فترة الحظر الشديد في عمّان شارفت على الانتهاء. حيث كانت الصيدليات ودكاكين التموين والمخابز هي المتاحة فقط وحيث كنّا أيضاً نتجنّب قدر الإمكان الوصول إليها مستعينين بخدمات التوصيل وما شابه. وفي حال اضطررنا للذهاب نجد أنفسنا واقفين في طوابير طويلة ومتباعدة لتُلزِم التباعد الاجتماعي بين الناس. وعند السماح لك بالدخول تجد نفسك مع أربعة غيرك فقط فيكفي خلال التسوّق أن تتجنّب لمس وجهك لساعة أو اثنتين والتفاعل مع الآخرين لكي تمنع انتقال العدوى إليك.
بعد فتح الأسواق في عمّان واستبدال الطوابير الطويلة الملزمة للتباعد الاجتماعي بإلزام الكمامات والقفازات الطبية، خاصّة وأنّ النقل العام أضحى مُتاحاً، فقد شرعتُ أقضي حوائجي الأخرى التي قيل لي قبل الحجر بأنّها “غير ضرورية”. وبسبب شبه انعدام تفاعلاتي مع الآخرين في الآونة الأخيرة وعدم تنقلي إلّا مشياً، لم يحدث كثيراً أن تكلّمت مع أحد والكمامة على وجهي. لكن التجربة التي لفتتني عندما قمت بذلك لنصف نهارٍ تقريباً بأنّني لم أستطع استعمال تعابير وجهي كما هي العادة.
دخلتُ إلى أحد المتاجر وسلّمت على القائمين على العمل هناك بابتسامة عادةً ما تعطيني ردَّ فعلٍ موازٍ له في اللّطف. بل إنّ عالم التجارة عادةً ما يُغرقك بلطفٍ مبالغ به لمجرّد تلميحك بأنّك على استعداد له. لكن البرود الذي جوبهت به كاد أن يوشكني بأن أُشير إلى كمامتي وأقول بأنَّ هناك ابتسامةً خفية تحتها. أحسست لوهلة بأنّي مضطر لاستخدام “الإيموجي” في حوارٍ حي حتى يكتمل.
خارجاً عن إطار الحاجة الصحية للكمامة لا أنكر بأنّها تستطيع أيضاً أن تخفي بعض ردود الفعل اللا إرادية التي قد نصنعها في شفاهنا مما يوفّر إحراجاً. لكن أن نضطر لأقلمة وجوهنا مع غطائها الجديد أمرٌ قد يكون عاملاً في صناعة حركات إشارة جديدة في اللغات غير المحكية.
الإشارات أو اللغات غير المحكية هي موضوع سائد في مدارس تعليم اللّغات. وكلُّ من تعلّم لغةً أجنبية لا بدَّ له بأنّه مرَّ على هذا الموضوع. من المعروف مثلاً أنّ الإيطاليين يستعملون أصابع الإبهام والسبابة والوسطى مضمومة أثناء حديثهم للتعبير عن الحماسة أو ربما عن جودة شيءٍ ما يتحدّثون عنه. في حين أنها في المكسيك تدلُّ على الكثرة. أمّا في العالم العربي فنحن نقوم بها لتهدئة شخصٍ ما أو لكي نطلب منه الانتظار وربما في بعض السياقات لتهديده (حيث سينتظر ما سيحصل عليه من انتقام أو عقاب).
هذه الإشارات مرتبطة باليد وبعضها الآخر يرتبط بحركة الرأس، أما تعابير الوجه فهي عالمية. فالابتسام والغضب والعبوس والمفاجأة هي هي في ملامحها في كلّ أنحاء العالم. فماذا سنصنع؟ وهل هذه هي المرّة الأولى التي تتأقلم الوجوه البشرية مع غطاءٍ يمنع الناس من إرسال الإشارات المختلفة غير المحكية؟
منذ أن بدأت أشعر بالحاجة للإشارة إلى ابتسامتي للتعبير عنها، أخذت أفكّر في وجهي أثناء تحدّثي مع أحدهم وأنا أرتدي النظارات الشمسية. العينان تنبئان دائماً بالفرح والخبث والعبث والخيبة والمفاجأة والحزن، وبتغطيتهما نخسر عنصراً أساسيّاً في الحوار الحي. بالطبع لا أحد يجبرنا على ارتدائها. والكثير من الناس يخلعونها إن طال حوارهم مع أحد بسبب عدم ارتياحهم. بل لقد مرَّ عليَّ مِن قبل مَن طَلَبَت من محدّثها صراحةً خلع نظّاراته الشمسية لأنّها كانت تعتبرها وقاحة مفرطة أن يستمرَّ هذا الشخص بالحديث معها حاجباً عينيه عنها في الوقت الذي يستطيع رؤيتها، أو بالأحرى رؤية عينيها.
غالباً ما أنتبه إلى نشاطٍ في حركة الحاجبين لدى من يحدّثني وهو يرتدي واقيات عينيه الداكنة. حتى أنا نفسي عند شرائي لنظارتي الحالية، بعد أن كُسرت التي قبلها، فإنَّ إحدى تجارب الأداء لاختيار البديلة كانت مدى ظهور الحاجبين وهي على وجهي. أنا من أولئك الذين يستطيعون رفع كلّ حاجبٍ لوحده تعبيراً عن السخرية أو التعجُّب. ومن يدري إن احتجتهما وأنا أرتدي النظارة في وقت كانت الشمس أقوى من أن أنتزعها.
هذا الوباء، وأيُّ وباء، سواء كان جرثوميّاً أم فكريّاً أو حتى نفسياً. عندما يفرض علينا الانزواء والاحتباس فهو بالكاد بدأ. لكن أن يستمر بطوافه حولنا ونحن معاً بينما يمنعنا من أن نقدر على التواصل بحقّ فحينئذٍ تتشكّل ذرّات لا مرئية من الاغتراب عن بعضنا بسبب اغترابنا عن أجسادنا أو في هذه الحالة؛ وجوهنا. اغترابٌ دفعني لأن أقف أمام المرآة في ذلك اليوم والكمامة على وجهي حاجباً عينيّ بالنظارات أحاول البحث عن الفرق بين وجهي المبتسم وغير المبتسم، فقط لأعلم إن طالت هذه الحال بأنّني لن أكون مجبراً على استعمال “الإيموجي” أو التصريح بأنَّ هذه ابتسامة.