في لحظة مغادرة المعرض، تدرك أنّ ترتيب المكان يجعل من هذين العملين مبتدأه وخبره، وكأنّ التوطئة المطلوبة لمعرض “اقتراب الآفاق: التحولات الفنية للمشهد الطبيعي”، والذي يقيمه المتحف الفلسطيني في بيرزيت، تتمثل بما يحمله فيديو “مبنى الأمة” للفنانة لاريسا صنصور، فيما تأتي نهايته مع كلمات الأديب الراحل حسين البرغوثي.
في الطريق إلى المعرض، مرّ السؤال في ذهني مرارًا: اقتراب الآفاق ممّ؟ من الذي يحمل الأسئلة التي تُساق إليها الأعمال الفنية؟ قد تكون الإجابة بالداخل. وفيما أوقفت السيارة أمام مبنى المتحف، لفتني احتضان الطبيعة لهذا المبنى، وتدرّج بنائه الإسمنتي أمام طبقات الأرض المحيطة به، وتواضع حجمه، بالأخص طوليًا، ليترك للحديقة المحيطة به إمكانية الظهور والإحاطة به.
أخبرني فيديو “مبنى الأمّة”، المعروض على مدخل المعرض، على الحائط الأيمن بالتحديد، أنّه من الممكن تجميع القطع المبعثرة من مقترحات الساسة ووضعها في عالم مستقبلي متخيّل، وأنّه من الممكن أن نلعب هذه اللعبة لنفهم ما قد يحدث معنا، نحن المقيمين اليوم في “الأراضي الفلسطينية المحتلة”. قد نسخر من هذا المستقبل ونحن ننظر إليه اليوم، ومن هذه التسمية حين نكررها على أنفسنا. إذًا، هنالك إمكانية ممتازة للاندهاش من الواقع المتوقع، لا تتأتى إلا إن جاءت قبل تحصّله.
ما الذي يفعله فيديو يتحدث عن مبنى في معرض عن المشهد الطبيعي الفلسطيني؟ يُدرج كتالوغ المعرض هذا الفيلم مع الأعمال الفنية الواقعة ضمن فئة “المسافات وكل ما تبقى”، ويلخّصه بالنص التالي:
“أصبحت فلسطين برجًا شاهقًا، كل طابق فيه مدينة، والسفر فيه يكون عبر مصعد أو مترو، حيث لا يستطيع أحد النزول إلى الأرض، ولا اختبارها حسيًا بعبقها وروائحها وأنسامها. إننا محصورون في كبسولة اصطناعية، أصبحت فيها القدس تصويرًا للأفق ومنتزهًا يحاول محاكاتها. يمكن فهم عمل صنصور في سياق المصادرة المستمرة للأرض وتدميرها، وهدم البيوت”.
الفيديو الذي أنتجته صنصور في العام 2012 يبدأ بمشهد مستقبلي، تجلس فيه فتاة في المترو، بانتظار الوصول إلى وجهتها. يتداخل صوت العود مع صوت موسيقى المصاعد الحديثة، ثم يختفي صوت العود تدريجيًا حتى نهاية الفيلم. تخرج الفتاة من المصعد إلى ما يبدو أنه الصيغة المُتخيلة لجسر الأردن أو الحدود مع الأردن؛ الجسر الذي يعرفه كل الفلسطينيين يتحول فجأة إلى مصعد كهربائي طويل على جانبيه عبارة Amman Express. لا يخلو الأمر من التفتيش، ولكن هذه المرة تفحص الآلة بصمة العين والإصبع.
في الرواق الأبيض الواسع، يمشي الجميع بملابس سوداء متشابهة، وبهدوء وبطء يتنافى مع توجسنا الدائم من الحدود. تقف الفتاة أمام المصعد لتظهر بجانبها قائمة الوجهات/الطوابق الـ 44، الممكن الوصول إليها عبره، وهي تشمل: المستشفيات، والمؤسسات غير الحكومية، والبعثات الدبلوماسية، وبعض المدن، مثل أريحا والقدس وقلقيلية، وغيرها. وفيما هي تنتظر وصول المصعد الضخم، يظهر إلى يسارها ملصق “زوروا فلسطين” مع عبارة “مبنى الأمة… نحن نعيش الحياة السامية/Nation Estate… Living the high life “، ولا نرى من المشهد الممتد خلف الشجرة في الملصق سوى مبنى ضخم شديد الارتفاع، مسوّر ومفصول عن المدينة الواقعة حوله.
في المصعد نرى إعلانًا لجهة نرويجية تقدم دعمًا لمشاريع تحت عنوان “أنابيب مياه من أجل السلام”. يعود هنا العالم الأوّل لدوره التطبيبي، حيث تُحل قضية المياه، والتي يتسبب فيها الاحتلال بطبيعة الحال، عبر مشروع تنموي تحت مسمى “السلام”.
يختار ركاب المصعد الذين يرتدون حقائب “مبنى الأمة” وجهتهم بحسب ما يتم الإعلان عنه على شاشة المصعد، ينزل اثنان منهم في القدس، ثم، حين تُفتح الأبواب إليها، نرى تمثيلًا بصريًا لقبة الصخرة أمامهما.
تتخذ هنا رمزية المكان معنى ملموسًا، إذ يتحول من مكان مُتفق مجتمعيًا على اعتباره رمزًا وطنيًا أو دينيًا، إلى صورة لا يمكن القبض عليها باليد، ومن هنا يتحوّل إلى رمز بالمعنى المعنوي، بحيث تصبح استحالته قادمة من فقدانه، لا من قداسته فحسب، فنراه ببساطة صورة رقمية ليس أكثر.
يُكمل المصعد ارتفاعه، فتختار الفتاة، فاقدة الانفعالات، النزول في بيت لحم. تسير على أرضٍ حقيقية، فيما تحيط بها المدينة القديمة الافتراضية كما توحي الجدران، ويوصلها الرواق إلى مدخل بيتها الذي تفتحه باستخدام بطاقة على شكل علم فلسطين. عند هذه اللحظات، يبدأ هذا العالم الأبيض المتخيل بامتلاكك، هنا تصبح الشخصية على أعتاب بيتها الذي يذكرك ببيتك، نحن نخرج من بيوتنا لنعود إليها، إن كانت في المدينة أو في المخيم، اليوم أبو بعد قرون.
“البيت قتيلًا هو بَتْرُ الأشياء عن علاقاتها وعن أسماء المشاعر”، يقول محمود درويش. وهذا البيت يبدو كثلاجة شديدة البرودة تحيط بجثة صاحبته.
حتى هذه اللحظة لا نرى ترابًا أو أيّة عوالم طبيعية. تظهر شجرة الزيتون الوحيدة في منتصف غرفة الجلوس، حيث تصعد الطبيعة مع السكان إلى مدنهم المحصورة داخل هذا المبنى.
يلملم الفيلم قصة الفلسطيني القادم من المستقبل ويلخصها بقضية السكن، إذ يجعل من هذا المبنى الممتد طوليًا بشكل ضخم، والمطعّم بمختلف أنواع الرموز الوطنية، وطنه المتاح، والذي لا يشكل فيه عبئًا على دولة الاحتلال، التي لا نرى لها تمثيلًا في الفيلم، لا سيما مع انتفاء الحاجة إلى التواجد الفعلي للعسكري، مع انحسار المحتلين في بقعة إسمنتية لا يمكنهم الخروج منها.
بالمقابل يغيب المشهد الطبيعي الفلسطيني خلف الجدران، وتستحيل إمكانات التفاعل معه والوصول إليه. تريدنا هذه الرواية المستقبلية أنّ نصدق أنّنا سنشرب يومًا ما، ورغمًا عنا، هذا الكم المخيف من الرموز التي سيتم حشوها في نطاق بصرنا تعويضًا عن الأرض التي ستغيب بالكامل.
تحيلنا هذه المشاهد إلى صورة المدينة الحديثة في فلسطين اليوم، تلك التي تنأى بنفسها عن السياق المُجتزأ بأن تخلق اكتفاءاتها الوهمية على مستوى الخدمات وخطاب التنمية الاقتصادية. فمثلًا، تدخل مدينة مثل مدينة روابي عبر بوابتها الوحيدة التي تستقبلك وأنت تنظر إلى ناصية العلم الفلسطيني الضخم القابع في أعلى المدينة، ويتم تسويقها كمدينة توفر لك كل ما تريده في مكان واحد دون الحاجة للخروج منها، فهي تمتلك، هي والضواحي السكنية الحديثة حول مدينة رام الله، عناصر الاستهلاك الأساسية من مجمعات تجارية كبيرة، وتوفر مراكز تعليمية وصحية، تقدم جميعها انطلاقًا من تاريخ نظيف جديد لا علاقة له بأي اشتباك فعلي مع الاحتلال لأيّ سبب كان.
“كل هذه الأشياء، ذاكرةُ الناس التي أُفْرِغَتْ من الأشياء، وذاكرة الأشياء التي أُفْرِغَتْ من الناس. تنتهي بدقيقة واحدة”، يذكرنا درويش.
يتحرك الفلسطيني المستقبلي في الفيلم دون الحاجة إلى من يوجهه، فنحن لا نرى في الفيلم السلطة بمعناها الحالي، إذ نتحول جميعًا إلى روبوتات صامتة تعتاد تكرار مساراتها في المشي والفعل اليومي، ولا تحتاج إلى إرشادات بشرية، فيما تقوم الآلة غير المرئية بدور النقل والتفتيش والتوجيه.
المثير للاهتمام هو التقاء هاتين الفكرتين؛ قدرة الإنسان العالية على التطوّر، وقدرته على خلق الأوهام والتلاعب والاستعمار، نحن نعيش هذا اليوم، في الوقت الذي تتحكم فيه دولة استعمارية بمقدّراتنا وحياتنا، وتتمتع بكونها من أكثر الدول تقدمًا في مجال تكنولوجيا المعلومات. لكن الفيديو يأخذ هذه الفكرة إلى مداها الأبعد، ويرينا، بأدق التفاصيل، مستقبل هذا اللقاء.
تأخذنا هذه الفكرة الاستشرافية أيضًا إلى ضيق الآفاق الممكنة أمام الإنسان عمومًا، أينما كان في ظل العمران الإنساني الذي بات يأكل أكتاف الطبيعة. هل فعليًا سيكون هذا البناء الإسمنتي الشاهق حلًا لهذه الأزمة؟
مع انتهاء هذه التوطئة، يتنقل زائر المعرض بين بقية الأعمال؛ إلى اللوحات والأعمال التركيبية والفيديوهات والبوسترات، حتى النصوص المعروضة في الرواق الزجاجي في نهاية المعرض، وتتوزع ضمن فئات تم تصنيفها كالآتي: أراضي الأحلام والبلاد الأم، والحنين/الانتماء، والتفتيت، ووجهات نظر مراوغة، وآثار الذاكرة، وأركيولوجيا المكان، والمسافات وكل ما تبقى، والمشهد الطبيعي الذي لم يعد يشبه نفسه. وضمن هذه الفئة الأخيرة يندرج فيديو صنصور الثاني “في المستقبل أكلوا من أجود أنواع الخزف”، 28 دقيقة، 2015، الذي أنتجته بالشراكة مع سورين ليند.
تُكمل صنصور عبر هذا الفيديو مشروعها التنبؤي، حيث نجد الشخصية الأساسية، الفتاة، وهي في دأب مستمر لإسقاط قطع الخزف من الفضاء حتى تستوطن بقعًا متنوعة من الأرض، وتقدّم إثباتًا مستقبليًا بأحقية السكان الأصليين فيها.
في لعبتها مع الزمن، تتوغل صنصور في هذا العمل، في علاقة الإنسان مع ذكرياته الحميمة؛ مشاهد الطفولة والموت والفقد، والوجوه الحادّة التي تظهر على الشاشة في حالة جمود. يُلامس الحوار في الفيلم الأسئلة الأكثر حضورًا في ذهن المشاهد، ويعالج غرائبية طرح موضوع استعادة الأرض والحق التاريخي، في عمل “فضائي” ينجو من رتابة الحاضر عبر سيناريوهات الخيال العلمي.
تودّ إعادة مشاهدة هذا الفيديو، وتتولد لديك هذه الرغبة لمتابعة الحوار المثير للاهتمام بين الفتاة ومعالجتها، وأيضًا لمحاولة فتح الرموز والمشاهد المركّبة وربطها بفكرة الفلم. قد تشعر لوهلة أنّ أفلام الخيال العلمي التجارية حول الفضاء تشكّل لديك إطارًا مرجعيًا يخفف من غرابة الفيلم، وتقرّبه بصريًا من ذكرياتك، حيث صور الطفولة واللعب في المساحات المفتوحة من الأرض قد تقفز أيضًا في مخيلتك في الوقت ذاته، لتجعل أرجوحة الماضي/الحاضر/المستقبل تتحكم بطريقة استقبالك للمشاهد.
ويميل هذا الفيديو إلى أن يجعل المشاهد يصدّق أنّه في رحلة حقيقية، عاطفية وذهنية، خارج المكان والزمان، بحيث تأتي الغرابة بعد انتهائه من العودة إلى المحيط، وليس العكس.
أخيرًا، ينتهي المعرض بالفضاء الزجاجي الذي يقدّم نصوصًا متنوعة تحت موضوعات الفقدان، والتفتيت، والمحو، والمقاومة. يتعرف المشاهد على هذا الترتيب عند قراءة كتالوغ المعرض فقط، حيث لا تحمل الأعمال المعروضة شروحات لها. يبدو المكان كصالة تجتمع فيها أشباح الفقدان بشكل مكثّف، وتختزل الخسارة بشكل فني، فيما تقدّم الصيرورة التاريخية والمُعاشة لسرقة المشهد الطبيعي تدريجيًا.
“شيء في الجبل كان يقول لي كلّما حدقتُ في الزيتون والأودية المقمرة، حتى ولو بقيت لك سنتان للعيش، فإنّ سنتين هنا أعمق من قرنين “هناك”، قاوم! هذه الأرض لك، قاوم!”. بهذه المساحة الصغيرة تحت موضوع المقاومة، والتي يشي موقعها وحجمها ببؤس الممكنات، نسمع حسين البرغوثي يتحدث إلينا عبر نصّه المكتوب على حائط الرواق الزجاجي في وداعٍ متواضع، فيه دعوة إلى الفعل.
كُتب هذا النص في إطار ورشة كتابة بعنوان “نقد الفنون البصرية: معرض اقتراب الآفاق نموذجًا”، من تنظيم المتحف الفلسطيني وبإشراف الكاتبة عدنية شبلي.