احتلّت عبارةُ “تجرّأنا على الحُلُم، ولن نندمَ على الكرامة” صفحات مواقع التواصل الاجتماعي السورية، بعد أن انتشرت صورة للمخرجة السورية وعد الخطيب، صحبةَ زوجِها الدكتور حمزة الخطيب، وابنتِها: سما. ترتدي فستانًا زهريًا طويلًا، كُتبَت عليهِ العبارة السابقة باللونِ الورديّ الداكن الـ Fuchsia.
والحقيقة أنّ تواجد السوريين للعام الثاني على التوالي على خشبة مسرح دولبي في هوليوود بولاية لوس أنجلس الأمريكية، ليسَ وحدهُ، على أهميّتهِ، ما جعلَ الاحتفاء يحتلّ هذه المساحة الواسعة من الفضاء الافتراضيّ المهتمّ بالسينما العربية. إذ يُمكنُ ببساطةٍ التنبّؤ بشكلِ هذا الاحتفاء لو أنّ المشاركةَ جاءت بمُنتجٍ إبداعيّ يُروّجُ لسرديّةِ النظام.
ومن غير الجديد القول إنّ الوصول السّوريّ، وإن جاءَ تعبيرًا عن المظلومين، إلّا أنّهُ لقيَ، هو الآخر، هجومًا شرسًا من قبلِ بعضِ النقّاد والكتّاب، السّوريين والعرب، وإن اختلفت أسباب مناهضة تلك الأصوات لوصول أفلام سوريّة تُمثّل الثورة إلى أرفعِ مستويات الاعتراف. فمنهم من اعتبرَ المؤسسات الدّولية، شأنها شأن النظام العالمي، تخوضُ حربًا على صمود بلادنا الأسطوريّ في وجه المؤامرات. ومنهم من أرادَ، خجَلًا ربّما، التورية، والذهاب إلى أنّ هذه الأفلام لم تستحقّ هذا الشرف، فنّيًا.
لكنّ تواجدَ فيلمَيْ “من أجل سما” و”الكهف” أخذَ حصّةً وافرةً من الكلام ليلةَ توزيع جوائز الأوسكار هذا العام، لاعتباراتٍ قد تفوقُ مثيلتَها في السنة السابقة، حيثُ تواجدَ فيلمان سوريان أيضًا في ذاتِ المسابقة.
الجديدُ في وصول السوريين هذا العام هنّ النساء، وفستان وعد الخطيب الأخّاذ. فقد أخذتِ النساء الدّورَ في نقل ما جرى في بلدهنّ الأم إلى العالم.
أربعُ سوريّاتٍ حملنَ هذه المرة عبء الوقوف أمام حشدٍ غفيرٍ من أهمّ صنّاعِ الفنّ السينمائي في العالم، ليشرحنَ ويروينَ بعضَ ما جرى ويجري في سوريا. وأيّ عبءٍ أن يُحكى كلّ ذلكَ الألم، أمامَ شخصيّاتٍ مؤثّرةٍ في العالم، لم تستطع، أو لم تُرِد ربّما، أن تلعبَ دورها في تسليطِ الضوء على المجزرة!
سما الخطيب، الطفلة التي وُلدت تحت القصف في حلب، بينما كان والدُها الطبيب حمزة الخطيب (يا للرنّةِ التي يبعثُها اسمُهُ!) يحاولُ إنقاذَ المُصابين جرّاء قصفِ النظامين الرّوسي والسوري لمناطق وأحياء حلب، عبر تواجدهِ في آخر مشفى ميدانيّ ظلّ يعملُ في المدينة، حيثُ صُوّرَ الفيلم. أرادت المخرجة وعد الخطيب من خلال فيلمها، أن تُقدّمَ إجابةً لابنتِها التي وُلدت في ظرفٍ كهذا، فيما لو سألتها حين تكبرُ عمّ جرى في بلدِها، وعن سبب تواجدِها في أوروبا؟!
حضورُ سما في هوليود لم يكُن منسّقًا إذًا! فالأرجح أنّ أحداً لا يُقرّرُ الإنجابَ تحت القصف أملًا في أن يصل مع وليدهِ إلى الأوسكار يومًا ما. تلكَ بديهيات لا يُريدُ كثيرون التفكيرَ فيها.
وبما أننا بدأنا من سما، لاعتباراتٍ تتعلّقُ بالطفولة، فالسوريّةُ الثانية كانت المخرجة وعد الخطيب، والدتها. وهي فتاة في أواخر العشرينات، تزوّجت الطبيب حمزة الخطيب بينما كانت المدينة تتعرّضُ لقصفٍ وحشيّ جعلَ إحدى أهمّ حواضر المشرق: المدينةَ الأكثر دمارًا في القرن العشرين بعد هيروشيما وناغازاكي. وهناك قرّرت وعد تصوير المجريات اليومية في حياتها وحياة أسرتِها الصغيرة فبدأت العمل، وظلّت على هذا الحال إلى أن أخذتْ القرارَ في أن تحملَ ابنتَها وتغادر البلد في مشهدٍ يصلحُ ختامًا للفيلم.
أمّا السوريّة الثالثة التي كانت موجودةً في هوليوود، فقد كانت الطبيبة أماني بلّور، بطلة فيلم الكهف، للمخرج فراس فيّاض. الفيلم الذي تدورُ أحداثُهُ في مشفى “الكهف” الميدانيّ في الغوطة الشرقية، والذي تولّت الدكتورة أماني بلّور، طبيبة الأطفال، إدارته خلال تواجدِها هناك، قبل أن تخرجَ هي الأخرى من بلادِها ومرابعِ صباها الذي لم تعِشْ، بباصات النقل الخضراء، التي استخدمها النظام في تهجير السكّان المحلّيين من مناطقهم في كلّ سوريا، بينما استخدمها مناصروه للتهديد والتشفّي.
في مقابلةٍ تلفزيونية سابقة، ولدى سؤالها عن الظروف الجحيميّة التي عاشتها في الغوطة الشرقية، والأحداث التي تظلّ عالقةً في ذاكرتها من هناك، استفاضتْ أماني بلّور بالحديث، لكنّها توقّفتْ عند مشهدٍ لطفلٍ لم يتجاوز الخمس سنوات، بُترت واحدة من يديه، ولمّا استفاقَ من غيبوبتهِ، وتفقّدَ جسدهُ كأيّ طفلٍ يحاولُ، مرةً أخرى، استكشافَ حدود جسدِهِ وحدود العالم، سألَ ببساطةِ الأطفال: أينَ يدي؟!
سؤالٌ بسيطٌ قد تعجزُ عن الإجابةِ عليهِ كلّ تلكَ الحكايات التي يرويها الكبارُ لطفلٍ حينَ يُحرِجُهم بسؤال. لم تُخبِرْنا الطبيبةُ عن إجابتِها للطفل. اكتفت بدموعٍ تحاولُ حبسَها في عينيها بحرج. إذ ما الذي يُمكنُ أن تقوله؟ أين يد الطفل فعلًا؟!
السوريّةُ الرّابعة التي كانت موجودةً أيضًا، هي مصممة الأزياء ريم مصري. وهي التي صمّمتْ الفستانَ الذي تزيّنتْ بهِ المخرجة وعد الخطيب في هوليوود. وريم، مصممة أزياء سوريّة من حلب، تعيشُ في مدينة غازي عنتاب التركية وتعملُ هناك في عدّة مشاريع تنموية. وقد تعرّفت إلى الدكتور حمزة الخطيب في العام ٢٠١٣، حسبَ مقابلةٍ صحفيةٍ معها، قبلَ أن تتعرّفَ إلى المخرجة لاحقًا. تواجدُ ريم مصري في الحفل، بالطريقةِ التي تواجدت من خلالها لهُ هو الآخر رمزيّة شخصيّة بالنسبةِ لها، فهي ابنةُ شهيدة! استُشهدتْ والدتُها في مجزرة جامعة حلب يوم ١٥/١/٢٠١٣.
السورياتُ إذن، هنّ اللواتي مثلنَ السوريين في حفلِ توزيعِ جوائز الأوسكار هذا العام، لكلّ واحدةٍ منهنّ قصّة شخصيّة، مثلتْ جزءًا من المرويّةِ السورية العامّة خلال السنواتِ التسع الأخيرة. ولئنْ احتجّ البعضُ على سويّةِ الأفلام، واعتبرَ وصولها محاباةً للضحايا، فهذا بدايةً يدلّ على وحشيّة الاحتجاجِ نفسهِ، الذي يريد للضحايا أن يكونوا ضحايا فحسب. أن يموتوا فقط ودائمًا، ولا حاجةَ لمحاباتهم. وهو أيضًا، يُفلحُ في انتزاعِ بعضِ الفرح في نفوسِ الضحايا، إذ أنّ العالمَ إذن، يشعرُ بحجمِ الكارثة التي كان لهُ يدٌ مساهمة بها في سوريا. ويشعرُ، ربّما، بالتقصير الدوليّ في إنقاذ الضحايا من مصائرهم. بل ويريدُ التعويض!