سقطت نعم وسقطت لا

Factory in North London, Lucian Freud, 1972

عمر زكريا

كاتب عربي

وهي تدرك تمامًا نقطة التحول في حياتها؛ الخلل حدث في تلك السقطة اللعينة. ظنّت أنّها إن أعادت التجربة ذاتها، كما يحدث في أفلام هوليوود والرسوم المتحرّكة، ستتحرَّرُ من المصيبة التي هي فيها. وعزمت على فعل ذلك، فإن لم ينته هذا الكابوس ستنتهي إلى أن تكون عجوزًا وحيدةً في مستقبل ليس بعيدًا؛ فريحانة لم تعد صبيةً يافعة.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

30/05/2023

تصوير: اسماء الغول

عمر زكريا

كاتب عربي

عمر زكريا

ومؤلف روائي، ومؤدي صوتي يعمل راوياً للكتب الصوتية (https://linktr.ee/omarzakaria)، (https://www.youtube.com/@kitabologia).

قبل سقوطها، وقفت ريحانة في الباص ذي الطابقين أثناء زيارتها لبريطانيا على الإشارة الضوئية الأخيرة قبل وصول الباص إلى المحطة. ارتدت معطفها ووضعت حقيبتها على ظهرها وهمّت بالنزول إلى الطابق السفلي. فكّر أحد المسافرين كم تبدو هذه المرأة مستعجلة، فالباص كان على مبعدة دقيقتين من المحطة النهائية حيث سيتوقف الباص لمدة عشر دقائق كاملة. إذن على عكس  كلّ نقاط التوقف، لا داعي للعجلة.

بدأت بالنزول على السلّم بالتزامن مع حركة الباص، وبين الدرجتين الثانية والثالثة من أعلى السلّم، قام السائق بتحريك عصا الغيار من الأول إلى الثاني. فاهتز كيان الباص كاملًا ككل باصات العالم بين ذينك البينين ففقدت ريحانة توازنها وأكملت نزولها إلى الأسفل سقوطًا حُرًّا لا شكَّ أنّه، رغم سرعته، لم يكن ضمن خطتها بالخروج سريعًا من الباص.

توقف الباص في إحدى النقاط ولم يكمل طريقه إلى المحطة. هُرِع الرُّكاب بين مَن أمسك برأسها وحاول التكلّم معها للاطمئنان عليها وبين من هاتف الإسعاف وبين قسمٍ ثالث أعلن بكلّ عنفوان اعترافه الصريح بانعدام أي فائدةٍ له في حالات الطوارئ وانسحبوا من الباص بعد أن تأكدوا من السائق أنَّه لن يتحرك بأي وقت قريب.

وصلت سيارة إسعافٍ بعد لأيٍ بسبب أزمة المرور، رغم المسافة القصيرة التي تفصل المشفى عن موقع الحادثة. دخلت مسعفةٌ إلى الباص، شكرت الرُّكاب على محاولة إبقاء ريحانة مستيقظة، أخذت منهم المعلومات التي لديهم عن تفاصيل الحادث واسمها وكل ما حصل بين سقوط ريحانة ووصول الإسعاف.

استلمت المسعفة الدفة مكلّمةً المصابة بصوت مرتفع: “ريحانة، هل تستطيعين سماعي؟” أومأت ريحانة برأسها بالإيجاب. “هل تذكرين ماذا حصل؟” أومأت بالإيجاب مجددًا. “أجيبيني بالكلام لا بالإيماء هل تقدرين؟” أومأت ريحانة بالنفي. “هل تشعرين بالغثيان؟” عادت فأومأت بالإيجاب. “يجب أن تكلميني يا ريحانة، هلّا أجبتني لو سمحتِ؟” أومأت ريحانة بالنفي مجددًا.

استاءت المسعفة، فعدم قدرة تلك المسكينة على الإجابة تعني إجراءات أكثر تعقيدًا. “ولكن، لماذا لا تريدين الإجابة؟” ففاجأتها ريحانة بالقول: “ما عدتُ أعرف لماذا الإجابة غير ممكنة.” اكتفت المسعفة بسماع صوت المصابة أمامها دون الخوض بالتفاصيل رغم أنَّ الصيغة التي استعملتها ريحانة في الإجابة شديدة الغرابة، خاصّةً في حالتها تلك، وآثرت استعمالها عوضًا عن قول “لا أدري” بكل بساطة. أكملت المسعفة إجراءاتها بلا تعقيب.

السقطة جعلت ريحانة المسكينة تفقد القدرة على قول كلمتي نعم ولا. الإجابة بهما أصبحت غير ممكنة نطقًا أو كتابة. كانت لا تزال تحتفظ بمفهومي النفي والإيجاب وتعبّر عنهما بالإيماء، لكنَّ هذين اللفظين قد سقطا تمامًا من عقلها وبكل اللغات التي تتكلَّمها فما عادت تملكهما أو تدرك أنَّ لهما مرادفًا صوتيًا أو رمزًا كتابيًّا.

المفارقة هي أنَّ ريحانة كانت تتذكّر أنّها امتلكت في السابق مقدرة صوتية على التعبير عن النفي والإيجاب. وإلا ماذا كانت تفعل بالضبط عندما اعتادت أن توصي على البيتزا عبر الهاتف وكان يسألها العامل إن كانت تريد أي إضافاتٍ على طلبها، لا بُدَّ أنَّها استطاعت الإجابة بأسلوبٍ غير الإيماء. الآن أصبحت تجيب: “ليس هناك داعٍ لإضافاتٍ على الطلب.”

من أبسط سؤال عادي يومي إلى استفتاءٍ شعبي عليها إثباته بوضع إشارة إلى جانب نعم، لم تعد ريحانة تجيب إلا بجملٍ كاملة. أصبحت إنسانة ثرثارة بعد سقطتها لأنها لا تكتفي باستعمال كلمة واحدة للإجابة على أبسط الأسئلة. أصبح الغرباء يهزؤون منها من وراء ظهرها ومعارفها من أمامه. بدأت تنحسر المناسبات الاجتماعية التي تُدعى إليها بسبب اعتقاد الجميع أنّها انقلبت إلى شخصٍ متكلّفٍ متفاصحٍ بشدّة.

وهي تدرك تمامًا نقطة التحول في حياتها؛ الخلل حدث في تلك السقطة اللعينة. ظنّت أنّها إن أعادت التجربة ذاتها، كما يحدث في أفلام هوليوود والرسوم المتحرّكة، ستتحرَّرُ من المصيبة التي هي فيها. وعزمت على فعل ذلك، فإن لم ينته هذا الكابوس ستنتهي إلى أن تكون عجوزًا وحيدةً في مستقبل ليس بعيدًا؛ فريحانة لم تعد صبيةً يافعة.

استقلّت الباص ذاته في وقتٍ مشابه من النهار مرتديةً الملابس ذاتها وحاملةً نفس الحقيبة وأعادت الخطوات التي قامت بها عند الإشارات المرورية، وتمامًا عند نفس الانعطافة التي اهتزَّ فيها كيان الباص لأنّه بدّل من الغيار الأول إلى الثاني هبطت ريحانة درجات السلّم برشاقةٍ متناهية. وقد نجحت توقعاتها الهوليوودية وعادت إليها القدرة على لفظ الإيجاب والنفي. واستدلَّ الباحثون على ذلك وأيقن منه المتشككون عندما سمعوها قالت بعد أن استفاقت: “لا أذكر ما الذي حصل، لا أعرف من أنا”.

الكاتب: عمر زكريا

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع