كتبها راي بويسفيرت لمجلة “الفلسفة الآن” وهذه ترجمتنا لها.
لَو كان هُناك ملصق عن الجديروقراطية(١) الفرنسية، فلا شك أن ألبير كامو سيكون بطله ورمزه. عندما قُتل والدهُ في الحَرب العالمية الأولى، لم يَكُن كامو قد أتم العامين بَعد، فأخذت أمه وجدته مسؤولية تربيته وتنشأتهِ في بيتِ لا سباكة فيهِ ولا تدفئة ولا حتى كُتب. إلا أنّ مُعلمه في المدرسة الابتدائية المحلية – لويس جيرماين – تغلّب على إرادة الجدة التي كانت تريد من حفيدها أن ينخرط في العمل ليحقق دخلاً، حيث وفر لكامو -الطالب الموهوب- الحرية ليختار الدراسة على حساب العمل. لاحقاً، صارَ كامو واحداً من أشهر الروائيين وكاتب لمقالات فلسفية مؤثر وثاني أصغر شخص يحوز جائزة نوبل في الآداب. أهدى خطاب تسلمه الجائزة لمعلمه جيرماين.
أعمال ألبير كامو
على الرغم من أن روايته الأولى «الغريب» (1942) جعلته مشهوراً عالمياً، إلا أنّ المثقفين الباريسيين، وخصوصاً جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار اعتبروه ريفياً غريباً/فظّا، وهذا ببساطة لأن ترعرعه لم يكن على نحو لائق، وتعليمه لم يكن منضبطاً، وكذلك لم يكن مدنياً بصورة تامّة، ولكن الاختلافات كانت أكثر من مجرد اختلافات ثقافية، فكانت شخصية وسياسية وفلسفية. تمكّن الشاب الوسيم كامو بسهولة من إدهاش النساء الجذّابات، وهو أمر شكّل تحدياً أصعب عند سارتر. كانت دي بوفوار واحدة من النساء اللائي لم يكن كامو مهتماً بهنّ، وهو أمر لم تتقبله دي بوفوار جيداً. وليزيد الطين بلّة، لم يكن كامو قادراً على تأييد الماركسية في فترة كانت فيها التيار المفضل عند المثقفين الفرنسيين بعد الحرب، ولم يكن يوافق على أي من «المُطْلَقات الفرنسيّة المُبالغ فيها» التي أعلنها سارتر. آمن كامو دائماً أنه لا يوجد معنى لنفي أي حقيقة عن «الطبيعة البشرية» مثلما فعل سارتر، بل واعتبر أن الفكرة خطيرة. طالما امتدح كامو اليونان لحسّهم بالحدود -تلك المثبتة في طبيعة الأشياء- وليست بوصفها تفسيراً ذاتياً. حذّر كامو من فِكرة عزل الحرية وجعلها مُطلقة وغير محدودة كما فعل سارتر، ووصف الأمر بـ «المُصيبة»، وبأنه سيجعل من تحقيق العدالة صعباً إن لم يكن مُستحيلاً وأنه سيعطي رُخصة لأولئك المهتمين بالاستيلاء على السلطة. من وجهة نظر كامو، فإن “القياس والتوازن”، من المفاهيم التي يجب أن تهيمن. دفعت مثل هذه الأفكار كامو للتأكيد على حقيقة أنه ليس “وجودياً” على الرغم من التصاقِ الصفة دائماً بهِ. لو أراد المعلقون حقّا أن يطوروا نقداً مُستمراً وقوياً لكامو، لكانوا قد ركّزوا على نقاط ضعفهِ التي كشفها النقّاد اللاحقين حيث أشاروا إلى نِقاط ضعفه الرئيسية مثل توصيف كامو الهَزيل والضحل للعرب والنساء في رواياتهِ. فعلى سبيل المثال، روايته «الطاعون» (1947)، وبغض النظر عن أن أحداثها تقع في الجزائِر، إلا أنها تقدم للقراء مجموعة من الشخصيات الفريدة ذات الأصول الأوروبية، وفي الوقت نفسه، نجد العرب في المدينة العربية، غير مرئيين. أما النساء، وعدا عن استثناءات قليلة، فقد كنّ في أعمالهِ فقط عناصر تزينية في الخلفية.
لم يكن الانقطاع التام بين كامو من جهة وسارتر ودي بوفوار من جهة أخرى نتيجة الاختلافات حول المركزية الأوروبية أو المركزية الذكورية، وإنما بسبب الاختلافات السياسية بينهم. تسبب كِتاب l’Homme révolté والمترجم إلى الثائر (1951)(٢) في الشرخ في العلاقة تحديداً. لم يتوقف كامو في ذلك الكِتاب عند النقد اللاذع والساخر لشعارات الثورة الفرنسية المقدّسة، بل انتقد أيضاً فكرة التاريخ المثالي عند الماركسية. أُشيدَ بالكِتاب في صحيفة Le Figaro ذات الميول اليمينية، على صعيد الكُتّاب، فقد أشادت حنّا أرندت بهِ، ولكن بشكل عام، كانت ردة الفعل من الوسط الثقافي الفرنسي (اليساريين غالباً والماركسيين علناً) شَرِسة وحادّة. أوكلَ سارتر -كان مُحرر صحيفة Les Temps Modernes آنذاك- مهُمّة كتابة المراجعة لفرانسيس جينزون، والذي أخذ في مهاجمة النص بعنف وتشريحهِ. ردّ كامو وقتها بالمثل، متجاوزاً جينزون ومخاطباً سارتر مباشرة. طبعاً، كان لسارتر ردٌ بالمقابل، وبدأ كالآتي: «عَزيزي كامو لم تكن صداقتنا يوماً سَهلة، ولكنّي سأفْتقدها»، وبهذا اكتمل الانفصال بينهما.
تفاقمَت علاقة كامو السيئة بالمثقفين الفرنسيين لاحقاً. مع اشتداد وطيس حرب الاستقلال الجزائرية في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، أخذ أغلب المثقفين الباريسيين جانب الثوار الجزائريين إلى حد تأييدهم للعنف ضد المدنيين الفرنسيين في المستعمرات باعتبارها حركة ضرورية لطرد القوة الاستعمارية. لم يكن كامو متأكداً من موقفهِ تجاه القضية، فمن جهةٍ يدرك هو شرور الاستعمار، ولكن من جهة أخرى، كان له أقارب فقراء يستوطنون في الجزائر (يراهم بريئين)، وبالتالي، نظر إليهم على أنهم قد يكونون ضحايا “لـهجومات إرهابية”، وهو ما منعه بشكل قويّ من الدفاع عن أولئك الثوّار. كان كامو يأمل أن تصل الأمور في الجزائر إلى تسوية مثل تلك التي حصلت في جنوب إفريقيا بعد سنوات: سلطة حقيقية للسكان الأصليين مع وجود مكانٍ للأوروبيين الذين عاشوا لأجيال في الجزائر، ولم يعرفوا غيرها وطناً. وفي عالم من قطبين بين الثوار والاستعمار، لم يجد كامو لموقفه ذاك الكثير من الأصدقاء/المؤيدين. حَسم كامو موقفه في نهاية المَطاف بالتزام الصمت فيما يخص الجزائر نتيجة غضب وكره الجانبين له، وبسبب صراعه الداخلي تجاه الأمر أيضاً.
تناقضات كامو
ليس مفاجئاً أبداً انقسام كامو على نفسهِ وملاحظة التناقضات في حياتهِ. أسمى واحدة من مقالاته «بين نعم ولا» وأمضى حياته وجهده الفكري في محاولة الحفاظ على موقف سعى من خِلاله البحث عن حل وسيط صعب بين التبسيطات السهلة.
ما صعّب الأمر جزئياً، هو الرأي الفرنسي الموروث، فمن جهة كان الإرث الفلسفيّ الديكارتي القائم على الوضوح والحاجة إلى اليقين. ومن جهة أخرى، كانت هناك المادية التنويرية: فهم الطبيعة على أنها آلة كبيرة لا يأتي المعنى من وجودها إلى عبر مُصمّمٍ خارجي. وحين لم يبدُ هذا المصمم حقيقيّاً، صار هذا العالم الآلة فقط محض حركة عشوائية لجزئيات عمياء بلا أي معنى. وعلى النقيض من هذا الوجود الميكانيكي البائِس، عاشَ كامو تجربة دافئة وسعيدة في منطقة البحر المتوسط الدافئة، خاصة تجربة الشمس والبحر السارّين.
تحكي مقالاته الأولى عن تنعّمه لأيام كثيرة مُستمتعاً بالسماء الكرستالية الزرقاء واللعب في الماء والإعجاب بالأطلال الرومانية وبصورة عامة، الشعور بجمال الطبيعة. أمّا حالة «العبث» المعروفة عن كامو والتي تناولها في «أسطورة سيزيف» (1942) كانت نتيجة عدم توافق هذين البعدين. بعد يحاول فيه الإنسان البحث عن معنى وهدف وغرض لوجودهِ، وبعد لا يستجيب فيه العالم لآلام الإنسان إلا باللامبالاة – عالم كل ما فيهِ فقط مادة خام غير عاقلة.
أبدى كامو انزعاجه من فكرة ترافق «فلسفة العبث» مع اسمهِ في واحدة من أكثر مقالاته تكشفاً -اللغز (1950)- لأنه لم يكن قد استكشف الموضوع سوى مرة واحدة، ولأن تحليله وتناوله للعبث كان يقصد بهِ أن يكون نقطة انطلاق لا أكثر. وأكد كامو أنه ليس من الممكن أو الثابت عنه «أن يحد نفسه في إطار فِكرة انعدام المعنى من كل شيء وأن علينا أن نفقد الأمل تجاه كل شيء… لأننا وفي اللحظة التي نعترف بها بأنه لا معنى لأي شيء، فإننا نعبّر عن معنى ما». إنكار أن العالم له معنى، ينطوي على «قمع جميع أحكام القيمة»، وعلى الرغم من ذلك، يكون العيش «حكم قيمة» في حد ذاتهِ.
كشفت تلك المقالة عن القُوى المتناقضة والمتحاربة في داخل أفكار كامو: مادية الفلسفة المُعاصرة الباردة والدفء الممتع والسار للتجربة المُعاشة. الطريق إلى ما وراء العبث كان في متناول يدهِ. لم يكن للأمر علاقة باعتناق الترانسدنتالية أو المُطْلقات المُجرّدة، بل كان الأمر يشبه الإيمان والثقة في التجارب البشرية التي عويشت. وَصف كامو هذا الطريق على أنه “الولاء الغريزي للضوء في المكان الذي ولدتُ فيهِ، حيث تعلم الناس ولألفية كاملة أن يحبّوا الحياة، حتى في أوقات المعاناة”. احتفال بآلام ومسرّات الحياة على حد سواء. لا ترضَ أبداً بنعم بسيطة أو لا بسيطة. بل خذ النعم دائماً إلى آخرها، حتى تترك مساحة لـ لا أخرى. في صميم الأمور، تشبه حالة كامو ما قِيل بأنه أساسي بالنسبة لإسخيلوس: ليس الافتقار إلى المعنى بل إلى اللغز.
الاحتفاظ على مساحة اللغز في العقل، ومع إعطاء صوتٍ لنعم تتضمن في داخلها حجرة للا، ليس مهمة سَهلة قطعاً. تستكشف روايات كامو أبعاد مختلفة لهذا الصراع، ويمكن اعتبار رواية الغريب نقطة انطلاق لمشروعه. تتحدث الرواية عن عالمٍ ليس عبثياً البتة، بل متناسق إلى حد ما. لا يُنظر للرواية على أنها عبثية لأنها لا تُناقِض بين الإنسان بوصفه كينونة ضد العالم، بل العكس، تصورهما في حالة اتساق تام. ومثل العالم، فإن شخصية الرواية الرئيسية -مورسول- تُجسّد حالة اللامبالاة المُطلقة. تلقى مورسول تيلغرام يفيد بوفاة أمهِ، ولكنه كان كمن يقرأ أخبار الطقس في صحيفة. امرأة شابة تعرض عليه الزواج، فيرد: نعم، ولِمَ لا؟ أي أنثى ستفي بالغرض. بعد مشاجرة قصيرة، يجد نفسه بالصدفة على أحد الشواطئ، وفي الوقت نفسه، وعلى سبيل الصدفة يكون في جيبته مسدّساً. وهناكَ يواجه وبالصدفة أحد أطراف تلك المشاجرة. يدفعه خليط الشمس مع المياه المالحة في عينيهِ ومحيطه إلى إطلاق النار على العربي، وبما إنه الأمر لا يشكل أي فرق، يُطلق أربع رُصاصات أخرى على الجثة. وعند انتهاء الرواية، لم يكن من الغريب على الشخصية أن تعتنق وترضى بحالة التشبع والاندماج الكامل مع العالم، وليس بتناقضه معهِ: “لقد صرت منفتحاً إلى لا مبالاة/لا اكتراثية العالم اللطيفة، ووجدتها تشبهني بقدر كبير – مثل أخٍ لي – لقد شعرتُ بأني كنتُ سعيداً وأنني صِرتُ سعيداً مرة أخرى.”
نظّفت رواية الغريب الوسط الفِكري. تصور الرواية عالماً لا يحكمه أي شيء سوى تسليم بسيط بـ نعم لكيفية سير العالم. وهذا العالم يتضمن الإنسانية بوصفها مادة غير مُهمّة تحركها قوى عمياء. ويكون الاختبار العظيم لهذا التسليم أو الفوز العظيم لذلك التسليم بنعم في حياة لا مساحة فيها لأي لا، عبر “العَود الأبدي”، وهو مفهومٌ ثمّنه فريدريك نيتشه، والذي يعد ضمن قائمة كُتّاب كامو المُفضّلين. هل سيقبل المرء بأن يعيش حياته نفسها مرة بعد مرة؟ في نهاية الرواية، وعندما يجد نفسه أمام المقصلة لا محالة، يقول مورسول «نعم». يَرضى بحياتهِ، «وشعرتُ بأني جاهزاً لأعيشها مرة أخرى أيضاً»، وهو ما يترك القراءة في النهاية في حالة من الإلغاز والحِيرة. كان مورسول يعيش حياة لا مبالية وباردة ومفرغة من المشاعر. ولكن بعض الـ «لا» وبعض الثورة كانت لتعطيه نكهة تجعله تقريباً إنساناً كاملاً. حتى الوجود العبثي المتناقض بين الإنسان والعالم كان ليكون أفضل حالاً من هذا. الموقف الواضح في رواية «الغريب» هو أن على الإنسان أن يجرّب شيئاً آخر.
أمّا رواية «الطاعون»، فهي تتناول الأمور بطريقة معاكسة، حيث تصير الـ «لا» هِي المركزية. لا يحتاج البشر أن يروا أنفسهم على أنهم جزء من نسيج الأشياء من حولهم. يمكن للأفراد أن يثوروا. يمكنهم أن يقولوا «لا». يقول بطل الرواية د. ريو “أنا أعمل ضد الخليقة”. Amor fati [حُب نيتشة للقدر] والعود الأبدي يكونان من نصيب الذين يرفضون أخذ التحدّي الإنسانيّ. يمكن للبشر بدلاً من ذلك أن يبذلوا جهداً لتحسين الأمور من حولهم مع أخذ ضيق أفق هذا التحسين بعين الاعتبار. الأمر هنا لا يشبه موعظة إسخيلوس الداعية إلى الرضى والقبول بالحياة والتي تحتوي بالضرورة على آلام ومعاناة. هناك نوع من النبل عند إسخيلوس لحظة القبول والتسليم بالحياة بضرها ونفعها وبالمسؤوليات التي تأتي معها: بالنسبة له، يمكن للناس أن يقولوا «لا» لبعض جوانب الحياة عبر قولهم «نعم، يمكنني أن أكون على قدر التحدّي، وأن أتحمّل المسؤولية وأن أقوم بأفعال بطولية. لا يذهب د. ريو إلى هذا الحدَ. كانت ثورته بقوله «لا» شاملة للعالم. علينا أن ندير ظهورنا للعالم الذي يعاني فيهِ الأطفال الأبرياء. أن نقول «نعم» لهذا العالم، يجعل من شُركاء في الجَريمة.
لا يحاول كامو في روايته الأخيرة «السّقْطَة» (1956) أن يبتعد كثيراً أو أن يقدم حلولاً لحالة الردب بين النعم-واللا. تكون الشخصية الرئيسية جان بابتيست من فاعلي الخير، ولكن وخلافاً لشخصية د. ريو، لا يمكن النظر إليه على أنه إنسان لطيف؛ حيث يشعر بأنه متفوق وأفضل من الآخرين، وأنهم لا يستحقون احترامه، وقليلاً جدا ما يقوم بأي فعل من منطلق الخيرة أو الأصالة فيهِ. كان كامو يوجه أصابع الاتهام الجزئي إلى طبقة المثقفين الباريسيين وجزئياً إلى نفسهِ كما أشار كاتب سيرته الذاتية أوليفر تود.
العالم الموصوف في رواية السقطة لا يحتوي على أي أمر بنّاءٍ فِيه. وهذا واحد من أكثر الاتهامات والأحكام المستمرة للعمل. يحاول البطل أن يكون قادراً على قول «لا» للجميع، وفي الوقت نفسه يريد تحصين نفسه من النقد؛ أن يكون القاضي الذي لا يحضر أمام أي قاضي آخر، أي أن يكون إلهاً. يعد مثل هذا الموقف وهمياً مثله مثل الهوس المرضي بالأحادية. الإدانات الشاملة للحالة الإنسانية أو الخطيئة الأولى أو الإدانات الشاملة لأنظمة اقتصادية معينة مثل الماركسية لا تؤدي إلا إلى محاكم تفتيش جديدة وحملات تطهير. لن نجد الإجابات عبر الوقوف خارج المعمعة وإطلاق أحكام الإدانة. الإجابة هِي… حسناً تبقى الإجابة غير موجودة. تبقى الحمامات في رواية السَقطة تحلق وتحلق، ولكنها لا تهبط أبداً. تبقى النعمة بعيدة المنال. الروح والطبيعة لا يختلطان. النعم واللا يبقيان على خلاف. لا يمكن للبشر أن يكون غير مبالين، ولكن العالم غير مبال. تزداد حدة حالة الردب، وكذلك حاجتنا إلى تجاوزها.
الطريق إلى الحَل
كانت هناك طريقة للخروج من هذه المعضلة مرة. كان بإمكان إسخيلوس الذي تزامنت معه العظمة والمأساة أن يقبل بالعالم وأن يسلم له بـ «نعم» كبيرة والتي تتضمن القبول بالمسؤولية عن (1) تحديد ما يجب مواجهته بـ «لا» و (2) وضع الأمور في نصابها. في رواية «الصحراء» (1939) يعترف كامو بأنه اقترب من هذا الحَل. ذات مرة في مدينة فلورنسا، أدرك أنه «في قلب تمرد [ه] يوجد نوع من الموافقة الساكنة». الموافقة الساكنة هي تلك الـ «نعم» التي تحمل في طياتها «لا»، تأكيدٌ على أن المسؤوليات المذكورة، لا سيما تلك المسؤوليات لفعل شيء حيال تلك الجوانب التي تستحق «لا». قد يكون لهذا المزيج، بل نوعاً ما كانَ، أن يتوفق مع بعضه البعض. ولكن هذا النوع من الحدس يحاول دائماً الهرب من مخيلتنا. لم يستطع كامو خلقَ شخصية د. ريو تكون قادرة على التأكيد، في طريق محاربتها للشر، على أنها يمكن أن تضم هذا المزيج الذي يعمل مع وضد الخليقة. تطير الحمامات وتطير، ولكنها لا تهبطُ أبداً.
بَعيداً عن ما تكشف لكامو في فلورنسا، أفضل ما يقودنا إلى مسار كامو البنّاء يمكننا إيجاده في مقالته «مَنفى هِيلين» (1954). صحيح أن كامو هنا يحتفي نوعاً ما بالميراث اليوناني الخيالي والمثالي، ولكن ما تخبرنا المقالة عن كامو نفسه يبقى مهماً، لأنها تشير لنا إلى أن كامو مستعد للتخلي عن جانبه الفلسفي وأن يسمح لتجربة حياته أن تعرف حياته وما يقوله. يصير الجمال في هذه المقالة في الصَدارة، لأنه جزء لا يتجزأ من تكوين الأشياء. من الممكن أن نحتفل بنوع من الزواج [الارتباط] بين الإنسان والعالم، كما صاغها كامو في أحد نصوصهِ. للتعبير عن الموضوع ببساطة: لا ينبغي علينا أن نقسّم بين الإنسان والعالم بحدة كما يملي علينا موروثنا الفلسفيّ، ولأنه وعلى خلاف ما علّمنا الفلاسفة، فالبشر والعالم ليسوا في حالة تضاد. وعلى الرغم مما أظهره لنا مورسول، لا يمكننا التغلب على حالة التضاد الظاهرة عبر تصيير البشر إلى مجرد أجسام غير مبالية/غير مكترثة ضمن حركات الأجسام الأخرى في الكون.
تمتدح مقالة «منفى هيلين» بالعلاقة مع الجمال فِكرة الحدود والقياس(٣). قد تتجاهل الحرية الراديكالية للوجوديين هذه الفكرة إلا أن الحدود مُحاكة في نسيج الأشياء من حولنا كما قال هرقليطس(٤). الويل لأولئك الذين يتعدون تلك الحدود، لأن آلهة الانتقام (الإريانة) – حامية الحدود – ستعيد المخالفين إلى تلك مكانهم. إن الروح الحديثة، التي يسميها كامو الروح «التاريخية»، لها سببٌ مثالي دفعها إلى الخروج عن الحدود، وصارت تميل إلى عزل القيم الفردية المطلقة، لا سيما الحرية والعقلانية. يا له من تناقض مع أفلاطون، الذي دعا إلى إيجاد توازن بين العوامل متعددة. احتوت كتاباته «على كل شيء – الهراء والعقل والأسطورة…». عندما لا يسود أي عامل واحد، ولا حتى العقلانية ، فإن حالة من التوازن تنشأ. يوفر مثل هذا التوازن الطريقة الوحيدة للتصدي للتعصب (أي الإيديولوجيات بدون حدود داخلية) التي رآها كامو حوله.
لم يتوج سعي كامو إلى إيجاد تلك الحالة من التوازن بالنجاح أبداً. في واحدة من مقالاته الأخرى، «أشجار اللوز » (1954)، كان كامو قريباً جداً حالة التسليم للنعم واللا، حالة التسليم والموافقة الساكنة والتي تؤكد الحاجة إلى تمرّد. «علينا أن نخيط معاً ما مُزّق إرباً إربا،» يقول، «أن نحقق العدالة في عالم من الواضح أنه ليس عادلاً». تشير الكلمتان الأخيرتان إلى ميل كامو نحو السماح بالمغالاة الفلسفية الشاملة لتجاوز إحساس البحر الأبيض المتوسط بالقياس الملموس والتوازن. يتحدث كامو عن عالم، ولكن العالم الحقيقي، ممزق كل ممزق. العدالة ليست حاضرة تماماً، ومع ذلك فإن العمل على الحدود الطبيعية واستغلال الموارد المتاحة من حولنا سيمكننا من السعي لإصلاح ما يحتاج إلى إصلاح. أن نقول «نعم» للحياة فهذه موافقة على مسؤولية «علاج وتعافي» الحياة.
النعم الشاملة واللا الشاملة في الحياة ليست سوى تجريدات فلسفية، وتمثل نوعاً من الإطار المفاهيمي الذي استبدل به الوجوديون التجربة الحقيقية، ولكن في عالم الأشخاص المخلوقين من لحم ودم، يمكن تقبل الحياة بألغازها والرِضى بها كما هِي. يمكننا أن نوافق وأن نقبل على كيفية جمع الأضداد مثل “نعم” و “لا” بطريقة أو بأخرى مع بعضها البعض.
كتب كامو الكثير من الأعمال والتي يمكن تصنيفها إلى دوائر ثلاث. أول دائرتين هما دائرة العبث ودائرة الثورة والتمرد، والتي كان كامو قادراً على تحقيقها. كان بإمكان الدائرة الثالثة أن تأخذه إلى عالم يتضمن «نعم» الشاملة والتي تنطوي على ضرورة الحاجة إلى النضال المرتبط بالـ «لا». أسماها كامو دائرة الحب. ولقد كانت خسارة لنا أنه لم تتح له الفرصة ليعيش كفاية ليخلقها ولينجح في إنجازها.
١- النظام الذي يعتمد تقدمه على المقدرة والعطاء الفردي – المُترجم.
٢- المعروف أيضاً باسم «الرجل الغاضب».
٣- تحدّث كامو عن القياس بمعنى التناسب والتوازن – المُترجم.
٤- فيلسوف يوناني في عصر ما قبل سقراط – المُترجم.