رغم المعرفة المسبقة بتباين حال الفلسطيني أينما حل، إلا أن الخيال لم يسعف أفكاري المسطحة كلما قابلت فلسطيني من مكان آخر. رحلة معرض فني بين عدد من التجمعات القريبة جغرافياً والمتباعدة قسرياً أغنت مفهومي للهوية المعقدة، حيث يتسارع الزمن في هذه البلاد بزخم ويتباطأ بما يتناسب مع تشرذم الجزر الفلسطينية الحالي.
قبل جولة المعرض غير المنظمة، تشكلت في ذهني تصورات وافتراضات راعت خصوصية حيفا، وتفهمت ادعاءات رام الله، ونعت اختفاء يافا، وخشيت استحالة غزة، وبحذر تحدثت عن جرائم الشرف في قلنسوة. العناوين وتراكم الأحداث حكمها البعد واختلاف جبهة المعركة.
لم أتحدث عن ظاهر العمر في القدس بل حدثني عن أمجاده حفيد له من الناصرة، مخطط براڤر شرحت لي عنه بإسهاب ناشطة من طيبة المثلث تدرس في رهط وليس أحد مثقفي رام الله، متعة صيد السمك وقت الفجر حدثني عنها هاو من كابول على شاطئ قرية الزيب المهجرة ولم تكن أبداً أحد المواضيع التي تحدثت عنها مع مغني راب غاضب من مخيم قلنديا.
أؤمن كغيري أن الفلسطيني هو فكرة تجول هذه البلاد كما تجول غيرها إلى أجل لا نعلم تفاصيله، وأن طَرْق أبواب المدن والقرى الأخرى هو فرضٌ واجب على كل مستطيع، ولا رفاهية تحسب لكل من قضى عدة ساعات في حضن الفكرة المتبعثر، بل يُحسب له بقاؤه في الأرض.
أربعة عشر فناناً فلسطينياً شاركت أعمالهم في معرض “قريب لا أراه، بعيدٌ أمامي”، والذي ارتكز على السيرة الذاتية لتمام الأكحل وإسماعيل شموط “اليد ترى، والقلب يرسم” الصادرة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في العام ٢٠١٧. كنت أعمل في مؤسسة عبد المحسن القطان حينها، وكقيمين للفكرة هدفنا إلى تطوير منحى نقدي يضاف على الكتاب في مشروعنا المشترك مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية. سأتحدث هنا عن الرحلة وجمهور الفن “المعاصر” في محطاتها.
المحطة الأولى
رام الله
في تعاون مع بلدية المدينة افتتح المعرض في دار الصاع، ذلك البيت المثالي القديم الذي يستضيف العديد من فعاليات ومعارض ومهرجانات رام الله. حضر يومها لفيف جمهور المعارض التقليدي المثقف، ليلحق أيامه التالية جولات نظمتها المؤسسة في محاولاتها الحثيثة لاستدراج جمهور إضافي. أسئلة زائري الجولات تباينت، منهم الناقد الذكي وهم غالباً أطفال، ومنهم من اتى ضمن جولة إلى رام الله بشكل عام ليشاهد معالمها ويلاحظ إن كان أعمى ملامح الدولة المفقودة فيها.
بعض الزائرين طرق باب المعرض صدفة ظاناً أن دار الصاع متحف قريب أو مطعم مستشرق يلبي حاجات السائحين. بعض أهل المدينة الأمريكان الموسميين مرّ أيضاً، وبعضهم أتى حتى يقول إنه كان هناك، عند سؤاله.
من زار المعرض غير ذلك أفراد قلائل، عند عدهم لم يتجاوزوا أصابع اليدين والقدمين معاً. هكذا قال لي متطوعو المعرض الأربعة. بعض الزائرين أخذته رهبة اللوحات الفنية الكبيرة، وهرب من باب المعرض خوفاً من الوقوع في إحراج إيجاد تفسير لها!
أذكر تلك الأم التي هربت بطفلها هي واختها من باب المعرض، طريقة هروبها ونظراتها أكدت لي أنها رأت معصية ما أو برميل خمرة يتوسط المعرض، نظرت ورائي وأنا أحاول اللحاق بها للتحقق من ما رأت…
لم أجد برميل خمرة.
المحطة الثانية
حيفا
تجمع شبابي أراد استضافة المعرض في فضاءه الجديد كالمعرض الأول لهم، “منجم” اسم في مكانه، جاء ليعبر عن حاجتنا لتكنيس الرمال عن أنفسنا وخرق الطبقات الصخرية حولنا بحثاً عن معان بديلة وآفاق جديدة. اكتسب المعرض أهمية قصوى حينها لكل مشارك في التجربة.
هكذا ظننت!
وصلنا حيفا قبل الافتتاح بربع ساعة، ولم يكن هناك من المكلفين بالمتابعة أحد! أكملنا التفاصيل الصغيرة عنهم وانتظرنا.
أول الزائرين قيم معارض إسرائيلي أراد لقائي وسؤالي عن الفن الفلسطيني “المعاصر”، وأنا كقطة شرودنغر كنت ولم أكن هناك في نفس اللحظة!
أين أنتم؟ قلت محدثاً نفسي أبحث عن أهل حيفا الفلسطينيين
دقائق طويلة حتى أتى المكلفون بالمتابعة، عذرهم كان معهم، فسوء التنسيق والالتباس تضخم حتى كاد يفسد صداقات وليدة بيننا. واتفقنا أن نقلل الرسائل الالكترونية ونزيد من فرص اللقاءات المباشرة.
هو معرض واحد قلنا والقادم أجمل.
حدثت نفسي وقلت “حيفا عذرها معها”، ثم فكرت فيما هو أبعد من حيفا وتسألت “أليس لكل مدينة فلسطينية عذراً يلازمها!”
حيفا مربكة، ولم أفهم تركيبها المعقد، الحضور غريب جداً. قلت ربما كان جمهور جمعية الثقافية العربية مختلفاً عن جمهور مسرح انسمبل خشبة ومختلفاً عن مرتادي فتوش. عندما تساءلت ما العلة، قال لي أحدهم، هناك حفلة موسيقية في كباريت وسيأتي الحضور لاحقاً!
انتشرت رائحة تعاطى الزائرين للفن الفلسطيني “المعاصر” في الشوارع القريبة حول البيوت المهجورة في المدينة، وتحاورنا في مواضيع شتى وفي شراكات متعددة، ولم نتحدث عن المعرض على وجه الخصوص.
قلت مهدئاً نفسي، هذا هي البداية فقط. ولحيفا سحر لن يعرفه إلا أهلها المصابين بها!
المحطة الثالثة
الناصرة
أكبر تجمع فلسطيني داخل أراضي ٤٨، من المغري جداً قبول أي مخاطرة للمرور بالمعرض هناك. رجل خارق أعجبه المعرض في حيفا فطلب استضافته في الناصرة على مسؤوليته، سألته كيف هي قاعة العرض لديك، قال لي لا يوجد قاعة عرض بعد ولكننا سنرمم الطابق الثاني فوق مقهى الرضى، هو متهالك غير صالح للسكن ولكنه جميل كالناصرة القديمة.
قال لي لا عليك سيكون المكان جاهزاً إن وافقت مؤسستكم،
قلت له ستكون الاعمال الفنية أمام المقهى نهاية الشهر إن كنت جاداً،
قال لي ستقع في غرام بيوت الناصرة القديمة المهجورة كما وقعت أنا،
قلت له قد لمحتها مرة، وسأكون هناك بين الأعمال نهاية الشهر إذاً.
لم توافق المؤسسة بناء على خبرة أو سيرة ذاتية للرجل الخارق، بل بناءً على الثقة التي تمتع بها وكيف عرف أن يتلاعب بسحر مدينته القديمة وأمجادها.
أسئلة من نوع مختلف، جمهور أكبر وصادق، صانعي أفلام، وبعض الفنانين الهواة، وعدد من الكتاب. مهندسون، ومعلمي مدارس، جميعهم جال غرف المعرض بعد أن تناول قطعة كنافة من السدر الدائري الذي تمركز في وسط الغرف.
سدر الكنافة إضافة عبقرية من مشعوذ المعرض!
البيت متهالك جميل وشُرفه تطل على بيوت متهالكة جميلة أخرى، ولولا وجود مقهى الرضى أسفلنا لظننت أني في حارة مهجورة، عن الأضواء وعن الحداثة.
عالية بعيدة عني كانت الأضواء.
المحطة الرابعة
طيبة المثلث
صديقٌ ناشطٌ شاب كان بوابتنا إلى أصدقاء كثر في مثلث البلدات العربية المأزوم بين الطيرة وقلنسوة والطيبة. جمعيتهم باسم شهر تشرين تسمت لتجمع خيرة من شباب المنطقة هناك، لا شيء يحركهم إلا أمل في رؤية غداً مختلف، تدفعهم إرادة تصلبت لتجابه معدل جرائم القتل المرتفع هناك.
أهل المثلث محاصرين. رام الله لها رأس المال، وحيفا لها البحر، والناصرة لها الله، أما الطيبة فلا أحد لها. تذكرت انتظاري لبعض الاعمال حتى تصل من غزة، وخوفي أن يتأخر الافتتاح الأول في رام الله إن لم نستطع جلبها في الوقت المحدد، ولكن الطيبة مخيفة بحق كانت، فهم لا ينتظرون أحداً ولا أي شيء من أحد.
أنجز محاربو الجمعية تفاصيل المعرض بتنسيق عالٍ، في جمعية جهود كثيرة انصبت في نشاطاتهم. اقترب الافتتاح وظننت أن الحضور سيكون متوسط الحجم شاب العمر، ولكن المفاجأة الأكبر في رحلتي كانت هناك، حيث تواترت وفود الحاضرين ومن كل الفئات العمرية والمجتمعية، وعلى اختلاف مسمياتهم الوظيفية، واهتماماتهم.
جمعهم فضول لمعرفة كيف مثّل الفلسطيني الآخر نفسه! أسئلتهم كثيرة ومعقدة ومحملة بأعباء متراكمة، جمعهم حينها نداء خفي للبحث عن ذات خاصة بهم ربما، فبالنهاية لم ينتظروا أحداً ليقل لهم كيف يكون الفلسطيني.
ظننت الضيافة غير موجودة في البداية ولم أستغرب وجود الماء وبعض الكاسات فقط على طاولات من البلاستيك على يسار المدخل، الجمعية شبابية والتمويل مفقود ولذلك الضيافة غير ضرورية افترضت.
من أجمل ما رأيت في رحلة المعرض كان عادة للقائمين على جمعية تشرين، فكلما جاء أحدٌ ما أحضر معه لوناً إضافياً مغطياً بلاستيك الطاولات. بعضهم أعد الحلويات بنفسه، وبعضهم أحضر خجِلاً قنينتي عصير ولم يعرف أن ذلك العطاء مستحيل في أماكن أخرى.
كم نحن مختلفون في طرق بحثنا عن معاني هويتنا الجمعية الفلسطينية!
المحطة الخامسة
محمد
محمد،
طفل صغير من الطيبة فَرْتك بأسي ونفضه عشرات المرات، في محطتنا الأخيرة قبل تفكك المعرض وعودة الأعمال الفنية إلى أصحابها!
ما انفك يخبرني بالتشابه المعجز بيني وبين أخيه المختفي دائماً في حيفا، هو طويل مثلك قال، ولذلك من المنطقي جداً أن تكون على معرفة به!
لا أعلم كيف افترض ذلك! ولكن منطق الطفل مثير للإعجاب، ربما سأقابل أخاه يوماً ما. سوف احفظ اسمه قلت محدثاً نفسي.
سألني عشرات المرات:
أتعرف آدم؟ آدم يشبهك جداً.
بحياتك، ألا تعرفه؟
هو في حيفا، أكنت فيها؟
أخبره عني، لقد اشتقت له!
أنت متأكد أنك لا تعرفه؟
تشبهه جداً، قال الطفل قبل أن يحضنني بدفء وحرارة أشعلت بعضاً من طفولتي المفقودة، وابتسم قبل أن يغادر مضطراً بعدما تأكد أني سأخبر آدم عنه حال لقائي به.
ها أنا يا محمد أحاول إخبار آدم باشتياقك له.
فبعد ثلاثة سنين لم أقابل أخاك بعد.
آسف جداً.
أحدث نفسي حتى هذا اليوم،
هناك في طيبة المثلث من ما زال ينتظر أحداً.