة على يد الشعراء الخائفين من اقتحام المنازل. فلن نتمكن يوماً من معرفة ما تضمنته أبيات يفغيني أونيغين الشعرية قبل أن تتعرض للحرق.
مع ذلك، تغلغلت السياسة بطرق أخرى في الأدب الروسي بشكل لا مثيل له في أي بلد أوروبي. بسبب تمادي الأدب الروسي في السياسة، كانت المخابرات الروسية أمام مهمة صعبة، إذ تلقت بنهم الصراع اللاذع بين الناقد ذي النفوذ فيساريون بلنسكي والكاتب الدرامي والروائي نيقولاي غوغول، الذي ساهمت روايته الساخرة «أرواح ميتة»، التي صدرت عام ١٨٤٢ في تنشيط البلاد، وقد تمت تلاوتها على مسامع الأميين.
كان النجاح سبباً في هلاك غوغول. فتراجع في عمل لاحق، كاتباً عن الفلاحين ذوي الرائحة الكريهة ومدافعاً عن الأمية. في مقدمة النسخة الثانية من «أرواح ميتة» كتب: “كثير مما كُتِب في هذا الكتاب خاطئ، إذ أنها لا تحدث على أرض روسيا. أطلب منك، عزيزي القارئ، أن تصحح خطأي، فلا تحتقر هذا الأمر. أنا أطلب منك القيام بذلك.”
صبّ بلنسكي غضبه عليه علانية عام ١٨٤٧، ووزع على نحو واسع “رسالة إلى غوغول”، تسبب من خلالها بليلة طويلة من الأرق لمتلقي الرسالة:
أعرفُ الجمهور الروسي قليلاً. نبّهني كتابكَ من احتمال أن يترك تأثيراً سلبياً على الحكومة والرقابة، ولكن ليس على الشعب. عندما أثيرت الشائعات عن احتمال قيام الحكومة بنشر آلاف النسخ من كتابك «مختارات من مراسلات مع الأصدقاء» في مدينة سانت بطرسبرغ ليتم بيعه بسعر زهيد، أصاب اليأس أصدقائي، لكنني أخبرتهم في حينه أن الكتاب لن يحقق أي نجاح وسُينسى بعد مرور وقت قصير. في الحقيقة، فإن هذا الكتاب يُذكر اليوم بسبب المقالات التي كتبت عنه فقط وليس بسبب ما فيه. نعم، يتمتع الروس بحدس عميق عندما يتعلق الأمر بالحقيقة، وإنْ كان بدائياً.
أصبح النقاد أكثر شراسة في سنوات لاحقة، فكانوا يشنون الحملات الإعلامية على كُتّاب الروايات والمسرحيين الذين اعتبروا أن كتاباتهم لا تتمتع بما يكفي من التمكين.
كانت تلك الحالةَ الفكرية التي نشأ فيها لينين. فقد كان والده المحافظ المثقف كبير متفشي المدارس في الإقليم، كما حظي باحترام كبير بصفته تربوياً. في المنزل أثناء نهار الأحد، كانت تُقرأ أعمال شكسبير وغوته وبوشكين وغيرهم. في منزل أسرة أوليانوف، كان “لينين” اسماً مستعاراً لخداع شرطة القيصر السرية، وللهرب من الثقافة الرفيعة.
وقع لينين في حب اللاتينية في الثانوية، وكان لمدير مدرسته آمالاً عظيمة بأن يصبح عالم فلسفة ودارساً للاتينية، لكن الأقدار شاءت بغير ذلك بالرغم من أن شغف لينين باللاتينية ومذاقه الكلاسيكي لو يتوقف قط. فقد قرأ النصوص الأصلية من أشعار فيرجيل وأوفيد وهوراس وجوفينال كونها خطبا رومانية. كما التهم أعمال غوته خلال عقدين قضاهما في المنفى، إذ كان يقرأ فاوست ويعيد قراءته مرات عدة.
أحسنَ لينين استخدام معرفته بالأعمال الكلاسيكية في المرحلة التي أدّت إلى ثورة أكتوبر ١٩١٧. ففي أبريل من ذلك العام، انفصل عن الأرثوذكسية الاشتراكية – الديمقراطية، ونادى من خلال سلسلة من الأطروحات الراديكالية بثورة اشتراكية في روسيا، وهو ما دفع بعدد من أقرب رفاقه لإدانته. في رد لاذع حاد، اقتبس لينين كلمات مفستوفيليس من تحفة غوته الفنية إذ قال: “النظرية يا رفيقي رمادية، لكن شجرة الحياة الأبدية خضراء”.
أدرك لينين اختلاط الكثير من الأدب الروسي الكلاسيكي بالسياسة، حتى أن أكثر الكتاب ابتعاداً عن السياسة وجدوا صعوبة في التصالح مع مشاعر الاحتقار تجاه الحالة التي وصلت إليها البلاد، وخير مثال على ذلك هي رواية «أبلوموف» التي كتبها غونتشاروف. أحبّ لينين هذه الرواية التي نجحت في تصوير خمول وكسل وفراغ طبقة النبلاء أثناء انحدار مستواها. تم الاحتفاء بنجاح الكتاب عند دخول كلمة جديدة على قاموس مصطلحات الروس، فكانت كلمة “الأبلوموفية” التي استُخدمت للإساءة إلى الطبقة التي ساعدت في استمرار الاستبداد لسنوات طويلة. يزعم لينين لاحقاً أن هذا المرض لم يقتصر على الطبقة العليا وحسب، بل أنه أصاب أجزاء كبيرة من البيروقراطية القيصرية وكل ما تلاها، كما لم يسلم منها حتى أكبر المتمسكين بالبلشفية. عكست المرآة التي ابتكرها غونتشاروف حقيقة المجتمع بشكل عام. لطالما هاجم لينين معارضيه في مجادلاته من خلال مقارنتهم بشخصيات كريهة، وأحياناً شخصيات ثانوية مستوحاة من الأدب الروسي.
اختلف كُتّاب البلاد وغيرهم على الأساليب اللازمة للتخلص من النظام. فقد دعمَ بوشكين انتفاضة ثورة الديسمبريين عام ١٨٢٥، والتي تحدت توريث نيكولاي الأول، كما سخر غوغول من اضطهاد العبيد قبل أن يتراجع بسرعة، فيما انتقد تورغينيف نظام القيصر في وقت مقت فيه العدميين الذين تغنوا بالإرهاب. تحول غزل دستوفسكي بالإرهاب اللاسلطوي إلى النقيض تماماً بعد جريمة مروعة في مدينة سانت بطرسبرغ. تساءل لينين: كيف يمكن لكاتب موهوب على هذا النحو أن يكون ثورياً ورجعياً في الوقت ذاته؟ على مدار ستّ مقالات، فكك لينين التناقضات العميقة التي ظهرت في أعمال تولستوي، إذ أدرك قدرة الكاتب على تقديم تشخيص واعٍ، كما اعترفتْ رواياته وعبّرت عن الاستغلال الاقتصادي وغضب الفلاحين الجمعي، لكنها لم تقدم أية علاجات. بالرغم من تخيّله للمستقبل الثوري المنشود، بحث تولستوي عن العزاء في صورة الماضي المسيحي المثالي البسيط. في مقالته بعنوان “ليو تولستوي بصفته مرآة للثورة الروسية”، كتب لينين أن “التناقضات في آراء تولستوي ومبادئه ليست عرضية، بل أنها تعبر عن الظروف المتناقضة للحياة الروسية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر”. إذن، فقد شكّلت تناقضاتُ تولستوي دليلاً مفيداً لتحليل لينين السياسي.
في الأثناء، نفر لينين من نبرة العذاب التي لطالما كتب بها دوستويفسكي، بالرغم من عدم قدرته على إنكار قوة كتاباته. لكن آراء لينين الأدبية لم تصبح سياسة حكومية. فخلال أقل من عام على قيام الثورة، في الثاني من آب/أغسطس ١٩١٨، نشرت صحيفة إزفيستيا قائمة بالأشخاص الذين رشّحهم القراء لإقامة التماثيل والنصب التذكارية، وقد جاء اسم دوستويفسكي فيها ثانياً بعد تولستوي. قام نائبٌ عن سوفييت موسكو بالكشف عن التمثال في موسكو في نوفمبر من العام نفسه، إضافة إلى تكريمٍ صاغهُ الشاعر الرّمزي فياتشيسلاف إيفانوف.
لربما كان نيكولاي تشيرنيشيفسكي الكاتبَ الأكثر تأثيراً على لينين وجيل كامل من أصحاب الأفكار الراديكالية والثورية، فهو ابن كاهن وفيلسوف ماديّ، وقد كتب روايته «ما الذي يجب عمله؟» في السجن الواقع في قلعة بطرس وبولس في مدينة سانت بطرسبرغ، إذ كان يقضي عقوبة بسبب أفكاره السياسية. أصبحت هذه الرواية كتاباً مقدساً لدى أبناء الجيل الجديد، فقد منحته حقيقةُ كونه هُرّب من السجن هالةً خاصةً. كان هذا الكتاب الذي ساهم في تطرف لينين قبل لقائه ماركس (الذي كان تشيرنيشيفسكي يتبادل الرسائل معه) بزمن طويل. في تكريمٍ لكبير الشعبويين الراديكاليين، عَنونَ لينين أولَ الأعمال السياسية الكبرى التي كتبها ونشرها عام ١٩٠٢ باسم الرواية.
أغضب النجاح الهائل الذي حققته رواية تشيرنيشيفسكي الكُتّاب المعروفين على نحو كبير، وخصوصاً تورغينيف الذي هاجمهم بشراسة. جُوبه هذا الحقد بسلسلة من الهجمات التي شنّها نُقاد راديكاليون مثل نيكولاي دوبروليوبوف (الذي شبّهه طلابه بالكاتب والفيلسوف الفرنسي ديدرو) وبيساريف. عبّر تورغينيف عن غضب شديد إذ واجه تشيرنيشيفسكي في مناسبة عامة صارخاً “أنت ثعبان وذاك الدوبروليوبوف ثعبان سام.”
ما الذي تضمنته الرواية فكانت محط هذا القدر من الجدل؟ على مدار الخمسين عاماً الماضية، قمتُ بثلاث محاولات لقراءة كل صفحة منها، لكنها جميعها باءت بالفشل. فالرواية ليست عملاً كلاسيكياً من الأدب الروسي، بل إنها تتحدث عن زمانها، كما لعبت دوراً في مرحلة ما بعد الإرهاب التي أثرت على الفكر الروسي في أوساط نخبة مثقفي البلاد. ما من شك أن الرواية ثوريةٌ على كل المستويات، خصوصاً فيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين والعلاقات بين الرجال والنساء، لكنها تتطرق كذلك إلى كيفية النضال وتحديد العدو والعيش ضمن قواعد معينة.
كَرِه فلاديمير نابوكوف تشيرنيشيفسكي بشدة، لكنه لم يتمكن من تجاهله. في روايته الروسية الأخيرة «الهدية»، خصص خمسين صفحة لتحقير الكاتب ودائرته والسخرية منه، لكنه أكد معترفاً وجود شيء من الغطرسة الطبقية في سلوك الكُتاب الذي ينتمون إلى الطبقات العليا، تجاه تشيرنيشيفسكي الذي ينتمي لعامة الشعب. فقد قال إن تولستوي وتورغينيف شبهوه ببقّ الفراش الذي يقضّ مضاجع السادة النبلاء، وقد حاولوا الاستهزاء به بكافة الوسائل.
نبعتْ سخريتهم منه جزئياً من الغيرة، إذ كان شاع موضوع غطرستهم في أوساط الشباب، كما وُلد كرههم له -كما في حالة تورغينيف- من عداء سياسي شديد ومتجذر لكاتب دعا إلى ثورة تدمر الأملاك العقارية وتوزع الأرض على الفلاحين.
كان لينين يشعر بالغضب من البلاشفة الشباب الذين كانوا يزورونه في المنفى خلال السنوات التي سبقت الثورة بين عامي ١٩٠٥ و ١٩١٧، إذ كانوا يضايقونه بكتاب تشيرنيشيفسكي، ويخبروه بأنه غير صالح للقراءة. كان لينين يبرر سلوكهم بكونهم في عمر أصغر من أن يُقدّروا عمقه ورؤيته، ويقول أن عليهم الانتظار حتى يبلغوا الأربعين ليدركوا أن فلسفته بُنيت على حقائق بسيطة تتلخص في أننا أبناء القرود لا آدم وحواء، وأن الحياة ليست سوى عملية حيوية قصيرة المدى، وهذا ما يقتضي الحاجة لتحقيق السعادة لكل فرد. لم يكن هذا ممكناً في عالم يحكمه الجشع والكراهية والحرب والأنانية والطبقية، وهذا ما تطلب قيام ثورة اجتماعية. اقترب البلاشفة من بلوغ الأربعين في الوقت الذي كانوا يتسلقون فيه الجبال السويسرية برفقة لينين، لكن الثورة كانت قد قامت بالفعل في ذلك الوقت. كان تشيرنيشيفسكي ليُدرَس على نحو واسع من قِبل المؤرخين الدارسين لتطور لينين الفكري، لكن المثقفين التقدميين قاموا بدراسة فلاديمير ماياكوفسكي بدلاً عن ذلك.
شكّلت كلاسيكية لينين عميقة الجذور درعاً حماه من التطورات الجديدة والمثيرة في الفن والأدب قبل الثورة وأثناءها، فقد وجد لينين صعوبة في التأقلم مع الحداثة سواء في روسيا أو غيرها، كما لم يستسغ الأعمال الفنية الريادية مثل ماياكوفسكي والمدرسة البنائية.
لم يُفلح أيّ من الشعراء والفنانين عندما أخبروا لينين بحبهم لبوشكين وليرمنتوف، وأنهم في ذات الوقت ثوريين يرغبون في تحدي أشكال الفن القديم وإنتاج شيء مختلف وجديد تماماً، ليتماشى أكثر مع البلشفية وزمن الثورة، لكنه لم يغير رأيه أبداً. كان بوسعهم أن يكتبوا ويرسموا ما أرادوا، لكن لماذا يُجبَرُ هو على تقدير أعمالهم؟ كان الكثير من رفاق لينين أكثر تعاطفاً مع الحركات الجديدة، فقد فهم كل من بوخارين ولوناشارسكي وكروبسكايا وكولونتاي وتروتسكي إلى حد ما كيف فتحت شرارة الثورة آفاقاً جديدة، وقد شاعت الخلافات والتناقضات ومشاعر التردد بين الرياديين أنفسهم، كما ناصرهم في الحكومة أناتولي لوناشارسكي من مفوضية الشعب لشؤون التعليم، وهو المكان الذي عملت فيه زوجة لينين ناديا كروبسكايا. أدّى نقص الورقِ خلال الحرب الأهلية إلى خلافات حادة حول ما إذا كان عليهم طباعة المناشير الدعائية أم نشر قصيدة لماياكوفسكي. أصرّ لينين على الخيار الأول فيما كان لوناشارسكي على قناعة بأن لقصيدة ماياكوفسكي تأثيراً أكبر بكثير، وقد تغلّب رأيه في تلك المرة.
عادَى لينين أي فكرة تتعلق بأدب أو فنون البروليتاريا، وقد أصرّ على رفض الدفع بالثقافة التي تحققت في قمة صعود البرجوازية وما سبقها إلى الانحدار من خلال صيغ تقنية لا حياة فيها يتم تقديمها في دولة تعيش مستوى ثقافياً متدنياً بالمعنى الواسع، فلا يمكن للاختصارات أن تنجح في هذا المجال. هذا ما أثبتته بشكل قاطع مخلفات الواقعية الاشتراكية التي ظهرت في السنوات العجاف التي أعقبت وفاة لينين، فقد تم تخدير روح الإبداع، كما لم يتم الانتقال من أرض الحاجات إلى أرض الحريات التي يصوغ فيها المنطق حياة الجميع، لا في الاتحاد السوفيتي ولا في أي مكان آخر.