وصلت إلى باريس دون أن أخرج من القاهرة 

Keith Haring

عبدالله البياري

كاتب وباحث من فلسطين

ذلك الحدث الاستعاري اللغوي، يحدث أيضًا في مرسمي فأنا أقع بين متقابلين: على يميني كتبي العربية المعنية بالأدب والفنون والعمارة والموسيقا، وعلى يساري في نفس المواضيع كتب بالانجليزية، أتأملني في موقع بين الإثنين، مصاب بقلق هوياتي تتجاذبه المركزيتان.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

20/05/2020

تصوير: اسماء الغول

عبدالله البياري

كاتب وباحث من فلسطين

عبدالله البياري

الارتحال بين لغتين ليس بالأمر السهل، فكيف هو الحال مع أكثر من ذلك؟

أتذكر مسيري الأول في شوارع العاصمة الفرنسية باريس، حين وصلتها دارسًا لا أعرف أحدًا، ولا حتى موقع الجامعة أو السكن أو غيره. مسني الخوف حينها، أول ما مسني، من خلال اللغة؛ الفرنسية التي قضيت 9 أشهر أتعلمها بمثابرة في المركز الثقافي الفرنسي، حتى أتقنتها على يد أستاذ مستشرق متأخر، صوت الفرنسية مرتفع في باريس، وهو أمر طبيعي، لعاصمة اللغة، لكنه ليس كذلك معي، فأنا الذي تعلمت الفرنسية في فضاء نضاح بالعربية. أتت اللغة ومخاوفها الصوتية والمكانية ضمن حمولاتٍ تخيلية لكل إرث الراحل إدوارد سعيد في كتبه عن الاستشراق والثقافة والإمبريالية يصاحبه فرانز فانون، يهجس بي هو ولوسكرل عن اللغة وعنفها. أتتني صور المتاحف الفرنسية بكل تلك الأجساد البيضاء العاجية الممشوقة فيها رسمًا وتجسيدًا ومظاهرها البرجوازية، وغياب الأجساد السمراء والملونة إلا من وضعية الهوامش والأطراف. استعدت كل تلك الصور، وغيرها، لتتمثل أمامي لغويًا، بكل ما قرأته بالفرنسية، حتى باتت أصوات تلك اللغة التي كنت أحبها يومًا ثقيلة ورخيمة، تطفو على سطح جلدي كبقعة زيت على وجه الماء. 

زادت مخاوفي وطأة مع أولى مشاهد المدينة بطرازها المعماري نفسه في القاهرة ومنطقة وسط البلد، حينها أحسست بثقل العمارة الكولونيالية، وكثافتها مكانيًا، وأنا الذي لطالما تغنيت بمنطقة وسط البلد في القاهرة القاهرة، حتى أنني في محاولة فاشلة مني للتواطؤ مع المكان والعمران الباريسي، ومهادنته هاتفت أخي الأصغر لأقول له: باريس ليست جميلة، تشبه كثيرًا وسط البلد في القاهرة. مدينة كبيرة هي باريس، كثيفة وثقيلة، لم أحبها مع تقديري لجمالها.

أطلَّ عليَّ من الوجوه البيضاء في شوارعها تاريخي العربي الذي لم يتخلص بعد من تحديقة المستعمر الأبيض به، ما كنت أخرج من تلك الوجوه إلا على كلمة بالعربية هنا أو هناك، فأركض إلى صاحبها أو صاحبتها ولا أجده/ا. صاحبني هذا الخوف خلال فترتي الأولى مع/في المدينة، من باريس وحيِّها اللاتيني إلى منطقة قصر فرساي إلى ديجون وهكذا.

لكنه أنه لم ينته إلى هذا الحد، حتى حين أخبرت أستاذي الراحل محمد أركون بهواجسي تلك، قال لي أمر مفهوم في بدايات اغترابك، لم تقنعني إجابته. لكنني وإياه لم نتوقع أن تمتد تلك الظلال إلى لغتي الأجنبية الأولى: الانجليزية.

في باريس كنت مهووسًا بمطاردة اللغة العربية في أكشاك الجرائد، والأحياء التي يسكنها العرب ومقاهيهم، كنت أقف لأتأمل الأحرف على صفحات الجرائد العربية، وأهيم في انحناءاتها وميلاناتها، وأقارنها بالأحرف في الفرنسية والانجليزية، لأجد تلك الزوايا حادة ومؤلمة. أصبت بهوس نقل المعارف الفرنسية والانجليزية إلى العربية منذ ذلك الحين، أو بالأصح مسني الطمع منذ ذلك الحين، طمع رأيته حينها باعتباره اتفاقًا تواطؤيًا لكل حوار الذات والآخر الذي كنت أمر به، ولا أزال. بت أجوب المكتبات الشهيرة في حي سان ميشيل، أشتري الكتب التي أعلم بأهميتها وأنها لم تترجم إلى العربية بعد.

كنت منتشيًا بعروبتي أحاورها من خلال تخوم لقائها بالآخر الأوروبي/الفرنسي، حوارٌ ميزه الشد والجذب.

 تذكرت ما تناقله التراث الفارسي عن الإسكندر الأكبر، ومافعله بعدما غزا مملكة داريوش واستولى على الكتب التي كانت توجد بها، إذ “عمل على أن تُنقل كلها إلى اللغة الإغريقية ثم أحرق الأصول )…( وقتل كل من شك في أنه أنقذ بعضها من النار”. شهوة النار تلك هي شبيهة بتلك التي تصيبني أمام كتب ريتشارد سينيت، وجورج زيمل، وجورج شتاينر، وأخيل امبيبي، ولوفيفير، وغيرهم، هي شهوة ترجمة ومن ثم حرق إذن؟ لا علاقة مباشرة لها بخوفي من اللغة الأجنبية ومركزياتها المتقابلة، بل لنقل هي شهوة ندية لأقول ها أنا ذا! 

يذكر فريدريك شليغل مُنظر الرومانسية الألمانية عن العرب أنهم لا يولون الأصول أي اهتمام، ويتسمون “بطبعٍ مجادل إلى أبعد الحدود. فهم من بين جميع الأمم الأكثر قدرة على النفي والإتلاف. وما يميز فلسفتهم في روحها، هو ولعهم المرضي باتلاف الأصول والقضاء عليها بمجرد أن تتم الترجمة” ويكمل: “لهذا السبب بالضبط فقد كانوا أوسع ثقافة”، وقد علَّق الفيلسوف المغربي عبد السلام بنعبد العالي على ذلك بقوله أن شليغل قصد “أنَّ الثقافة العربية الكلاسيكية كانت، عندما تنقل النص إلى لغتها، تؤقلمه وتضمه إليها، كانت ترضخه وتقضي على عنصر الغرابة فيه، فتبتلعه وتدخله دائرة الأنا شعورًا منها أنه لم يعد آخرًا. لذا فسرعان ما تستغني عنه كأصل بعد أن ترقى به إلى لغتها” ويتسائل العالي: “فمن منّا يشعر وهو يعيد قراءة جمهورية أفلاطون أو أورغانون أرسطو بضرورة الرجوع إلى هاته النصوص في أصولها؟”، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد؛ يكمل شليغل عن العرب أنهم “كانوا أوسع ثقافة ، لكن رغم ثقافتهم كانوا أكثر بربرية من أوروبيي القرون الوسطى”، يمكنني أن أكون مثقفًا ومتوحشًا في آن.

هنا تظهر لعبة اللغة مرة أخرى، فوحشيتي العربية -في نظر الرومانسيين- ما هي إلا خروجي على الكلاسيكي والتقدمي في تحديقة الأوروبي إلي.

يقول شليغل أن العرب والرومان هم الشعبان المترجمان الوحيدان.

أستعيد تلك الثنائية وأنا أقف الآن أمام كتبي ومكتبتي في عمّان، الرفوف العليا البعيدة هي الانجليزية والفرنسية وهي التي لا تُطال من دون كرسي أو سلم صغير، وعادة ما أتجه إلى تلك الرفوف أعلم ما أريده منها بالضبط، وموقعه. بينما الرفوف القريبة والتي تقع في متناول اليد وامتداداتها هي الكتب العربية، حيث في مراتٍ كثيرة أتأملها كمن يمشي داخل نفسه وأفكاره. تلك المسافة بين الرفوف العليا والدنيا هي مسافة لغوية، “فـ”كل شيء يحدث لنا، إنما يحدث لنا في لغتنا” (هايدغر)، أمد يدي إلى اللغة الانجليزية والفرنسية أعرف ما أريده منها، أراقب ما حولي وحوله، وما بيننا، لكن العربية هي اللغة التي أتمشى فيها غير عابئٍ بمكاني وقيوده.

ذلك الحدث الاستعاري اللغوي، يحدث أيضًا في مرسمي فأنا أقع بين متقابلين: على يميني كتبي العربية المعنية بالأدب والفنون والعمارة والموسيقا، وعلى يساري في نفس المواضيع كتب بالانجليزية، أتأملني في موقع بين الإثنين، مصاب بقلق هوياتي تتجاذبه المركزيتان.

في الترجمة لا وجود للـ”درجة صفر للكتابة”، هذا أمر مفهوم، فالمترجم هو مرتحل بين لغتين، لكن مع ذلك في الترجمة، ثمة “أنا” أتلمسها في جسد النص المترجم. كتابـ(ـي) الأول الذي ترجمته “قراءة العالم: ما يتعلمه الأطفال الصغار من الأدب”، فعلت ذلك في محاولة مني لحوار أبوتي المقبلة، كنت أنتظر يافا ابنتي، كان الكتاب جزءًا من التدريب على الأبوة والتخيل، كتابـ(ي) الثاني الذي ترجمته لكنه لم ينشر بعد عن موضوعة النسوية البيضاء، وقبلت ترجمته لأنني أصنف نفسي رجلًا ذو توجه نسوي. في الترجمة، -وأنا لا أعد نفسي مترجمًا-، نحن نبحث عن أنفسنا اللغوية خارج مهارات الارتحال اللغوي بشكلها الحرفي أو الأداتي، نمد يدنا إلينا خلال جسد اللغة/اللغات، في محاولة منا لحوارنا، لكنني بمقدار ما أراني في النص الذي أسعى لحواره/ترجمته، أتحسس دومًا مسامي وحدود جسدي اللغوية فيه، وإلا كانت باريس ابتلعتني.
 

للاستماع إلى المزيد من المقالات، يمكنكم الاشتراك في خدمة «صفحات صوت» إما من خلال الموقع أو تطبيق آبل بودكاست.

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع