لم ترق له فكرة وجود الحكومات، وأثاره تناقض أساساتها المبهمة.
لم تعجبه طبيعة الأنظمة الأوروبية على وجه الخصوص بداية القرن العشرين، فاحتجّ على تدخلها السافر في تفاصيل حياة شعوبها الدقيقة.
تساءل،
إن كانت مهمة الحكومة إصلاح الأمة فعليها التلاشي إذاً بعد تحقيق المهمة، أليس كذلك؟
إن بقيت الحكومة مدة زمنية غير محددة فسيعني ذلك أن تلك الأمة منحطة وهي بحاجة إلى من يقوّم سلوكها بشكل دائم.
حَلم أن تصل الأمم لرقيّ حكم الذات دون حكومات، كل فرد فيها تحكمه فطنته وقدرته على إدراك الصواب من الخطأ.
أنذر باقتراب الكارثة إن لعبت الحكومات دور الرقيب على الأمم، وتنبأ بأن بدن الحكومة يتضخم قبل أن ينخره العفن وتستفحل المصيبة، قال أن مفتشي الدولة سيحتاجون إلى مفتشين جدد بينهم كل دورة حكم في تكرار لا نهائي، متضخم بالضرورة. كل ذلك العبث للقيام بمهمات ما كانت لتكون أساساً لولا بنية الحكومات التي اعتمدت ضمناً قصور الأفراد كثابت يضبط العلاقة بينها وبين الشعب.
المواطن من وجهة نظر الحكومات الأوروبية بداية القرن العشرين متهم حتى تثبت إدانته. قال المربي التقدمي خليل السكاكيني وصدق قولاً، فقد تغولت تلك الحكومات وأشعلت بعد كتابته المقالة بسبعة عشر عاماً حرباً عالمية مدمرة.
آه يا خليل، يا من قال أن مدنية أوروبا بدايات القرن العشرين ليست مدنية شعوب ولكنها مدنية حكومات تقود شعوبها إلى الجنة بالسلاسل.
قُلت بالحرف الواحد
“تركب الترام أو القطار فلا تلبث أن يجيئك المفتش فيطلب تذكرتك كأنه يقول لك: إنك موضع شبهة، فتبرزها له فيبطلها بالتمزيق أو طريق آخر، كأنه يقول لك: إننا نخشى أن تستعملها مرة ثانية. فتمسح تلك الإهانة بجلدك. إلى غير ذلك مما لا يسعنا استقصاؤه.
إذا كان ذلك كذلك أفلا يصح أن يقال أن كل أمة تكون لها حكومة تسجّل على نفسها الإنحطاط، وأن كل حكومة تكون أمتها منحطة كان ذلك دليلاً على أنها لا تستطيع الإصلاح، أو أنها لا تريده، وأن كل مدنية قائمة على القانون لا المبادئ لمدينة فارغة لا تصلح أن تكون المثل الأعلى. وما أحرى الناس، ولا سيما الشرقيين منهم، أن يفتشوا عن أسلوب آخر.”(١)
حذّر السكاكيني في مقالته المكتوبة عام 1922 من استعارة أنماط الحكم الأوروبية ولكن هيهات، أسقطت على شعوب منطقتنا أنظمة حكم لم تنسخ عن الأوروبيين إلا دهاء البنوك، ولعنة القومية، واتيكيت المعابر الحدودية.
أعيد تضييق مقاسات أدوات الحكم تلك وتوسيعها مراراً لتلائم أحلام دكتاتوريات المنطقة، ولتتماشى مع طموح مرجعياتها الدينية القاصرة، وبذلك أبَّدَت الحكومات المتورمة نفوذ الإقطاعيين، الذي ما زال والله أعلم يتربع على مقاعد مدراء المؤسسات على اختلاف أشكالها.
استعرنا من أوروبا يا خليل الأسلحة الرديئة أيضاً.
لم تكتف الأنظمة أبداً من رجال الأمن، فها هم ذوي المراتب الدنيا يجوبون شوارعنا وعلى أحزمتهم مسدسات بلجيكية الصنع، ورفاقهم الأنكى تسليحاً يحملون بنادق روسية أكثر فتكاً. لم تكتف الأنظمة من هؤلاء، واحتاجت آخرين مدربين بطريقة حديثة ربوتيّة، زيهم صارم جاد، مدججين ببنادق فرنسية ستلعن راس أبو المعارض ببرستيج فرنسي، وليست همجية كالبنادق الروسية القاسية عديمة الرحمة.
بين هؤلاء، احتاجت الأنظمة مخبرين يحملون أسلحة أمريكية لضمان إخلاص دائرة الحكم الضيقة.
تشتد وطأة المحنة التي نعيشها يا خليل، ويغلق جميع من ذكرت من رجال أمن شوارع مدننا في يوم مزدحم لمرور موكب أحدهم، والذي أقسم بأولياء الله أنّي كما أغلب أبناء هذه الشعوب لن نلقي له بالاً لو سار وحيداً على الأرصفة المفقودة.
أنت يا من أغلقت شوارعنا الضيقة لست نجماً تلفزيونياً تركيا تشتهيه فاقدات الدفء من الأمهات الحالمات ولا أنتَ فتاة تجرّأت على المشي وحيدة لتأكلها أعين المتحرشين قبل ألسنتهم وأيديهم.
نفس عميق.
دعا خليل السكاكيني إلى الأصالة وكره التقليد، ولم يكن أبداً ما ودّ الأخرون منه أن يكون، لم يكن فلسطينياً، ولا عروبياً، ولا مسيحياً بالمعاني الدارجة. حاول أن يخلق مجلساً علمانياً ليتجاوز التاريخ والجغرافيا، جمع فيه أرسطو وأبو دياب (٢)، المتنبي وإبراهيم طوقان، هيغل وشوبنهاور. وافقهم وخالفهم، ونادى بما أعجبه من آرائهم دون اكتراث لكارهيه. تأثر واقتبس، تغير وغيّر. شعر أن زمانه ومكانه ليسا له، ولا للنهضويين من معاصريه، فردد قول الشاعر
غرَّبته العُلى على كثرة الأهل فأضحى بين الأقربين غريبا
في رثاء أحد أصدقائه كأنما رثى نفسه ومن شابهه الرسالة في بيت شعر واحد.
ها هي ذكرى رحيلك السادسة والستين تمر في العام 2020 في الثالث عشر من شهر آب، وما زالت مقالاتك وخطبك متماسكة النص والكلمات بعيدة عن الابتذال والإسراف، تماماً كما أوصيت تلاميذك. ها هي المعاني التي أردت تحوم فوق النصوص، تنتظر من يخلق الإنسان الجديد الذي أردت، الإنسان الكامل الذي لا ينساق وراء الجموع، الإنسان الصريح قلباً والصحيح قالباً.
رحلت كمداً عن هذا العالم في سنة من أحلك سنينه، عام 1953. ورددت قبل رحيلك مراراً قول المتنبي الذي أحببت فقلت،
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي ويا نفس زيدي في كرائهها قُدما
أخطأت يا خليل في وصية واحدة،
أخطأت عندما أوصيتنا بأكل الدجاج للحفاظ على جسد سليم، بعيداً عن زهد مرحلة من سبقك. قلت لنا “كلوا دجاجاً، كلوا دجاجاً، إن هذا العصر عصر غذاء، والأمة التي لا تتغذى لا تستطيع البقاء”(٣)
أكلنا الدجاج بوفرة يا خليل، ولسخرية القدر لم يبق من الأمة التي حلمت بها سوى مئات الملايين منّا ومئات المليارات من الدجاج، جميعنا ينتظر الذبح بطريقة أو بأخرى.
هوامش
1 من مقالة “مدنية أوروبا وحكوماتها”، نشرت هذه الكلمة في مجلة المقتطف الغراء بتاريخ 1/3/1922
2 أبو دياب هو شاعر شعبي من قرية الطيبة رام الله، أشاد به خليل السكاكيني في كلمة ألقاها متحدثاً عن الفرق بين الشاعر المطبوع والشاعر المصنوع، 29/12/1942
3 من خطبة “كلوا دجاجاً”، نشرت هذه الكلمة في جريدة السياسة الغراء لسنتها الأولى ثم في جرائد أخرى، لم توضح سنة النشر الأولى.
كتبت هذه المقالة بعد قراءة في كتاب “ما تيسّر” للمربي خليل السكاكيني والذي جمع عدداً من الخطب والكلمات والمقالات التي نشرها في جزأين (1943،1946).