في تكريم حافل لمحمود درويش في مركز فيلهارموني العريق للموسيقى philharmonie de Paris، الذي خُصّص منذ بداية نشأته للموسيقى السمفونيّة ثم توسّع لاحقاً ليشمل الجاز والموسيقى العالميّة على اختلاف أشكالها، شارك مجموعة من الفنانين الفلسطينيين والفرنسين في تظاهرة من النادر تنظيمها لأيّ شاعر آخر، سواء كان فرنسيّا أو عربيّا، في مكان بأهميّة هذا الصرح الموسيقيّ الباريسيّ. امتدّت هذه التظاهرة الكبيرة من 28 شباط إلى 1 مارس لتكريم محمود درويش الشاعر والإنسان ورمز المنفى “le symbole déracinement” كما جاء في تقديم هذه الاحتفاليّة. وانطلقت هذه التظاهرة يوم الجمعة، بأمسيّة شعريّة موسيقيّة مشتركة بين إلياس صنبر (الكاتب والمُترجم والمؤرّخ) بمرافقة الموسيقيّ ملحّن الجاز الفرنسيّ فرانك تورتيلير، حملت عنوان “والأرض تورث كاللغة”، وهي عبارة مقتبسة من قصائد درويش، ويتكرّر اقتباسها في أكثر من سياق ومناسبة، من مهرجان أو لقاء أدبي. وقرأ صنبر نصوصاً شعريّةً درويشيّة وغنّت أشعاره مغنيّة السبرانو دومينيك ديفالس وهي من تلحين فرانك تورتيلير، فكانت بذلك أمسيّة موسيقية يتقاطع فيها الشعر والموسيقى والغناء.
ولم تخلُ هذه التظاهرة رغم أجوائها الاحتفالية التكريميّة من عقد لقاءات ونقاشات حول واقع الموسيقى الفلسطينيّة. فقد شارك في اليوم التالي، يوم السبت، مجموعة من الموسيقيين الفلسطينيين والفرنسيين العاملين في هذا الحقل داخل فلسطين نفسها، مثل الموسيقييْن والملحّنيْن محمد نجم ورمزي أبو رضوان، والموسيقيّة الفرنسيّة ماتيلد فيتو، التي أسسّت مع زوجها ميشل كنتوني فرقة “كورال أمواج الفلسطينيّة للشباب”، في منطقة بيت لحم والخليل، وتقوم حاليّا بقيادة هذا الكورال وهي مقيمة لهذا الغرض في فلسطين، وتدرّس أيضا في المعهد الموسيقيّ في باريس الذي تزوره كل أسبوعين. وشارك أيضا في اللقاء بعض المختصين والباحثين ليتحدّثوا عن “الحياة الموسيقيّة في فلسطين اليوم”.
أمّا الأمسية الموسيقيّة الكبيرة التي حملت عنوان “وطني حقيبة” مساء السبت، فقد كان مشهد الافتتاح فيها توقيع درويش المميّز الذي ظهر على شاشة المسرح الكبيرة. هو توقيعه الأفقيّ المبعثرُ وكأنّ الحروف تطارد نفسها دون توقّف، الحروف المتلاحقة التي تبدو منفصلة عن بعضها لكنها تأخذ إيقاعاً حركيّاً واحداً. تداخلت وتمازجت الموسيقى التي تقاطعت فيها مختلف الآلات الموسيقيّة والألحان من شرقيّة وغربيّة، بصوت ناي البرغوثي، والمغنيّة التونسيّة غالية بنعلي، وكاميليا جبران، والموسيقي والعازف الفرنسيّ رودولف بورجر، بحضوره المتعدّد، مشاركاً بالغناء والقراءة الشعريّة، عن ظهر قلب، والذي أخذ الجمهور في حوار شعريّ ممتدّ مع قارئة الشعر رشيدة براكني، الممثلة الفرنسيّة من أصل جزائري، والممثّل الفلسطيني عامر حليحل، ليصنعوا معا ًبرفقة موسيقى رمزي أبو رضوان، الذي يقود الحفلة مع فرقته الموسيقيّة، ايقاعاً ممتداً أشبه بتوليفة صوفيّة لا تنقطع، فينشد رودولف بورجر “يطير الحمام”، ليردّا عليه “يحطّ الحمام”، في حواريّة شعريّة موسيقيّة استمرّت لعشرين دقيقة، لتشتعل الصالة على أثرها بالتصفيق.
وفي هذه الأمسيّة التي تقاطعت فيها أصوات وألحان عشرين موسيقيّا وقارئا ومغنيّا، يضيق المجال هنا عن ذكرهم جميعا، أخذ رمزي أبو رضوان وفرقتة الموسيقيّة مكاناً على يسار المسرح، ليرافقوا عروض الأمسيّة التي كانت تتسلسل كلوحات ايقاعيّة وبصريّة باهرة. وظهر فجأة جواز سفر محمود درويش على الشاشة الكبيرة، كسيرة بصريّة تحمل اسمه وتاريخ ولادته وكلّ ما نتمنى أن نعرفه من تفاصيل عن درويش الإنسان. وكان الجواز مختوماً بالختم الأحمر، ومدموغ بكلمة “ملغي” بالإنجليزيّة، في رمزيّة شديدة الوضوح لإشكالية الجواز الفلسطيني. ورافقت هذا العرض أغنية محمود درويش “جواز السفر”. وأبهر الخطّاط جوليان بريتون الحضور بتخطيطه مفردات من قصائد درويش، فكان يرسم المفردات على لوحة زجاجيّة أمامه ليظهر التخطيط في نفس الوقت على شاشة كبيرة على المسرح، فكان مشهداً بصريّا جذّاباً ومفاجئاً، يعبّر عن الجانب الساحر الذي يعكسه جمال الخطّ العربي.
أمّا الشباب اليافعين فكان لهم صوتهم أيضا في هذه الاحتفاليّة الكبيرة، هم أيضا يعرفون درويش ويحبونه، فامتزجت مجموعات من أصوات شبابيّة جمعت شباب أوركسترا باريس، مع فرقة أمواج الفلسطينيّة للشباب، وكورال ميتريس دو ترابس للشباب ليغنوا معاً قصائد درويش، وقصائد شعراء فرنسيين آخرين كبول فيرلين، بقيادة ماتيلد ماتيو وآخرين في أمسيّة حملت عنوان “”مرآة الآخر”. فكانت موسيقى الكورال المشتركة والتي امتزجت فيها ألحان غربيّة وشرقيّة ترافق قصائد درويش، مقروءةً ومغنّاةً، بالعربيّة والفرنسيّة. والمدهش في هذا العرض كان التناغم والانسجام في غناء باللغتين تتصاعد فيه الألحان والأصوات المختلفة لتندمج ثم تتراجع وتترك المجال للأصوات الفرنسيّة، وهكذا في عمليّة تموّج معقّدة ومرهفة، وتنم عن عمل طويل وتدريب جديّ بلا شك. من الموسيقيين الفلسطينيين شارك محمد نجم، ويوسف حبيش، وخليل شقير، ويوسف زايد، ومجموعة من الفنانين الفرنسيين الآخرين. وهي مستوحاة كما جاء في كاتولوج المهرجان، من قصائد درويش وموسيقى منعم عدوان وناجي حكيم وباتريك لاما وفنانين فرنسيين آخرين. وقد بدأت هذه الأمسية الكوراليّة بقصيدة “هو هادي وأنا كذلك” مع موسيقى الناي الارتجالية، وتوالت الأغاني “أمي”، ثم سبرانو لمقاطع من “حالة حصار”، وقصائد لبول فيرلين بالعربيّة والفرنسيّة، كان لكاتب هذا السطور شرف ترجمتها للعربيّة. وكورال بمصاحبة البيانو، وقراءة شعر بموسيقى الناي، وأصوات مترافقة مع بيانو وناي، وأحيانا بالكورالات الثلاثة تصاحبها موسيقى تخت وناي وبيانو… إلخ.
بينما كان الختام أمسيّة موسيقيّة وغنائية لمارسيل خليفة تحت عنوان “أنا ومحمود”، في عرض غنائي حيويّ وشيّق، أعاد الى الذهن الفترات الذهبيّة من أعمالهما المشتركة التي حفرت في الذاكرة الجمعيّة العربيّة. لكن هذه المرّة كانت بإضافة جديدة، وبأجواء موسيقيّة أخرى، برفقة ابنه “بشار مار خليفة” ومجموعة أخرى من الموسيقيين المرافقين. وأدخل بشار بصماته الموسيقيّة الحديثة، مضيفاً الإيقاعات العربيّة الممزوجة بالجاز والموسيقى الإلكترونيّة، شاحناً الأمسيّة بأحاسيس وتفاعلات جديدة مع جمهور مارسيل خليفة العريض والمتشوّق.
امتلأت صالات هذا الصرح الموسيقيّ الكبير بآلاف من الحاضرين، فجمعت عشاق الموسيقى والشعر في هذه الاحتفاليّة التكريميّة التي امتدت لثلاثة أيام متواصلة، والتي امتازت باختيار موفّق للقصائد، والتنظيم والترتيب الذي ينمّ عن عناية وجهد عالٍ. وكم كان مؤثراً سماع قصائد درويش المغناة بالفرنسيّة من شباب صغار عرباً وفلسطينيين وفرنسيين، ليتحوّل درويش في تلك الأمسيّة إلى مصدر إلهام لفرق كاملة، وأجيال مختلفة من الفنانين على اختلاف مشاربهم وعوالمهم، في تكريم له يندر أن يحظى به شاعر آخر غيره.