البداية… “فتاة من فلسطين”
كانت الطفلة المصرية بولا محمد شفيق في الحادية عشر من عمرها، عندما وقعت نكبة 1948، لم تكن تدرك بشكل كامل تفاصيل ما يجري في فلسطين، لكنها كغالبية المصريين سمعت بهزيمة الجيش في المعارك مع العصابات الصهيونية. وكانت تستمع لأغنيات سعاد محمد في فيلمها “فتاة من فلسطين”، والذي جرى إنتاجه أيضًا في 1948. لا أستطيع أن أجزم ما إذا كان الفيلم المصري الذي قامت ببطولته سعاد محمد رفقة محمود ذو الفقار ومن إخراج هذا الأخير أيضًا، قد جرى إنتاجه كرد فعلي فني على نكبة 1948، أم أن العمل عليه بدأ قبل النكبة بشهور، ومع تصاعد الأحداث في فلسطين في تلك السنوات.
استطاعت أغنيات مثل “يا مجاهد في سبيل الله” و “الهلال الأحمر” أن تلفت نظر الصغيرة بولا، وأسرها فيلم “فتاة من فلسطين” الذي يعرض قصة طيار مقاتل مصري تسقط طائرته وينجو بأعجوبة، تستضيفه الفتاة الفلسطينية سلمى (سعاد محمد) في بيتها وتطببه وتداوي جراحه. ولاحقًا يكتشف الطيار المصري أن منزل سلمى هو مركز لتجمع الفدائيين والمقاومة الفلسطينية.
كانت نكبة 1948، ورد الفعل “الفني” عليها، بداية تفتح وعي الطفلة بولا محمد شفيق -والتي ستحظى بعد سنوات قليلة باسمها الفني الشهير (نادية لطفي) ( يناير 1937 – فبراير 2020)- وبداية ارتباطها الأبدي بتلك القضية التي ستعمل على خدمتها فنيًا وميدانيًا وإعلاميًا.
قالت لطفي في أحد حواراتها المصورة، إن زوجها الأول، عادل البشاري، ضابط البحرية المصري، ساهم بشكل كبير في اطلاعها على مسار حرب العدوان الثلاثي 1956، إسرائيل مرة أخرى، لكنها تعتدي هذه المرة على مصر، أدركت بولا أن العدو واحد، كانت في التاسعة عشر، ولم تكن قد بدأت مسيرتها الفنية الحافلة بعد، عقب هذا التاريخ بعام واحد ستلتقي صدفة بالمخرج رمسيس نجيب في مناسبة عائلية بمنزل بعض الأصدقاء، وكانت رفقة صديقتها الروائية الراحلة عنايات الزيات، ويبدو أن جمالها الأوروبي لفت نظره فعرض عليها أن تخوض تجربة التمثيل، ويبدو أن بولا أو نادية كانت مستعدة وممتلئة بنفسها، لأنها أجابت بهدوء “مفيش مانع”، وهكذا بدأت مسيرتها كبطلة، عندما وقفت في فيلم “سلطان” أمام وحش الشاشة فريد شوقي، وعرض الفيلم في 1959
المقاومة بـ “الصورة” في بيروت
تمتلك نادية لطفي في مكتبتها، كنزًا وثائقيًا عظيمًا، استحقت بسببه نيل أرفع الأوسمة من الرئيس محمود عباس أبو مازن، واستحقت من قبل ذلك أن يهديها الرئيس الراحل ياسر عرفات، شاله الفلسطيني، تثمينًا لدورها في مساندة القضية.
25 شريط فيديو من بيروت 1982، المحاصرة، سجلتهم نادية لطفي بنفسها بالكاميرا الخاصة بها، بعد أن انتقلت من القاهرة إلى بيروت، ضمن وفد صغير يضم 4 مثقفين مصريين هم محمود الخولي وليلى الشربيني وطلعت غنيم، وبالطبع نادية لطفي، فلسطينية الهوى، التي آمنت بالحق الفلسطيني منذ صباها، منذ شاهدت فيلم “فتاة من فلسطين” وسمعت أغنية “يا مجاهد في سبيل الله”.
في بيروت باشرت نادية لطفي دورها الميداني وهي في الخامسة والأربعين من عمرها، لتسجل عن كثب الفظائع الإسرائيلية، بحق المخيمات الفلسطينية، ومن ضمنها مجزرة صبرا وشاتيلا في 16 إلى 18 سبتمبر من العام 1982، ومن ثم، تنتقل بكنزها الوثائقي إلى القاهرة، لتبدأ من بعدها جولة تجوب فيها العديد من العواصم العالمية الوازنة، لتعرض القضية موثقة بالصورة.
كانت نادية لطفي تؤمن بقوة الصورة، فالصورة أبلغ من الكلمة، الصورة تخاطب الحواس وتقتحمها، وقد يستغرب البعض من أن نادية نفسها، قامت بالتصوير، نقلًا عن الفضائيات، جميع المشاهد الميدانية من غزو العراق للكويت في 1990، إذ دفعها حسها الإنساني، وإيمانها بالحق الفلسطيني المغتصب، للانحياز إلى الكويت أثناء الغزو ومحاولة صدام إيهام الرأي العام العربي بأن الكويت هي محافظة عراقية جديدة.
تنبهت بعض المحافل الفنية للارتباط الوثيق بين نادية لطفي ومجهوداتها لمناصرة للقضية، ولذلك أطلقت إدارة مهرجان الإسكندرية على دورته رقم 34 دورة “القدس عربية” و دورة “نادية لطفي” لربط الفن والثقافة بدورهما الوطني، وفي تلك الدورة في 2018 جرى تكريم الفنان السوري عباس النوري الذي قال في كلمته أثناء التكريم إن: “نادية لطفي هي الفنانة العربية الوحيدة التي كانت على الجبهة أثناء العدوان”. وعن ذلك يقول الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة: “كانت نادية لطفي امرأة شجاعة عندما زارتنا خلال حصار بيروت عام 1982، وبقيت طيلة الحصار حتى خرجت معنا في سفينة (شمس المتوسط) اليونانية إلى ميناء طرطوس السوري، هي المواقف التي منحتها المزيد من القوة والقدرة على المقاومة والنظر إلى الفن، على أنه نوع من الجهاد والكفاح في مواجهة التردي والقبح”.
“حقي وهاخده ولو في القبر”
في العام 1993 كان الظهور الفني الأخير لنادية لطفي على الشاشة من خلال مسلسل “ناس ولاد ناس”، وقبله بخمس سنوات، كان ظهورها السينمائي الأخير من خلال فيلم “الأب الشرعي” في 1988، واختارت بعدها نادية لطفي أن تتوارى عن الأنظار وتقضي أوقات هادئة بعيدًا عن وسائل الإعلام ومواقع التصوير. لم يثنها عن قرار التواري إلا فلسطين مرة أخرى، وبالتحديد واقعة استشهاد الطفل محمد الدرة في 30 سبتمبر من العام 2000، بعد تلك الواقعة بساعات قررت مجموعة مكونة من 35 فنانًا مصريًا أن يقوموا بتقديم أوبريت “القدس هترجع لنا”، من ألحان رياض الهمشري وتوزيع حميد الشاعري، ولم يكن من المنطقي أن تغيب نادية لطفي عن هذه المناسبة، فقررت أن تكسر عزلتها وأن تعود للمشهد مرة أخرى بعد غياب استمر سبع سنوات، فقط لخاطر فلسطين.
لقد أخلصت نادية لطفي للقضية بشكل كامل، وسخرت كل ما لديها لصالح نصرة فلسطين وشعبها والحق التاريخي وفضح الاحتلال وجرائمه. ولذلك، تثمينًا لدورها، زارها الرئيس ياسر عرفات أبو عمار في منزلها في شارع النباتات، بحي جاردن سيتي بوسط القاهرة، وأهداها كوفيته الفلسطينية، وبعد ذلك بسنوات، في يناير 2019، أعاد الرئيس محمود عباس أبو مازن الكرّة، وزارها في مستشفى القوات المسلحة على كورنيش المعادي، وقلّدها النجمة الكبرى، ووسام القدس.
قبل موتها بشهور قليلة، ظهرت نادية لطفي في لقاء متلفز، تطرق الحديث فيه إلى مجهودها في مناصرة المقاومة الفلسطينية في 1982 ومن ثم مسألة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في 2018، ليأتي رد نادية لطفي مختصرًا وحاسمًا: “حقي وهاخده ولو في القبر”.