في اللغة، يعرّف الموت على أنه: “زوال الحياة عن كلّ كائن حيّ”. لكن ماذا عن الموت قبل الزّوال؟ وماذا عن موت غير الأحياء؟ يقول الصّدأ مستذكرًا: “عشتُ شقاءً وأنتجتُ. لمستني الأنامل وغرّقتني الزيوت. حياة طويلة قبل شيبٍ بنّيّ”. يردّ عليه زيتٌ محروق: “في كلّ مرّة تدفقتُ فيها، بعد لمعاني، كنت أقترب إلى الاسوداد، وفي كل اقتراب موت”. عند الأحياء الموتُ الأسودُ هو “زوال الحياة اختناقًا”.
تتأرجح جثّة أسفل حبل. الحبل ملتفّ حول عنق. الأعناق قواعد مراكز الإدراك. الجثّة لفتاة قبيحة، كانت تبتسم قبل فروع هامتها. وبعد الاختلاط ذبلت الابتسامة. مِيْتات على الطريق. “أنت قبيحة”، “ابتعدوا عنها”. نفور وقرف، اختباء وشرود، ثمّ موتٌ أخير، يُنهي كلّ الذي قبله. حياة زجاجة مشروب كحولي تكون مُثلى، وأطول، تقضيها بين أروقة جدران التخمير، ثمّ بين أحضان الشفاه، في القبل. في كلّ رشفة اقتراب نحو النهاية، قبل الفروغ التام. تنكسر الزجاجة على رصيف في ميناء، أو في زقاق، أو على صخرة، أو على رأس حيوان بشري، أو لا تنكسر. تلك نهاية أخيرة لزجاجة، بعد نهايتها.
يخرج الطفل من بطن أمّه لحياة جديدة، فتموتُ لحظات هدوئه في بحر السّواد. يسمع أوّل الكلمات، بعدها بفترة سيرى، وسيتنفّس. هكذا تراوح القطع المصنّعة حياتها، فكلّما استُعملت، كلّما كانت في طريقها للنّفاد، ولو لم تُكتب على أغلفتها تواريخ الانتهاء، أو يُشار، كما هو الحال أحيانًا، إلى عدد مرّات الاستعمال. وقبالة الجسم الجماد، جسم حيّ فيه قلب صغير سريع النبض، في طريقه للتعلّق ثم الفراق. في طريقه للحبّ، والفقدان. في طريقه للانكسار. في كلّ نكسة موت، وفي كلّ ألم موت. وفي كلّ عيد ميلاد سنة تموت سنة أخرى. موت آنيّ قبل الوصول إلى الموت التالي. موتٌ على موت.
الحياة نقاط موت كثيرة، متشعّبة، يتّصل فيها الحيّ بالميت، يتّصل فيها المتحرّك بالجماد. لا قانون يحكم الموت، ولا زمان، ولا مكان. تلدغ الحشرة لتحيا في خضم عملية دفاع، وقد يموتُ الملدوغ الحي، وتواصل طريقها في الحياة بعد أن مات شيء في طريقها وفقدت شيئًا من ذاتها. تتحطّم سيّارة إثر اصطدام، ينجو السّائق الذي لم يبلغ لحظة الوصول الأخير، بينما يذهب كوم الحديد إلى مزابل الآلات. في حرب تقصف طائرة بيوت أناسٍ عزّل. يموت كثيرون، أو لا تنفجر القذيفة. تستقرّ في حفرة، لا تعلم إن حانت لحظة نهايتها، أم أنّها ستنفجر بعد قرون. يقول الصّدأ المعتلي القذيفة بعد قرون: “حظّ رائع أن أكسوها مجتمعًا، لا متفرقًا في الأنحاء والميادين”. يجيب قناع منزوع لأنبوبة تنفس: “حظّ سيئ أنّ غيرك انفجر. استعملوني مرارًا بعد موتي الأخير، لكي ينجوا بأنفسهم من موتهم، لكنّي عجزت. نزعوني عن وجه ميت، وألقوني في الضّياع، ذاقوا الموت الزّؤام”. وفي اللغة، تعريف الموت الزؤام هو زوال الحياة فجأة؛ سريعًا.
الميت لا يراوحُ حيّزه. لكنّه سينتقل، ويتحرّك، لأمكنة أخرى، تختلف في كينونتها. الميتُ الحيّ سيذوبُ ويتلاشى إن تُرك. صدّ الفراعنة ذلك التلاشي يومًا بالتحنيط، وحاول غيرهم. تقول عَظْمة وجنيّة في هيكل عظميّ: “ما أجمل السّكون تحت التراب. لا حزن ولا فرح، لا ابتسام ولا عبوس. راحة على طريق التحوّل”. تجيب عظمة أخرى: “أعلمُ أنّ في مقبرة الحواس روعة تفوق ما تحويه مقبرة التراب”. تتكدّس المقابر على حسب الفئات، والفئات تتفرّع لفئات. هنالك مقابر بشرية، والبشر أجناس، ولغات. وهنالك مقابر على شكل متاحف، يجتمع فيها الموروث، يجتمع فيها المُنجز المتروك على مرّ عصور، مات وشبع موتًا، غير أنّه يواصل الحياة، بسبب الأحياء، لأجل الأحياء. وهنالك مدافن العراء، ملجأ من لا مقبرة له، وملاذ من لا قوّة له تحميه، قوّة كامنة مختفية. الذّاكرة لا تموت، والحياة تكمن في مقابر الذّكريات. لا يموتُ مذكور، ولا يتوقّف امتداد الأصول. إنّ الذي يحصل حين الموت أنّ الأشياء تغادر مقبرة ذاكرتها، لتدفن في ذاكرة العارفين من الأحياء بعدها.
تنفرش الحجارة -مكوّرة الأطراف- مستوية على المساحات الواسعة المحددة، كما تصطفّ حجارة صخريّة قديمة فوق بعضها. تتآكل ألوانها المطلية الباردة إثر موت السنين، يختفي شيء من تفاصيل الحروف المنقوشة عليها، ولا تختفي معاني جُملها الرّاسخة، تُعارك الاستعمارات في سبيل الحياة. حياتها المتوارثة في ذاكرة العارفين، والمتناقلة جيلًا عن جيل.
ثمّ في شكل مسجد له قبة، والذي يظلّ فكرة حيّة. المثمّن ذو القبّة الصفراء يختفي خلف جبل، قبل أن يضيع في خريطة المدينة الكبرى. هكذا يظهران، الموت والحياة، في عمل بنجي بويدجيان، “حجرة العجائب”.
بنجي بويدجيان مقدسي الهوية، الذي يقطن أطراف محافظة بيت لحم، كان طفلًا يجري في الأزقّة الميتة لتنبض بالحياة فجأة. غاب عنها مدّة قبل أن يعود من جديد، فتمتلي عينه بكل ما يكدّرها. يتعكّر الأفق، وتهتزّ خيالات المدينة المقدسة، على جبل أبو غنيم تحديدًا، بعد وادي الشامي الفارغ، حيث بناء شاذ. والشاذّ هو ما خالف القاعدة والقياس، وشُذّاذ الآفاق هم الغرباء. مستوطنة إسرائيليّة تدعى: “هار حوما”، استولت على الأرض التي بنيت فوقها، وعلى الأماكن المحيطة، حتّى أنّ الوادي، وتحت ذريعة المحميّة الطبيعية، مُنع الوصول إليه أو التصرّف فيه. الأفق كلّه كئيب، فراغه وبناؤه مريب. استشعر بنجي بفطرته المعماريّة، أنّ الوادي الذي لطالما نزله صغيرًا، وبحث فيه، سيُستولى عليه. تُفرش الذّرائع، لتتحوّل المحميّة الطبيعية أرضًا إسرائيلية فيما بعد. الوادي الحيّ بالذكريات، سيُسرقْ.
لا بدّ من فعل شيء على سبيل الاستشراف. أرض مهملة، لا تُرى، ولا يُسمع عنها، تتوسط الخط الأخضر وجدار الفصل العنصري وحدود المدينة المقدّسة. وادٍ سيدفن حيّا، سيوأد. وما الحياة في المعدوم والمُهمل؟ ما الحياة في المَكبّ؟ وجد بنجي نفسه مضطرًا لأن يقف حائلًا بين الاستلاب، استلاب الأرض الأفق، والأرض رفيقة الصّبا. عليه أن يبحث عن أنفاس تراوح تلك الأرض، عليه أن يبحث فيها عن كل ما هو حيّ، ولا تكون حياة إلّا من براثن الموت. سيشرع الآن في العمل، أرشفة منطقة وادي القمامة (كما يسمّيها المقدسيون)، حاوية فضلات البشر الأحياء، على مرّ سنين، علّ قوّة خفيّة يُقدّمها له العراء على طبق.
تتقدّم خطواته نزولًا. تدوس خفافه الكبيرة نفس مواطئ طفولته. تعود به الذّكريات، حيث سيقضي ساعات طوالٍ مجدّدًا. منعزلًا، باحثًا عن مشترك بين الحياة والموت. ستلمح عيناه، وسيشير قلبه. ربّما يغرس معولًا متتبّعًا لأثر. على مقربة يجد قناة جفّت مياهها من أزمنة، ونبت العشب في أخاديدها، غير أنّها لا زالت تتدفق. قناة رومانية قديمة متشقّقة الحواف، فيها أرواح عامريها، تعود للحياة الآن فقط، حينما شوهدت، وتحوّلت فكرة. مواد وحجارة وأدوات من مختلف الحقب الزّمنية، منها نباتيّ، وآخر حيواني، وثالث من مخلّفات البشر، من حياتهم العاديّة اليوميّة، أو من حروبهم. متوزّعة جميعها في الواد الممتد، العميق. منها ما تربّع في القدم، ومنها حديث النّشأة قريب الميلاد. جمعها الموت، حتى التقطتها يداه، يدا بنجي، ليصير موتها آنيّا مؤجلّ النّهاية. وجد مطحنة تعود للفترة الهيلينستية، وجد أحذية مختلفة التصاميم، وجد أشياء غير مفهومة المعنى، كان يتركها ليعود بأوراقه في اليوم التالي، فلا يجدها. راحت أنامله ترسم كلّ الذي يرى، ويجمعه على سطوح الأوراق البيض. ليس شرطًا أن ينسخ التفاصيل، لكنّ الذي تراه عينه أولى، والذي يشعره قلبه أهمّ. فرَسم المفاهيم، ووجهات النظر، وحوّرها ليفتح آفاقًا جديدة للفهم. تمرّ الأيام، وتزيد المكتشفات. تتكوّم قطع يعلوها الصّدأ، وتترامى الخطوط، وتزداد اللوحات. كهوف قديمة مسكونة بالحمام، تعود لآلاف السنين، بيئة غريبة بحاجة لإعادة ترتيب، بحاجة لفهم التفاصيل. هذا الذي سيفعله بنجي بالتحديد.
“حجرة العجائب” تلك التي صنعها بنجي، تجمع العراء في كنفاتها، والعراء هو الطبيعة ذاتها. جعل قلبًا منفردًا للأرض، ينبض قوّة، ويُشعّ هالات من كلّ الأزمنة. صندوق خشبيّ غير منتظم، مليء بالحجرات التي تحوي غيرها من حجرات، تجمع بين نقيضين، القمامة الحيّة، والتاريخ، كأنّها متاهة تقود للقطعة الواحدة خلف الأبواب والأدراج الكثيرة.
خلْطُ القديم بالحديث، والمبعثر بالمرتّب. على نغمات موسيقى هادئة تهبّ نسمات وادي القمامة، ينبض العمل بمكوناته المختلفة، كلّ من مكانه، ثمّ ينبض الصّندوق الكبير، نبضًا واحدًا بإيقاع رتيب. الغرفة تنبض، المكان كلّه ينبض، ولا يعود المشهد مشهدًا، إنما فضاء. وتعود الحياة للوادي، لوادي الشّامي، بفعل قوى الموت الخفيّة، قوى الموت التي لم تُنقصها أيّ نكهة احتلال، لم تحو أيّ من الحجرات إرثًا لغريب -وإن وجدت فتثبت أنّه غريب-، وبذلك يزداد توهّج الأفكار الحيّة في “حجرة العجائب”.
كُتب هذا النص في إطار ورشة كتابة بعنوان “نقد الفنون البصرية: معرض اقتراب الآفاق نموذجًا”، من تنظيم المتحف الفلسطيني وبإشراف الكاتبة عدنية شبلي.