طنجرة ضغط (قصة لسارة زهران)

RUBA SALAMEH

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

صعدنا أخيرًا إلى شقتنا في الطابق الثالث. كانت هي الأخرى تعوم بالفوضى مثل بيت أم علي، وآثار دعسات أقدام الجنود تملأ المكان. أسرعت شمس لتطمئن على علب العطور والهدايا، ولاحظنا أنهم قد خلعوا باب غرفة شريكتنا الثالثة بالسكن، وحطموا اللوحات، وداسوا على الأوراق المنتشرة على الأرض. تركنا الغرفة كما هي وخلدنا إلى النوم. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

08/01/2020

تصوير: اسماء الغول

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

رمان الثقافية

بعد محاولات عديدة، دار مشبك الشعر داخل قفل الباب، فبدأت شمس تقفز وتصرخ بأعلى صوتها. لقد نجحت في أن تقتحم الغرفة المغلقة منذ أشهر. كان فضولها قد دفعها لالتقاط خيط ما يقودها للتعرّف على الحياة السرية للفتاة التي تشاركنا السكن. في البداية، مشت خلفها لأسابيع، وسألت عن البيت الذي تزوره كل يوم. قال لها الجيران إنهم لا يعرفون المالكة الجديدة، وجيرانهم السابقون كانوا غرباء أيضًا، وطوال الأعوام التي قضوها وهم يسكنون الحي لم يروهم إلا بالصدف، عند الذهاب أو العودة.

فُتح الباب على فوضى عارمة. أوراق وصور ينز منها الحزن، تحمل وجهًا واحدًا، لشخص مسن ومتعب، تغرق عيناه بثقل داخل مقلتيه. كانت هنالك خمس لوحات زيتية مرسومة للوجه ذاته، الذي يبدو داخلها حيًا ورطبًا ومختلفاً عن الصور، تشتعل فيه الحياة على الرغم من التعب الساكن في عينيه. انطلقت شمس بعدها في رحلة الفضول والقراءة، ووجدتُ نفسي أشاركها هذا الفضول. كانت هنالك بعض الأوراق التي حملت تصاميم لمنزل شبيه بالمنزل الذي رأيناها تدخله كل يوم، وورق معنون “بعيادة الطب النفسي” يحمل وصفات طبية لأدوية غير مألوفة، وموّقع من قبل أطباء نفسيين، لكن اسم المريض المدون عليه ذكر. في هذه الأثناء شهقت شمس، وبدأت بموجة ضحك هستيرية، ثم ناولتني الورقة التي كانت تقرأها.

بقينا لمدة ساعتين نفتش بين الأوراق واللوحات والصور، كتبت الفتاة فيها مذكراتها المتعلقة بأمها وأبيها، واتضح لنا من خلال القراءة أنه هو من يعاني نفسيًا، دون أن تكتب أي شيء عن نفسها. كانت تسرد مذكّراتها وكأنها تقف خارج البيت الذي يبدو وأنها سكنته طويلًا. أتعبتنا قراءة المذكرات، فأعدنا الأوراق مكانها، وأخفينا أية آثار لوجودنا في الغرفة، وغادرنا. 

طوال تلك الليلة، انصرفت أفكر بالفتاة التي تشاركنا السكن، بالمذكرات الغريبة التي قرأناها، البيت القديم المليء بالأوراق، الأم التي تستخدم الطعام سلاحاً لكتم المصائب، وبالفتاة التي تضع كل أنواع الفواكه والخضار على وجهها الذي يشبه إشراقة النهار، فأي مصيبة يردعها الطعام عن حياة الفتاة تلك. أظن أن شمس قلقت أيضاً، فقد استيقظت ووجهها متعب وباهت. شمس المليئة بالجنون والعفوية والطاقة كانت حزينة ذلك الصباح. أثناء توجهنا إلى الجامعة أخبرتني أنها سوف تنسى ما حدث يوم أمس، وأنها ستذهب مع صديقها رامي لتضع حلقًا في ثديها الأيمن، فربما ينسيها ألم الحلق ما قرأته.

تألمت شمس لمدة شهرين متتابعين، لم ترتدِ خلالهما حمالة الصدر، وكانت تنام على ظهرها فقط، كما قلّلت من أوقات مكوثها خارج البيت. في هذه الفترة حنقت على أم علي “صاحبة الشقة” لأنها لا تسمح لأصدقائها الذكور بزيارتنا، نحن طالبات الجامعة اللاتي نأتي من أماكن بعيدة، ونقيم في بيوتها الثلاثة بالإيجار منذ رحيل أولادها عنها. 

لكن مع الوقت، عاد البيت يفيض من جديد بفرح شمس وحركتها الدائمة، وأصبحنا أكثر قرباً. حدثتني عن مغامراتها العاطفية، والرجال الذين يملؤون حياتها، وعن أمها وأبيها اللذَين انفصلا عشر مرات حتى الآن، وعن رغبتها في أن ترى العالم مليئًا بالموضة، فلديها القدرة على أن تضيف لمسة واحدة فقط على زي بأكمله ليصبح مختلفًا وخفيفًا وعفويًا.

لكننا، أنا وشمس، لم نستطع أن نبني أي علاقة مع الفتاة، شريكتنا الثالثة في الشقة، فقد كانت تعود إلى البيت في وقت متأخر مرهقة، وكأنها مشت حول جبل كبير للتو. 

ثم، في أحد الأيام، سمعنا صوت طرق قوي على باب شقتنا. اعتقدنا أن الفتاة نسيت المفتاح وتحتاج لأحد يفتح لها الباب، لعلمها أننا كنا في الغالب نغط في نوم عميق. 

ولكن صوتًا فظًا غريبًا رافق طرق الباب، طالباً منا أن نخلي البيت وأن ننتظر في الخارج. هبطنا الدرج بأقدام مرتجفة، حيث وجدنا أم علي وباقي الفتيات في ساحة المنزل، وأصوات الأقدام تملأ المكان، وكذلك الأوامر الصادرة: “ممنوع التحرك”، فيما البنادق موجهة صوبنا. حاول بعضنا تخمين الحديث الدائر بالعبرية بين الجنود، في حين كانت شمس خائفة على هداياها وملابسها ومقتنياتها التي جمعتها خلال رحلاتها الكثيرة. شاركنا الليل ذلك الانتظار المتوتّر الذي سرى عميقًا داخلنا، إلى أن جاء فجأة دوي انفجار كبير داخل البيت، ثم اختفى، دون أن نعلم من أي شقة خرج. 

كان الكل متوجسًا عدا أم علي، التي غرقت في الضحك غير آبهة بالمجموعة التي تهيأت لقتلنا، إلى أن أتى من بعيد صوت ضحكات أيضًا. قال الجندي الضاحك لبقية المجموعة كلامًا لم نفهم معناه، جعلهم يتراجعون عن تصويب أسلحتهم نحونا، ويغرقون هم أيضاً في الضحك، ثم انسحبوا جميعًا من البيت وهم يتحدثون بصوت عالٍ، وما زالوا يضحكون، وأم علي تضحك هي الأخرى دون أن تعرف أيٌّ منا سببًا لذلك. ربما هي موجة ضحك تشبه تلك التي تصيب الناس بعد الإحساس بالخوف.

غاب الجيب العسكري في الأفق، دون أن يتحدث أي من الجنود معنا. حضر الجيران إلينا بسرعة، دخلنا معاً أولاً شقة أم علي. كان كل شيء على الأرض: الملابس، شراشف الأسرّة، أطباق الطعام، الهاتف، الأسلاك الكهربائية، الأحذية. أخبرنا أحد الجيران بأن عملية ما استهدفت أحد الجيبات العسكرية وقتل جراءها مجموعة من الجنود في قرية قريبة، لذلك أعلنوا حالة الاستنفار والتفتيش للبيوت في كل المنطقة. 

توجهت أم علي إلى مطبخها ودعت الجميع للحاق بها. وقفنا عند باب المطبخ، في حين غارت عيوننا إلى الداخل ضحكًا. كانت حبات الفول تملأ الأرض والسقف، والبقع البنية اللزجة تلتصق بكل شيء، وطنجرة الضغط مقلوبة على وجهها، وتخيّلنا عندها شجاعة حبات الفول التي فاقت شجاعتنا، وكيف أنها استطاعت أن تبطح الجنود أرضًا، وهم يرتعدون خائفين، معتقدين أنها نهايتهم. إن موجة الضحك تلك التي انتابتهم ما هي إلا دليل على حجم خوفهم، قلت في نفسي. 

صعدنا أخيرًا إلى شقتنا في الطابق الثالث. كانت هي الأخرى تعوم بالفوضى مثل بيت أم علي، وآثار دعسات أقدام الجنود تملأ المكان. أسرعت شمس لتطمئن على علب العطور والهدايا، ولاحظنا أنهم قد خلعوا باب غرفة شريكتنا الثالثة بالسكن، وحطموا اللوحات، وداسوا على الأوراق المنتشرة على الأرض. تركنا الغرفة كما هي وخلدنا إلى النوم. 

في صباح اليوم التالي، استيقظتُ على صوت صراخ جنوني. فزغت وخرجت من الغرفة لأجد شمس على الأرض شاحبة، مصفرة، باكية، تصرخ دون أن تتمكّن من الحديث. اقتربت منها لأجد شريكتنا الثالثة بالسكن تنزف، وهي مستلقية على ظهرها ووجهها الذي يشبه إشراقة الصبح يغيب عن الوعي، وعيناها تحدقان بسقف الغرفة بجمود وكأنها ترى كل شيء، كانت تحتضن لوحة الوجه التي حطّمها الجنود. لم أستطع الاحتمال أكثر، كانت الأرض تجذبني بقوة هستيرية إلى جانبها. جلست وبكيت مع شمس، ارتعش جسدي دون توقف، ثم سمعت الباب يدق بشكل جنوني. كان رأسي ثقيلاً، ولم أعرف ما الذي كان يحدث. صحوت. وجدت شمس وأم على بقربي، تقفان بوجه شاحب. لأول مرة لمحت شمس تائهة ومتلبدة. لم نتحدث، لم تخبراني بشيء. بكينا ثلاثتنا فقط، بكينا طويلاً. بعد أسبوع أحضرت أم علي شابًا ساعدنا في ترتيب كل أغراضنا ووضعناها في حقائب وصناديق مختلفة. جمعت شمس كل أوراق شريكتنا في السكن في ملف برتقالي، وضعته في حقيبة يدي، ثم غادرنا. 

هذه القصة القصيرة هي نتاج لإحدى ورشتي الكتابة، ورشة قصص أريحا القصيرة التي تمت في خيرف ٢٠١٨، وورشة قصص رام الله القصيرة التي تمت في صيف ٢٠١٩، بإشراف عدنية شبلي وبمبادرة من المؤسسة الثقافية لبنك الإعمار الألماني في فرانكفورت، وبالتعاون مع معهد جوته في رام الله.
 

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع