لم يعرف العصر الحديث شاعرًا بشهرة ونجومية الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش الذي وبرغم مرور إثني عشر عامًا على رحيله، إلا أن حضوره مازال فتيًا طازجًا وكأنه يعيش بيننا الآن، وربما ليس من قبيل المصادفة أن يكون شهر مارس هو الشهر الذي جاء فيه إلى الحياة تزامنًا مع الاحتفال بيوم الشعر العالمي.
لم يكن درويش مجرد شاعر كبير مثل غيره، سواء أحببته أم كرهته، راقت لك كتبه أم كنت تفضل شاعرًا آخر عليه، إلا أنه لا اختلاف على كونية هذا الشاعر التي جعلت منه أسطورة لم يقترب منها أحد يومًا ما، ولو كان المتنبي هو أسطورة تراثنا الشعري فإن درويش وبلا أدنى شك هو أسطورة ثقافتنا الشعرية الحديثة والمعاصرة، وفي ذكرى مولده قدمت الصحافية ليانا صالح في قناة “فرانس24” و على مدار أسبوعٍ حلقات خاصًا من برنامج “ثقافة” استضافت من خلاله شخصيات أدبية وفنية عاصرت درويش وعرفته عن قرب، فقدموا لنا مادة غنية وذاكرة عن درويش لم نكن نعرف الكثير عنها.
في الحلقة التي كان ضيفها المؤرخ والناشر ومدير سلسلة “سندباد” في دار “أكت سود” في باريس فاروق مردم بيك، تحدث عما يفتقده بغياب درويش الصديق الذي رافقه “بصورة كثيفة خلال السنوات العشر التي قضاها في باريس حيث كنا نلتقي مع اصدقائنا، ثم عندما غادر فرنسا وكان يعود إليها بانتظام، كما أنه الشاعر الذي يفتقده جميع القراء في العالم العربي وأيضاً في فرنسا” ويؤمن مردم بيك ان درويش كان شاعراً معجزة لأنه كان مسكونًا بالهاجس الشعري ورغبته الدائمة في تطوير أدواته الشعرية، فقد كان يتكلم عن الشعر صباح مساء، وهو الشاعر الذي استطاع تجاوز نفسه في كل مجموعة من مجموعاته والحفاظ على نجوميته الشعرية خارج إطار المثقفين وهذا ما نراه الآن حيث يتم الاستشهاد بشعره دون أن يعرف البعض أن هذه الجملة تعود له”.
وعن سؤالها حول مقروئية درويش في فرنسا أوضح مردم بيك أن حجم مبيعات كتب درويش كثيرًا ما تخطّت مبيعات كبار الأسماء الشعرية والروائية في فرنسا حيث تجاوزت أحيانًا عشرة آلاف نسخة وهو أمر نادر فيما يختص بالشعر. أما عن سؤال صالح حول القضية الفلسطينية وأثرها في زيادة شعبية محمود درويش في فرنسا يقول مردم بيك إنه “لا شك أن القضية الفلسطينية قد حملت درويش في البداية إلى حد بعيد مثلما حملت غيره من الكتاب مثل إميل حبيبي وغسان كنفاني، إلا أنه هو الذي حملها فيما بعد أبعد مما وصل بها أي كاتب قبله أو بعده، واستطاع -حتى بعد وفاته- أن يكون الممثل الشرعي الوحيد للروح الفلسطينية، ولذلك أقول بأن هناك ما يشبه المعجزة فيما يختص بمحمود درويش حيث أنه ظاهرة لن تتكرر لا في الشعر ولا في السياسية”.
وعن مساهمة باريس في خلق انعطاف واضح في مسيرة درويش الشعرية يرى مردم بيك أن “باريس قد أبعدته عن السياسة اليومية لأنه كان محاطاً بها في بيروت حينما كان عضوا عاملًا في السياسة الفلسطينية، لكنه تفرغ للشعر في باريس وكانت لديه مكتبة ثرية بأهم الكتب العربية، فقد كان قارئا نهما وشغوفًا باللغة العربية إلى حد أنه كان يقرأ صفحة من لسان العرب يوميًا، وكان حتى يلعب معنا لعبة معاني الكلمات وأصولها، إضافة إلى قراءاته في الشعر العالمي المترجم للانجليزية أو العبرية التي كان يجيدها أو العربية طبعا.
وعن أهم الذكريات التي تربطه بدرويش يذكر مردم بيك أنه كان هناك العديد من الذكريات الخاصة ربما كان من أهمها حينما رافقه إلى مقدونيا لاستلام جائزة التاج الذهبي التي تعتبر أرفع جائزة أدبية هناك موضحًا “أن الجائزة كانت مهمة جدا لدرويش حيث أن أكبر شعراء القرن العشرين من أودن إلى نيرودا وغيرهم هم من حصل عليها، ويستذكر مردم بيك نزهتهما في حديقة على ضفة بحيرة حيث كان عليه أن يزرع شجرة كتقليد للجائزة و”كنت أطرح عليه اسئلة عن كل شاعر فاز بالجائزة واحتفظت بالاجوبة على أكتب عنها مقالًا لم أنجزه حتى الآن”، وقد اختتم مردم بيك اللقاء بالحديث عن زيارته لقبر درويش في رام الله حيث يروي مردم بيك كيف تأثر حينما زار قبر درويش، وكيف كانت هذه تجربة خاصة بمجملها كونها أيضًا أول مرة زيارة لفلسطين يقوم بها في حياته.
في حلقة الموسيقي والمغني اللبناني مارسيل خليفة الذي اقترن اسمه على مدار عقود بدرويش حيث غنى عددًا كبيرًا من قصائده صارت أناشيدًا وطنية في العالم العربي بأكمله، افتتحت ليانا صالح الحديث عن آخر حفلة أقامها في باريس بدعوة من فيلارموني أو “اوركسترا باريس” والتي قدم فيها عرضا استثنائيا مع ابنه بشار خليفة تحية لمحمود درويش حيث علّق خليفة “أنها كانت أمسية أعادت لملمة الذاكرة المشتركة التي جمعت الموسيقى التي ألفتها وقصائد محمود درويش، وأضاف أن ابنه بشار قد عاش هذه التجربة منذ كان صغيرًا، حينما شاركه في أول تجربة له عندما كان يبلغ من العمر الخامسة عشر وكان العمل بعنوان “تقاسيم” وكنا سنقدم الامسية معًا وصادف أن درويش كانت له أمسية على خشبة مسرح اليونسكو في نفس الوقت ولأني أعرف محمود فقد كنت على معرفة بالتوتر الذي عادة ما يصيبه قبل القراءة وقد انتبه درويش يومها إلى أن بشار كان يتصرف بشكل عادي وكأنه معتاد على ذلك، فسأله ألا تشعر بالخوف فأجابه: لا ، فاستغرب محمود وسألني معقول؟ وقد استدعيت هذه الذكري حينما كنا على وشك الخروج للجمهور في هذا الحفل واذا ببشار يعيش نفس التوتر الذي كنت أراه سابقًا عند درويش”، مضيفًا “لقد استطعنا ان نعيد إنتاج هذه الأعمال التي لم تقدم على المسرح كثيراً مثل أنا يوسف يا أبي أو إلهي لمذا تخليت عني وقد كان الطقس احتفاليًا وكأن القاعة تحولت إلى معبد ومريم تناجي إلهها”.
وبسؤال ليانا صالح عن ألبومه الأول “وعود من العاصفة” والذي قدم فيه عددًا من قصائد درويش دون، أوضح خليفة “أن هذا العمل جاء بالصدفة حيث كنت بسبب أفكاري محجوزا في المنزل وكان معي في البيت بضعة دواوين لدرويش بدأت القراءة فيها ومن ثم بدأت بوضح ألحان لها خاصة وانني كنت متخرجًا للتو من معهد الكونسرفتوار، وبالحقيقة أنني كنت ألعب أو أتسلى بعمل ألحان لبعض القصائد التي قرأتها وما كنت أعرف أن هذه التجربة ستوصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن، ثم اضطررت للخروج من القرية وقدمت إلى فرنسا واجتمعت بعدد من الأصدقاء حيث أسمعتهم بعض القصائد بصوتي وقاموا على الفور بأخذي للاستوديو لأسجل كل الأعمال في يوم واحد مثل ريتا، وأحنّ إلى خبز أمي وجواز سفر وغيرها وفي غضون وقت قليل انتشرت هذه الأغاني عربيًا ولاقت اقبالًا كبيرًا حتى أن درويش نفسه كتب مقالًا قال فيه “إن هذه الأغاني فضحت علاقة الحب التي بيني وبين أمي حيث كتب هذه القصيدة على علبة كبريت في السجن” وقد حدث كل هذه دونما أدنى لقاء بيني وبينه إلى أن جاء اليوم الذي التقينا فيه في بيروت مع عدد من الكتاب أذكر منهم الروائي إلياس خوري حينها قال لي ألا تعرف أن هناك ملكية أدبية لهذا القصائد فأجبته أنني فقط قمت بغنائها انطلاقًا من إعجابي بها ونشأت منذ ذلك الحين صداقة كبيرة لم تنتهي، وأذكر أنه لم يسألني يومًا لألحن له قصيدة بعينها ولا أنا سألته عن قصيدة أود تلحينها، كان يعطيني مطلق الحرية في اختيار ما أريد، ولاحقًا تحولت هذه الأغاني إلى نشيد أو على حد قول درويش إلى “خبز يومي”.
وعن الذي أضافته قصائد درويش لألحان مارسيل أو العكس يؤكد خليفة انه “لا يمكننا فصل القصائد عن الموسيقى لأنها كانت حالة التحام ووحدة وتشابك، وكلاهما أعطى شيئًا للآخر، فق استفدت كثيرًا من إيقاع وجمالية هذا الشعر واستطعت الذهاب إلى أماكن بعيدة سواء في الإيقاع أو المقامات ووصلت حتى لتلحين قصائد كبيرة مثلما أحمد العربي وغيرها وليس فقط القصائد القصيرة سهلة السماع.
السفيرة السابقة والرئيسة الفخرية لكرسي محمود درويش في بروكسيل ليلى شهيد كانت إحدى ضيوف البرنامج أيضًا حيث سلطت صالح الضوء على علاقة الصداقة الخاصة التي جمعتها بدرويش فأوضحت شهيد أن “الصدفة هي من عرفتني على درويش كما عرفتني على جان جينيه في بيروت عام 82 كما جمعتني الصدفة مرة أخرى بمحمود في القاهرة بعد أن ذهب إليها بدعوة من الرئيس السابق جمال عبد الناصر الذي كان في زيارة رسمية لموسكو وعلم بوجود درويش هناك وسأله ما الذي تفعله هنا؟ فأجاب محمود: لا استطيع بهذا الجواز الاسرائيلي الذهاب إلى أي دولة عربية. وبناء على ذلك أرسل إليه عبد الناصر جواز سفر يخوله من دخول مصر بكل سهولة” وأضافت شهيد “الحقيقة أني تعرفت على درويش من خلال الصحفي الكبير أحمد بهاء الدين خاصة وإن عبد الناصر كان قد أعطى أوامر بمنح درويش كل مستحقات الكاتب الكبير من مكتب وراتب وغيره، ويمكنني القول أن الصدفة والتفاهم الشخصي هي من خلقت هذه العلاقة التي استمرت طوال حياتي”.
روت شهيد إحدى القصص المؤثرة التي لم يعرفها الكثير عن درويش، ولم يحب التحدث عنها ولذلك ربما لا يعرفها إلا القلة، وهي أن أدونيس كان محكّمًا يوما ما في مسابقة شعرية بديرٍ للراهبات في مدينة بشرّي اللبنانية وصاحبه محمود إلى الدير وحينما وصلا هناك سألتهما احدى الراهبات: من منكم محمود درويش فقال لها: أنا، فأخبرته أنها كانت تفتش عنه منذ 5 سنوات منذ أن عادت من القدس حيث كانت تساعد الجرحى هناك على تجاوز لحظاتهم الأخيرة بسلام، وفي أحد الأيام وأثناء رعايتها لأحد الجرحى الشباب قام هذا الجريح بسؤالها: هل سمعتِ بشاعر اسمه محمود درويش فقلت لا، قال أتمنى أن تنزلي السوق وتشتري كتابًا لهذا الشاعر وأن تظلي تقرأي لي أشعاره حتى أموت وقد فعلت ما طلب مني وظللت أقرأ له أشعارك حتى مات، ولذلك ظللت أبحث عنك لأوصل لك هذه الرسالة لتعرف أن هناك شاب كانت راحته قبل الموت في أن يسمع أشعارك وكان لهذا القصة أثر كبير على محمود ولذا كنت حريصة على ذكرها لأنه خلافًا عن المعروف عنه فقد كان لديه حس متواضع وشفاف.
حلقة الروائي اللبناني الكبير إلياس خوري كانت غنية أيضًا بالتفاصيل حيث ربطته بدرويش علاقة شخصية وفكرية وأدبية، وبدأتها المذيعة بسؤاله عما يفتقده في غياب درويش الشاعر والصديق، فأجاب خوري: “أنه لا يوجد افتقاد للشاعر فهو مازال حيًا بيننا وكلما أشتاق إليه أعود لشعره وأقراه أو لذاكرتي التي حفظت العديد من أعماله فأستعيده لذا فالشاعر لم يمت، أما درويش الصديق فأنا أفتقده كثيرا وأشعر بالأسى وأتساءل كيف مر الزمن بهذه السرعة؟ فهو وعلى الرغم من وفاته منذ 12 سنة إلا أنه كأنه مات البارحة، وهذا حضور لن يغيب” وعن ذكرياته التي يحملها عن درويش أجاب خوري “هناك مليون ذكرى بيننا، لكن الأساس في علاقتي بدرويش هو مجال عملنا في الأبحاث ثم في مجلة الكرمل وحتى حينما غادر إلى باريس ظللنا على تواصل لكن ربما أقسى لحظة لن أنساها حينما جاء إلى بيروت قبل موعد جراحته بأشهر والتقينا بأحد أفضل الأطباء في لبنان الذي كان جوابه سيئا للغاية وعندما خرجنا من عنده ذهبنا لنشرب على شرف الشعر والموت بدلا من الحزن والأسى” كما تحدث خوري عن مساهمة تجربة درويش في صياغة هوية فردية فلسطينية انبعثت من النكبة
قائلًا: “أولا، أظن أن درويش هو أحد أربعة من الذين صاغوا اللغة الفلسطينية بعد النكبة التي كانت كفيلة بتدمير أي لغة أو ثقافة وإغلاقها إلا أن درويش وكنفاني وادوارد سعيد وايميل حبيبي كان لهم الأثر الأكبر في إعادة صياغة الهوية واللغة الفلسطينية التي أخرجت لغة منفتحة متجاوزة للحدود، وكأن فلسطين تلخص كل مآسي الإنسان في العالم وليس فقط النكبة الفلسطينية التي بدأت في عام 48 ومازالت مستمرة حتى الآن”
وتحدث خوري عن الإضافة التي قدمه درويش للشعر العربي فقال: “استطاع شعر درويش أن ينقل النبض الإنسانى بشكل متفرد، فأنت تشعر حينما تقرأه أنه يعبر عن حالك كفرد، كما تشعر أيضًا أنك جزء من جماعة وأن الشعر هو أفق ووسيلة كي نتحاور مع بعضنا ومع الأحياء والأموات في آن معًا، ولذلك عمل درويش على استعادة احدى الصيغ العربية العريقة ألا وهي المثنى حيث أنه أقام حوارًا عميقًا مع المعلقات والشعر الجاهلي وأنتج قطيعة في قلب الاستمرارية وحداثة يعيش فيها الإرث القديم بمفاهيم جديدة” وردًا على سؤال المذيعة عن درويش وهل مازال أسير خانة المقاومة الفلسطينية، روى خوري في معرض إجابته قصة للمقاربة وذلك “أنه حينما كان يكتب المعري أسماء الشعراء، كان يكتب كل باسمه وحينما يأتي إلى المتنبي كان يكتب أمامه الشاعر، ورأيي أنه لو كان هناك شاعر في عصرنا يستأهل لقب الشاعر فهو محمود درويش، فهو شاعرنا كعرب وهو شاعر إنساني يخاطب الناس في كل اللغات وهو قد حول قضية فلسطين إلى وعاء نجد فيه الهندي الأحمر والأندلس والأسود في جنوب أفريقا، المثقف والعامل الفلاح، الأم والأب، الحياة اليومية وكيف تنبض بالرؤى لأن الشعر هو إضافة المعنى للحياة”. وعن تأثير درويش على تجربته الأدبية أوضح خوري أنه كان في بداية تجربته حينما التقى محمود حينما جاء من فلسطين نجمًا على الرغم من تقارب العمر، وكان اللقاء محلًا للغنى الروحي والشخصي والأدبي، وتعملت منه الكثير وتعلمنا سوية الكثير كما تعلمنا من تجربة بيروت الكثير لأنها من أكبر التجارب الإنسانية واكتشفنا أن الإنسان هو الإنسان وأن الأدب هو المرأة التي نرى صورتنا فيها”.
حلقات أخرى شملها البرنامج وكانت بمواضيع ومقاربات أخرى تحوم حول درويش، إحداها كانت مع الموسيقي سمير جبران الذي شارك المسرح مع درويش في عدة أمسيات شعرية طوال اثني عشر عاما، والحلقة الأخيرة كانت مع الممثل الفلسطيني عامر حليحل والمغنية الفلسطينية ناي برغوثي للحديث حول الاحتفالية التي خصصتها الفيلهارونيا في باريس لتكريم محمود درويش على مدار ثلاثة أيام.