لحقبة من السنينِ الباكرة في حي الليمونة، لم يكن الشتاء كما هو الآن. تهاطلت أوراقُ الشجر على امتداد سلسلةِ الجبال التي تحيط بالحَيِّ وكأنها تنوي المكوثَ على يابستها المتعرجة لأجل غير مسمى. هذا المشهد لم يكن وحده ما استغرق فيه باسم، أحد سكان الحي اليافعين، حينما راحَ يحدقُ بعينٍ وقحة في وجود الأشياء وعدمها منذ أن تلقَّى خبر وفاة صديقه قبل أسبوعين. وليس الموت ذاته هو المحزن، هذا ما تيقنه وهو يقلب حادثةَ موت صديقَه رأساً على عقب متسللاً في كل ثقبٍ فيها يرتسم أمامه، بل أن اللعنة العالقة والتي تمنعُ الاثنين من الرقود بسلام، في القبر أو على السرير على حد سواء، تتوارى في حيثيات وفاةِ صديقه والاستقبال الهزلي للخبر في أرجاء الحي.
أصبحَ يامن، عزوة إلى الغرور العقيم الذي اتُّصفَ به، عبرةً لكل من يعتقد من شباب الحي أنه لا حساب أو عواقب لأفكاره وأفعاله الطائشة. حتى أنه انضمَّ لطابورِ “المهندس” حسنين، وهو شابٌ في الثلاثينيات من العمر، لم يكمل تعليمه المدرسي وأمسى ذات يوم يحسِبُ نفسه مهندساً، فباتَ الاثنان معاً كنقشتين على عملة واحدة تنصاعُ في نهاية المطاف لفَخّ المغالي بعظمة الذات البشرية. وفي المرات القليلة التي حدث أن سَمعَ باسم فيها فتيان الحي وهم يسردون قصة موت صديقه لمس أنها ما تنفك تتبدل في تفاصيلها. ولمّا كانت تحلّ عليه دفقات من الجرأة وراح يدافعُ عنه، استوقَفَه الرجال فوراً مرددين “دعك من هذا، أتصدق مجنوناً يهذر عن شمسين في السماء، استغفر الله العظيم!”
بيد أن الخارطة التي ما زال يخبئها باسم في معطفه، تلك نفسها التي حصل عليها يامن من مكانٍ بعيد، ومن رَجُلٍِ لم يعرفه باسم سوى عبر أوصاف يامن المتقطعة والهلامية، تدلي بما قد يدحض ذلك. فتَتَعاضدُ تفاصيلها الصغيرة التي تجانسُ معرفةَ الصديقين المسبقة بالجبال المحيطة بحيهم، بل حتى تفوقها بإظهار تُخومٍ من الينابيع والمنحدرات والوديان، لتبوح عن كنزٍٍٍِِ راقد في مغارة داخل الطرف القَصيِّ من جبلٍ شديد الانحدار، مبينةً بكلماتٍ مدونةٍ على نمط معهود في المخطوطات الأثرية أنه لحظةَ العثورِ على هذا المغارة سيبصرُ الشخص المعنيُّ شمسين في السماء وتوازيهما. وقد حرصَ باسم ألا يبوح بسر هذه الرسالة لأحد، متيقناً أن ذلك لن يثير من سخط رجال الحي على صديقه الراحل فحسب، بل أنه سيقرّبه هو الآخر من منزلة صديقه في أذهان من حوله، وقد أخذه قليل من الوقت ليستشعر أن محض بقائه على قيد الحياة ـ لحسن حظه، أو لسوئه، وهذا ما لم يستقرّ عليه بعد ـ يعزى إلى افتقاره للجرأة التي دفعتْ بيامن إلى حتفه.
يامن الوحش، شابٌ عريضُ البنيةِ بشعر مائل إلى البني، والذي كَبِر باسم بخمسة أشهر وثلاثة أيام، قد كان يتدبرُ أموره بالنقود التي يأخذها من مدخراتِ أبيه الطاعن في السن، وذلك بعدما ملّ من بحثه عن عمل. “إن الله لما يرضى إهانة عبده بالعمل” قال ذات يوم لباسم بعد أن داينه الأخير ١٥٠ قرشاً كي يقدمَ على رحلة أخرى من مغامراته المبهمة. وقد كان يامن لصديقه الذي لم يخرجْ قط من حي الليمونة بمثابة مذيع متمرس عن رحابةِ الحياة الواقعة ما بعد حيهم، فالتصقَ به كما يلتصق اللحم بالعظم. أما في الأيام القليلة التي عَقبتْ رحيله، لم يعد هناك لحماً ليخفي عظام باسم اليقظة.
بينما استطاعَ باسم أن يتحاشى نظرات عائلته عندَ خروجهِ من المنزل، لم يسلمْ من عيونِ أهالي الحي التي كانت ترافِقُهُ أينما حلَّ. هذا ما ظن منهم أو هذا ما ظنوا به. أما البحثُ في الشرارة التي كانت لها الأسبقية فلن يغير شيئاً من احتراقِ علاقة باسم مع حيِّه بكل ما فيه من كائنات حية وجماد. توارى عن الأنظار ببطء، إذْ بقي في المنزل طوال النهار وراح يرتاد الشوارع النائية حول حيهم ليلاً بكثرة، مرتدياً معطفه الشتوي الذي يكسي ساقيه الباردتين، مبتعداً عن كل ما يوحي له بالوجود البشري. وقد وجد لنفسه أخيراً وعلى بعد كفيل بالعزلة المرجوة شجرةً كثيفة أشعلَ بقربها بعض الأخشاب، واتخذها مبيتاً له في المساء. وحينئذ كان يخرج الرسالة من معطفه ويستغرقُ في حبرها السميك.
شقَّت قطرات المطر طريقاً لها على منحنيات الشجرة واصطدمتْ بوجه باسم الجليدي. أفاق مذعوراً وكأنه لم يهربْ من كابوس إلا ليجد نفسه في كابوس آخر. “ما الذي حلّ بالسماء؟” راحَ يتفرَّسها بعينين شاسعتين ليجد شمسين تحَّلِقان وراء الغيوم الدامسة على حافتي الأفق المتقابلين، تلك الشمسين نفسيهما اللتين استحوذتا على خُلج يامن ونزواته الاندفاعية. مرة أخرى يحدث له هذا بعد أن ظن أنه قد حسم أمر هذا الجثام، أما بالنسبة له الآن، فلا بد أنه وقع بالضبط في منتصف هذا الجنون. ركضَ باسم إلى بيته ليلقى يامن جالساً على رأس المائدة، يقلبُ عود قش بين شفتيه كعادته، منتظراً إياه بحفاوة مع والدين صامتين. “ها هو صديقي الأبله، لقد جعلوك حقاً تعتقد أنه ليست هناك سوى شمس واحدة في كل هذه السماء” يقهقهُ يامن ثم يسأل، “متى ستأتي لتزورني في المغارة؟” فيصحى باسم على أوراق الشجر الذابلة تحته ناحباً “إنك مجنون!”
تعاظمتْ كوابيس باسم عن شمسي يامن حتى أضحتْ على هيئةِ بقعتين من الخيوط السوداء تخيّمُ على وجهه. ذاتَ صباحٍ عاصف، وبعد عدةِ محاولات للاستيقاظ من حلقات أَحلام تتأرجح بين اليقظة والصحيان، اسْتجمَعَ نفسه أخيراً وشرعَ في مغادرة المكان. لمحهُ أبو سمعان من بعيد وهو يخطو باتِّجاه منزله، فنادى عليه من أمام دكانه. لم يرغب أبو سمعان، صاحبُ الدكان الأكثر مبيعاً في الحي، أن يتورطَ في نقاشٍ خارج عما هو مألوف طوال فترة تعامله مع زبائنه، كان ذلك أحد أبناء حيه أو عابر سبيل، بيد أن الصداقة القديمة التي جمعته بأبي باسم، والذي لم يخفِ عنه سراً وأبدى قلقه على ابنه في أكثر من مناسبة، جعلته يتغاضى عن حنكته التجارية لهذه المرة ويدعو نجله للحديث، وقد كان على عجلة من استقدامه إلى دكانه تحسباً من أن يراه أحد أثناء دخوله.
“أهلن بك يا عريس، تفضل. كيف حالُ والدتكَ الآن؟”
“ككل الأمهات.” نطقَ باسم باقتضاب، فسرعان ما لمس أبو سمعان عدم استعداده لتبادل الحديث.
“قُلْ لي يا ابني، هل سبقَ لكَ أن رأيت هذا البيت المهدوم على منحدر هذا الشارع؟ لولاه أقسم بالله لما ظل أبوكَ في هذا الحي ولو لدقيقةٍ واحدة. جاءَتْ ذات يوم والدتك الى هنا برفقة والديها، رحمة الله عليهما. فكما تعرف لم يعد بمقدور جدك أن يدفع أجرة بيتهم في حي الاسْتَكانة… وهذا البيت، إنه جميل بالطبع، ولكنه أرخص بكثير من أي بيتٍٍ في ذلكَ الحي الباذخ. كان والدك يأتي وقتما يحلو له إليَّ لنختبئ في الحوش المجاور للبيت، فنجلس هناك منتظرين والدتك حتى تطلّ علينا لتنشر الغسيل على شرفتها. في أحد الأيام تمكَّنَ جدك من اللحاق بي بعد أن هرول أبوك عائداً إلى بيته، فقال لي بعد أن أحكمَ قبضته على قبةِ قميصي “أبلغ صاحبك الطائش إن أرادَ أن يتزوَّج من ابنتي، فليأتِ من باب البيت كالرجال، وإلا أقسم بأغلى ما عندي لن أدع مجيئكم القادم يمر بسلام”.
نظرَ أبو سمعان بابتسامةٍ راجفة إلى باسم وكأنه كان يكبحُ ضحكةً مدويةً تنتظر أيةِ إيماءة من وجهه، إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث. حلَّق صمت غير معهود في الدكان، مما نبّه أبو سمعان إلى ضرورةِ انقضاءٍ هذا اللقاء، ولا سيما أنه ارتضى، مريحاً بذلك ضميره وأي شحنة فكرة أخرى قد تذهب هباءً، بأن باسم هو ببساطة ليس سوى قضية ميؤوس منها.
“لعلك تريدُ العودة إلى بيتِكَ في هذا الطقس الممطر. لن أطيلَ عليكَ أكثر من هذا، دعني أعطيكَ هذا العنوان لشيخنا معاذ الأبركي”. أخذَ أبو سمعان القلم الذي يبقيه بجانبه وراح يكتب على ورقة صغيرة، ثم ناولها لباسم مستكملاً حديثه، “لم يدخل عنده مرءٌ إلا وقد خرج معافىً بإذن الله، قل له إن أبي معاذ قد أرسلني إليك”.
رمقَه باسم لبرهة دون أن يعيرَ الورقة الملقاة أمامه أدنى اهتمام. “ولماذا أتحدث مع هذا العجوز الخرف وأقول له إن عجوزاً خرفاً مثله هو من أرسلني إليه؟” قال ببرود، ثم أدارَ ظهره متوجهاً نحو الخارج، فلحقه أبو سمعان بعدما أخفق في تمالك أعصابه.
“أتظّنُ أنك أَعقل من صاحبك يامن أيها المعتوه؟ يا لهذا الجيل البائس”.
أحسّ باسم بعدما واصلَ السير بدوخةٍ متصاعدة تعتركُ خطواته، غير أنه لم يقرنها بما حدثَ له في دكان أبي سمعان كونه لم يجد من الدليلِ الكافي على ذلك، فاكتفى بأن يعزوها إلى العواصف العاتية التي اعتَرتْ الحي ذلك اليوم. بيد أن ذلك لم يحُل دون شعوره بضيقِ حيّ الليمونة على نحوٍ غير مسبوق، وكأنه بطبيعة الحال ليس هناك مغزى للسير في أيّ اتجاه. غيّر وَجْهتهُ نحوَ بيت يامن وكان قد قرر ذلك في لحظةٍ خاطفة لم يكنْ على يَقينٍ بها. لقى نفسه أمام بيت صديقه الراحل، وجفَلَ عند رؤيته من خلال الباب المفتوحِ بقدرٍ ضئيل صورة عائلية معلقة على الحائط، يظهر فيها يامن صغيراً وباسماً على طرفها القريب من المدخل. طرقَ باسم البابَ ببطءٍ متلازم مع تردده المتصاعد، وبعد أن لم يجبه أحد أخذَ يسرعُ في طرقاته إلى أن فقد الأمل.
لم تنكَشِفْ لباسم وهو واقف أمام بيت يامن أيّة إشارةٍ تدلُ على الحياة. قامَ بفتحِ الباب على دفعات فصلتْ فيما بينها بضع الثواني، فقابلَ أمامه نوافذ عريضة بستائر مغلقة تحجبُ أشعةَ الشمس عن قطع الأثاث المتناثرة في أنحاء المكان. روائحٌ كريهة صدرتْ عن المطبخ، دَخَله باسم ووجد أكواماً من الصحون المتسخة فوق المجلى، تحيطُ بها بقايا لحمٍِ نيّء تنمّ عن محاولةِ طبخ فاشلة، وغبارٌ كان يكسو جميع ما وضع عينيه عليه، فبدا هذا الغبار له وكأنه المالكُ الشرعي للبيت. وبعدما واصل اندفاعه نحو الداخل سمع شخيراً يصدر من إحدى الغرف المجاورة. لن يكون هذا إلا أبا يامن، نائماً بالطبع. كيف يكون غير ذلك الآن؟ حَسِبَ باسم، وقد لحِقَ نجله الوحيد بزوجته وتركوه ينازل هذا البيت المتآكل. يا لها من حياة فقيرة! تفقّدَ باسم الغرف بحذرٍ وأبصر من بعيد ما قد تكون غرفة يامن.
لم يقتضي الأمر، بطبيعة الحال، للتعرف على غرفة يامن سوى صورتين لامرأتين على الحائطِ المقابل للباب، لا يفصلهما عن العراء الكامل سوى أربعة قطع من القماش. ولجَ باسم غرفته وعثرَ على بِضْعة ملابس ملقاة هنا وهناك، فراش تختٍ ملتصق بإِحدى الزوايا، وعُدَّة التبغ المفضل لدى يامن ملقاة عليه، وكانت أرضية الغرفة مكسوةًَ بكسراتٍ من التبغ كانت تسقط أثناءَ لفِّه للسجائر في أنحاء المكان.
ما داهم باسم من أكوامِ أفكارٍ حالتْ دونَ الإدراك عُقْب رحيل صديقه، قد باتت أكثر جلاءً الآن وهو يقفُ في مكانه. وإن كان يامن ذا صيتٍ سيء يرافقه في حياته وما بعدها، إلا أن باسم لم يتمكن قط من أن يكبحَ في داخله إعجابًا لم يسبر غوره بالمعضلة التي تفرِضُها شخصيةُ يامن في مثل هذا العالم الواقعي. وبينما كان يثابرُ على إرشاده إلى الصواب كلما أمكن، حيث تكَلّمَ معه بقدر من العقلانية دون أن يجرح طموحاته وطاقاته المزعومة، تلك التي تكادُ أن تطيلَ الصفات المرتهنة بالذات الأهلية وحدها، بدا عليه في الكثير من الأحيان وكأنه يغرق مبتهجاً في تفاصيلِ خرافات يامن اللانهائية، وكذلك الحال مع أعواد القش التي تتراقص حول فمه دون فحوى، وفي إيماءاتِ يديه غير المألوفة، والتي وإن تَنُمُّ عن حالة مبهمة من الصرع لدى البعض، لم تمتثل في ذهن باسم إلا كشغف خالصٍ للحياة، تلك الحياة نفسها التي يعيشها باسم بصورتها الرتيبة.
فتحَ باسم النافذة المحكمة، مطلقاً عبرها بعدَ سعالٍ طفيف بِضْعَ نفخات من سيجارةٍ لفها لِتَوه من عُدّة يامن. بيدَ أن الرياح حينئذ تسارعت إلى اقتحام المكان، فسلَبَتهُ هذه الهالة الوجيزة للسكينةِ التي التمسها في خِضَمّ الحلقات الاستطرادية المتلازمة في الآونة الأخيرة، وأيقظتْ كل ما وقف في طريقها مُسْقِطةً عليها روحها الأرقة من جديد. تقلْقَلتْ على إِثرها الصورتان المعلّقتان على الحائط وسقطتْ إِحداهما على الأرضِ كاشفةً عن شمسٍ مرسومةً خلفها، وشمسٍِ مماثلة لها لحقتها خلف الصورة التي مزَّقَها باسم بيدين مرتجفتين. يحدثُ هذا مرة أخرى له، وهو الأن وجهاً لوجه مع هذا الجنون. حاولتْ عينا باسم أن تستقرا على ما رَأَتَاه عبر النافذة من غيومٍ وجبال، فاَمتَنَع عن التأمل في هاتين الرسمتين ليخرج بعدها بقليل من المنزل.
“يامن، أهذا أنت؟” ندهَ عليه المهندس حسنين وهو خارج من بوابة دار يامن. ثم سارَ إليهِ مسرعاً بملامح ينتابها ذهولاً خارقاً “ألم تكن ميتًا منذ شهر؟ ما الذي أتى بك إلى هنا؟” بقيَ باسم صامتاً وسريعاً ما أظهرَ لحسنين ابتسامةً لئيمة تحاول استعجال رحيله، وكان يحاول أثناءها أن يُقْصي التشابه الذي يدّعيه هذا الأخبل بينه وبين صديقه على أنها مرحلة متطورة من اخْتِلاط الأشكال الهندسية لديه. “من الأفضل لكَ أن تعودَ إلى قبرك، إن رآك أهالي الحي هنا سيصابون حتماً بالجنون”. قالَ له قبل أنْ يرحل ويستأنف حديثاً بدا وكأنه يُدَار عبْرَ لغات متمايزة.
واصل باسم سيره بدوخةٍ أشد من ذي قبل، وأما الآن فبدأَ يشعرُ بأن هذا الدوار لن يكون محضَ صدفة، ولا حتى وليداً لحظياً للعاصفة الراهنة، بل أنه سيمكث معه ويزدهر حتى ينال منه. وقف فجأةً في الطريق، ثُمّ أخرجَ الرسالة التي أعطاها له يامن قبلَ الشروعِ في رحلته الأخيرة، وقد كان على قرب كافٍ من البيوت المجاورة ليرى أسراباً من الأعينِ تتدفق عبر شبابيكها المزدحمة. خرجتْ أم سعاد من على شرفةِ منزلها صائحةً عليه، “أسْرِع إلى بيتك يا بني، إنها عاصفة مميتة”. “دعيه وشأنه، لن ينجو على أي حال،” قالَ صوتٌ آخر، مستوفيًا، “إنه حقاً مثيل ليامن.” واصلَ باسم الإذعان لما يجري من حوله فسَمِعَ حديثاً قادماً من بيت آخر “يا للحسرة على هذا الشاب! لقد كان من زينة شباب الحي” قالَ صوتٌ رحيم. “ولكن إلى أين هو ذاهبٌ يا ترى؟” أعقبَه صوتٌ يافع. “إلى جهنم”. حَسَمَ الأمر صوتٌ جهور.
واصلَ باسم السير متخطياً بيته نحو المكان الذي عُثِرَ فيه على يامن هامداً. ساعة واحدة متواصلة من السير تفصله عن الجبل الذي ارتادَه يامن ليخرج ميتاً. صعَدَ باسم الجبل الأحدب ووقع عنه، تماماً مثل صديقه، ولم يَمُتْ، أيضاً مثل صديقه، بل بقِيَ هناك لفترة فاقداً الوعي، وببضع أضلع مكسورة تَقرَعُها حبات المطر الثقيلة. فتَحََ عينيه بعدما استعادَ وعيه ورأى حفرةً ضيقة بين صخورٍِِ تبعدُ عنه بضعة أمتار. هذه هي المغارة التي تحدث عنها يامن. استدارَ عندئذ بلهفةٍ إلى السماء، ولم يرَ شمسين، ولا حتى شمساً واحدة، بل مجرد غيوم قاتمة مثقلة بهمهما. نهضَ باسم وجرَّ نفسه متوجهاً نحو الحفرة، أدخلَ رأسه في ثناياها، فتكشّف أمامه أشبه ما يكون بغرفة أرضية تستكينُ بعلوها المتواضع للوجود البشري العابر. أقْحمَ نفسه داخلها، وراح يتحسسُ الأشياءَ من حوله إلى أن ارتَطَمتْ قدمه بكاشفٍ ضوئي، فأناره ليعثرَ على الحقيبة التي اعتادَ يامن أن يحملها أثناء سفره. كانت مفتوحة وبجانبها أوراق مبعثرة. كلها فارغة، إلا واحدة. قرَّب باسم الكاشف الضوئي منها لتنجلي أمامه رسالة.
“إلى صديقي باسم،
“كل أملي أنَّكَ ستعثر على هذه الرسالة ذات يوم.
“لم تكنْ هناك شمسان في نهاية المطاف. ذلك الرجلُ الذي حدثني عن الكنز، أتذكره؟ وردني نبأ نقله إلى أحد المصحاتِ العقلية بعدَ مدةٍ قصيرة من شرائي لخريطته، ومع ذلك فما فتئتُ إيماناً بالكنز. وإنني إِن تجاهلتُ إخْبَارَك بذلك، فذلك لم يكن سوى لأنَّ كلام هذا المعتوه وخرائطه بدتْ لي كلها منطقية.
“لقد وَقعْتُ منذ قليل من أعلى الجبل، زحفتُ نحو هذا الجُحر البائسِ لأحتمي من البرد، وها هي ساقي تنزف رغماً عني لأجل مجهول. رُبّما لن أعود إلى الحيِّ واقفًا على الأرجل كما عهدتني. وها أنا مرة أخرى، ريثما أحاولُ أن أصنع سترةً متينة لهذا الأرض العارِية، تسحَقُني من جديد بقوانينها الفيزيائية، ولآخر مرة كما يبدو.
“لمَ لا ندعي أن هناك شمسان في سماءِ حيِّنا؟ ذلك لن يضرّ أحداً حتماً.
“إلى صديقي باسم الوافد من حيّ الليمونة، الحي الوحيد الذي تعلو سماءَهُ شمسان،
يامن الوحش.”
خرَجَ باسم من الجحر، وعاد إلى حيّه زاحفاً يحُكّ رأسَه بين الفنية والأخرى.
أعزائي قرّاء عامود يوم غيّر حياتي/قصص نجاح في مجلة (ثقافتي): أحيانًا، تحتاج أن تغوص في العمق لتصنع لنفسك مكانًا على السطح. أو كل ما في الأمر هو أني صرت أجد شيئاً أردم به هذا الفراغ الأسود الذي يتجدد باستمرار في قلبي.