ليست جرائم الرأسمالية في حاجة لمحقق حصيف يلهث وراء آثارها، إذ أن آثارها واضحة في كل مكان في العالم، فهي منظومة منخرطة في قتال لا ينتهي، ومدعومة عند الضرورة بقوة السلاح لإخضاع قوة العمل والموارد الأخرى، والأسواق، لا منظومة تؤدي دورها وفق مبدأ السوق الحر.
في كتاب “العبور الخطر… الجنس البشري والصعود العالمي لرأس المال” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (٢٠١٩) ، يوسع المؤرخ السياسي الاقتصادي الهندي أميا كومار باغتشي من نطاق مسألة طبيعة الرأسمالية وتاريخها، ويتصدى للنظرة المركزية الأوروبية إلى العالم التي تشكل الإطار المفاهيمي لدى الكثير من المعتبرين ضمن الاتجاه السائد من المؤرخين. وباختصار، لا يحكي الكتاب تاريخ الرأسمالية، ولكنه يحكي تاريخ البشر باعتبارهم أشخاص يعيشون ويكافحون تحت وطأة الرأسمالية، لا دُمى في خدمة النمو الاقتصادي. والمعروف أن تقدم الدول يُقاس بمعدل النمو لا قدرة الناس الشرائية أو وضعهم فوق أو تحت خط الفقر.
ثمة فكرة راسخة مفادها أن ارتقاء الأمم الأوروبية إلى مصاف الازدهار والهيمنة يرجع إلى انتهاجها لمنهج السوق غير المقيدة، وأنه لا سبيل أمام الشعوب العالم الأخرى سوى أن يحذو حذو الأوروبيون على طريق الأسواق الحرة غير الخاضعة للتنظيم الرقابي. ولهذا السبب، يعد انتصار الرأسمالية تحت قيادة أوروبا أمر أكثر تعقيدًا ودموية مما يعترف به دعاة السوق الحر، بل إن المنافسة العالمية في ظل الرأسمالية عملية كثيرًا ما انطوت على استخدام الصراع المسلح والتلاعب بالأيديلوجيات والمؤسسات.
المفارقة أن الرأسمالية التي تدعو لحرية السوق والحرية الإنسانية، واستخدمت مبادئها لتحطيم أغلال الإقطاع والاستبداد الوراثي، أفضى نشوئها إلى ولادة أكبر تجارة للعبيد في التاريخ، وشكلت منظومة عبودية تنكر على العبيد كافة الحقوق، الأمر الذي ساهم بصورة حاسمة في قدرة التجار الأوروبيين على المتاجرة مع آسيا قبل حيازة القوى العسكرية الكافية للقضاء على الإمبراطوريات الكبرى وقهرها. غير أن المفارفة لا تنتهي هنا، وإنما تصاعدت إلى مستوى بلغ من العنصرية ما لم يبلغه أي مجتمع سكاني على وجه الأرض، بأن احتلت أوروبا كامل شعوب أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا وإبقاءها تحت الحكم الاستعماري لقرون عدة.
اهتم المؤرخون الاقتصاديون البارزين بما صنعه البشر أكثر من اهتمامهم بحال هؤلاء الصانعين. انطلاقًا من هذه النقطة، يهتم الكتاب بقضية البشرعمومًا أثناء فترة صعود الرأسمالية منذ القرن السادس عشر وهيمنتها على العالم برمته.
يعني المؤرخ الاقتصادي التقليدي باكتشاف أسباب النمو الاقتصادي ونتائجه، غير أن هذه الأسباب وسيلة لغاية أخرى فقط. وفي حالة باغتشي، فقد اهتم بالضرر الذي قد يسببه النمو الاقتصادي ويغفل عنه الباحثين الاقتصاديين ويدرجوه في عداد النمو. على سبيل المثال إذا أنتجت دولة ما 20 مليون طن من الأسمنت، فإن اهتمام باغتشي ينصب على معرفة أن تلك الدولة لم تستخدم مليون طن واحد منه لإلحاق الضرر بأناس عاديين، كأن تخصصها مثلاً لإنشاء معسكرات اعتقال، وإذا بنت الدولة مساكن للمواطنين، فمن واجب المحلل الاقتصادي أن يعرف أن تلك المنازل قد وُزعت بالفعل على نطاق واسع ولم تذهب إلى أيدي حفنة معينة من الأفراد.
إسقاط المركزية الأوروبية… ازدهار الأقاليم غير الأوروبية
ذُهل الكثير من الأوربيين الذين زاروا الصين في القرن الثامن عشر من ثراء مدنها ومهارة حرفييها، لكن ذلك الإعجاب قد تحوّل سريعًا إلى ازدراء للإمبراطورية الصينية مع بداية القرن التاسع عشر، إذ أرادت أوروبا، الفتية في ذلك الوقت إزالة القيود التي كانت تفرضها الصين على التجارة مع الأجانب.
قبل ظهور المنتوجات المصنعة القائمة على الآلة، كانت الصين والهند أهم موردين للمنتجات المصنعة في العالم، وقد بلغ إنتاج الصين ما يقرب من 32.8% من المنتجات المصنعة في العالم، بينما بلغ حجم إنتاج الهند 24.6%. وإذا كانت هذه البيانات تفسر شيئًا من الموضوع الذي يهتم به الكتاب، فهو أن الصين والهند قد وفرت مصدر رزق لعدد أكبر من الناس مما وفرته أوروبا في الفترة نفسها. بل وشهدت الفترة الواقعة بين عامي 1700 و 1850 نموًا ديموغرافيًا مرتفعًا وفقًأ للمعايير السائدة قبل القرن التاسع عشر. إذ أن المعلومات المتوفرة الخاصة بنمو الإنتاج مقارنة بالزيادة السكانية تشير إلى ارتفاع مستوى المعيشة.
كما أن الدراسات الأخيرة الذي اعتمد عليها الكتاب لباحثين أمريكيين ويابانيين وصينيين، وجدت أن الصين، وخاصة في عهد سلالتي مينج وتشينغ الحاكمتين، كانت مجتمعًا مفعمًا بالنشاط يتوسع ويتنوع حتى أربعينيات القرن التاسع عشر في ظل الصعود المتراكم الذي سببه السوق، بل وكان مدفوعًا بطموح صاعد في الحراك الاجتماعي، إلى أن أدت الاضطرابات الداخلية والهجمات الخارجية من أوروبا الرأسمالية إلى اختلال النظام السياسي والاقتصاد منذ العقد الثالث من القرن وصولاً إلى العقد التاسع منه.
وبالإضافة إلى ذلك، كان ظهور الثورة الصناعية حاسمًا في تقدم أوروبا بالنسبة للمنتجات الصناعية، إذ ثمة فارق حاسم بين دولة كالصين في عهد تشينغ كانت تكبح الدافع للتراكم الرأسمالي غير المحدود من جهة وبين نظام اجتماعي وسياسي (كانجلترا الهانوفرية) يشجع من ناحية أخرى على المركزة غير المقيدة للقوة الاقتصادية ويسهل نمو الصناعة القائمة على المصانع.
وعلى الرغم من أن الثورة الصناعية قد أدت إلى تفاوت متزايد بين دخل الفرد في الدول الصناعية ونظيره في المناطق التابعة للقوى الأوروبية، إلى أن ذلك لم يترافق مع تطور عام في الصحة وطول العمر حتى في الدول الصناعية نفسها، بل بدأ ذلك مع الربع الأخير في القرن التاسع عشر، إذ حدثت خلال هذه الفترة ثلاثة تطورات مهمة ساعدت في رفع مستوى معيشة العامل العادي.
كان التطور الأول نشوء النظرية الجرثومية في الأمراض والتدابير الوقائية الناتجة من هذه النظرية، والتطور الثاني كان هجرة جزء كبير من السكان الأوروبيين إلى الأراضي الجديدة كالولايات المتحدة وكندا، مزودين جزئيًا بتدفقات استثمارية من بريطانيا ودول أوروبية أخرى. أما التطور الثالث، فتمثل في قوة نضال العمال والحركات الديمقراطية، خاصة في فترة ازدهار تعاليم ماركس والثورات الاشتراكية في العالم، وتحسنت، تبعًا لذلك قدرة العمال على المساومة، الأمر الذي أجبر الحكومات على اتخاذ خطوات لتحسين الصرف الصحي والرعاية الصحية للعمال.
الرأسمالية وحروبها العالمية
لو أن لكل أمة ذاكرة، تحفر فيها إنجازاتها وخيباتها، فإن ذاكرة اليابان لن تنسى ما علق بها من آثار القنبلة الذرية الأمريكية، وذلك عندما أذن الرئيس الأمريكي هاري ترومان بإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي مئذنًا ببداية نهاية الحرب العالمية الثانية. عندما قُدرت الخسائر في أرواح المدنيين وجدوا أنها بلغت 340 ألف قتيل، وبالإضافة إلى ذلك، عاش الكثيرون حياة محبطة بوصفهم مشلولين، أو يعانون من أمراض ناجمة عن الحرارة والانفجار أو التعرض للإشعاع أو ولادة أطفال مشوهين.
لكن ما بدا أنه إنهاء للحرب العالمية الثانية لم يكن إلا تنفيذ لعملية انتقامية قامت بها الولايات المتحدة في حق اليابان. إذ أدت اليابان دورًا مهمًا في خلخلة الاستعمار على نحو قاتل في كل مكان في آسيا، سواء الاستعمار الفرنسي في الهند الصينية، أو الاستعمار البريطاني في بورما وماليزيا وسنغافورة، أو الاستعمار الهولندي في إندونيسيا، والأهم الاستعمار الأمريكي في الفلبين، وذلك من خلال هزيمة “الأسياد الاستعماريين السابقين بطريقة مباشرة”، أو من خلال إثارة النزعات القومية في البلاد المستعمرة.
بعد أن تخلصت الولايات المتحدة من اليابان، دمرت بيئة فيتنام ولاوس وكمبوديا بشكل ممنهج باستخدام المواد الكيماوية والقنابل والألغام الأرضية، وأصبحت تلك الاستراتيجية التي تتمثل في تدمير الحياة ومرافق بقاء المدنيين هي محور الحروب الأمريكية اللاحقة، وذلك في انتهاك مباشر لقوانين الحرب التي وضعتها الولايات المتحدة ذاتها.
أدت تدفقات الاستثمار الأجنبي والمهاجرين من أوروبا إلى الولايات المتحدة إلى بناء قوة أمريكية جبارة بحلول القرن التاسع عشرن وباستقرار قوتها، أعلنت على الفور طموحاتها الإمبراطورية، وقد وجدت تلك الطموحات تحققها في ضم كل من بورتوريكو والفلبين وهاواي أولاً، واستخدمت الولايات المتحدة استراتيجية أخرى أكثر نعومة، إذ انتشرت شركاتها بمعاملها إلى خارج الولايات المتحدة، وكانت حتى عام 1913 دولة “ليس لها على أحد ديون” لكن بحلول عام 1938 ظهرت بوصفها أكبر دولة دائنة في العالم بعد المملكة المتحدة.
لكن الحرب العالمية الثانية قد انتشلت الولايات المتحدة من كساد اقتصادي امتدة عشرة أعوام، إذ كانت مصدرًا للتدفقات الهائلة لرأس المال لأوروبا التي دمرتها الحرب، وكانت عائدات تلك الدفعات الهائلة من رأس المال تعود إلى الولايات المتحدة مرة أخرى في صورة ربح، وكان مشروع مارشال من العوامل التي ساعدت على تضييق الفجوة التكنولوجية بين الولايات المتحدة وأوروبا.