للمرة الثانية منذ بداية هذا القرن تتدخل حكومات أمريكا الشمالية وأوروبا على نطاق واسع باستخدام الأموال العامة وبالتنسيق مع البنوك المركزية من أجل إنقاذ قطاعات اقتصادية برمّتها والحؤول دون انهيار كامل للاقتصاد. وقد بلغت عمليات الإنقاذ الجارية التي فرضتها جائحة كوفيد-19 مستويات فاقت بكثير تلك التي تمّ تنفيذها إزاء الأزمة المالية لعامي 08-2007. هذه العمليات تتعارض مع المبادئ الأساسية للنيوليبرالية من حيث كونها تدخلات واسعة النطاق من قبل الدولة في ضبط الاقتصاد وكبح جماح السوق، بينما يشكّل رفع القيود التي تفرضها الدولة على السوق و”البقاء للأصلح” بين المتنافسين، مبدأين مركزيين في الأيديولوجيا النيوليبرالية.
وتتعارض أيضاً هذه العمليات مع سياسات التقشّف في الإنفاق العام، إلا أن هذا المبدأ الأخير ليس مشتركاً بين كافة الحكومات النيوليبرالية. إنه مبدأ مقدّس في أوروبا حيث تمتزج النيوليبرالية “التقليدية المحدثة” البريطانية مع “الليبرالية المنظمة” الألمانية. لكنه ليس موضع إجماع نيوليبرالي في الولايات المتحدة الامريكية، حيث غدت المفارقة أن الديمقراطيين اللذين كان الجمهوريون يتّهمونهم بممارسة سياسة “فرض الضرائب وزيادة الإنفاق” من وحي كينزي أصبحوا أبطال ضبط الإنفاق العام في العصر النيوليبرالي، بينما اجترح الجمهوريون منذ عهد رونالد ريغان سياسة طريفة قائمة على “تخفيض الضرائب (على الأغنياء) وزيادة الإنفاق (العسكري)” نجم عنها عجزٌ هائل في الميزانية الفيدرالية.
يبقى أن الحكومات النيوليبرالية الغربية انتهكت مرّتين المبادئ التي تسير على هداها – وعلى نطاق أوسع بكثير في المرة الثانية – بمناسبة أزمتين متتاليتين بلغتا حجماً استحق الوصف الذي لصق بكل منهما على التوالي بأنها “الأسوأ منذ الكساد الكبير” الذي بدأ في الولايات المتحدة عام 1929. فإن “الإغلاق العام الكبير” الراهن – وهو اللقب الذي اعتمده صندوق النقد الدولي لتسمية الأزمة الاقتصادية الهائلة الناتجة عن جائحة كوفيد-19 – قد غرق من الآن إلى أعماق أكثر انخفاضاً بكثير من “الركود الكبير” – وهو الاسم الذي بدأ صندوق النقد الدولي استخدامه في عام 2009 تسميةً للأزمة الاقتصادية السابقة. أما السؤال الأهم فبات الآن: متى ستبلغ الأزمة الحالية قاعها وكم من الوقت سوف يحتاج العالم للتعافي منها؟
هذا وقد أدّت ضخامة الكارثة الاقتصادية الراهنة إلى إحياء بل ومضاعفة الأمل في أن تؤدي إلى تحوّل عالمي كبير في السياسات والأولويات الاقتصادية. في هذا الصدد، اقتبست نعومي كلاين من أحد ألدّ الأعداء الكينزية وأحد المساهمين الرئيسيين في التحوّل النيوليبرالي: ميلتون فريدمان. ففي بداية ونهاية شريط الفيديو الذي أنتجته مؤخرًا عن “رأسمالية فيروس كورونا وكيف نتغلّب عليها“، تستشهد كلاين باقتباس من كتاب فريدمان الصادر في عام 1962 تحت عنوان الرأسمالية والحرية، وهو اقتباس سبق أن أوردته مرّتين في كتابها عقيدة الصدمة: “إن الأزمة فقط – سواء أكانت حقيقية أم في تصوّر الناس – هي القادرة على إنتاج تغيير فعلي. فعندما تحدث الأزمة، ترتهن الإجراءات التي يتم اتخاذها بالأفكار المتداولة في حينها.”
وبينما كانت كلاين قد استخدمت هذا الاقتباس في كتابها كمفتاح لفهم ما أسمته “عقيدة الصدمة”، تستخدمه في الفيديو توكيداً على ما يقول صاحبه، إذ تعلّق بما يلي: “فريدمان، أحد أكثر اقتصاديي السوق الحرّ تطرفاً في التاريخ، كان مخطئا بشأن أمور كثيرة، لكنه كان على حق في ذلك. ففي أوقات الأزمة تغدو فجأة ممكنة الأفكار التي كانت تبدو مستحيلة.” والحال أن الفكرة القائلة إن آراءً تقدّمية مثل تلك التي روّج لها أمثال نعومي كلاين وبرني ساندرز قد أثبتت الأزمة صحّتها، فكرة انتشرت انتشاراً واسعاً. فحتى محرّر جريدة فايننشال تايمز اللندنية جنان غانِش قد أدلى بدلوه في مقالة بتاريخ 18/3 عنونها “نظرة ساندرز للأمور تفوز بينما يخسر برني المعركة.” قبلها بيوم، كانت مجلة ذي سبكتاتور البريطانية الموالية للمحافظين قد دعت بوريس جونس إلى “الاستعارة من وصفات كوربين”.
مثل هذه الخلاصات ليست غريبة على من يتذكّر الأزمة الاقتصادية السابقة. بل كانت التوقعات آنذاك أقوى بكثير في الحقيقة، بالرغم من أن الأزمة الحالية أعظم بكثير، ذلك أن “الركود الكبير” كان أول صدمة كبيرة على النطاق العالمي في العصر النيوليبرالي والمناسبة الأولى التي التجأت فيها الحكومات النيوليبرالية إلى تدخّل واسع النطاق من قِبَل الدولة لكبح جماح الأزمة. ففي الشهر الثاني من عام 2009، خرجت مجلة نيوزويك الأمريكية بعنوان على غلافها يقول: “أصبحنا كلنا اشتراكيين الآن”. قراءة ذلك المقال اليوم تثير الضحك: فقد بدأ باستشهاد “عضو الكونغرس الأمريكي عن ولاية إنديانا مايك بِنس، الذي يترأس المؤتمر الجمهوري في مجلس النواب وهو عدوّ مفوّه لمشروع قانون إنعاش الاقتصاد الذي قدّمه الرئيس أوباما والذي يبلغ ما يناهز ألف مليار دولار”، كما استشهد المقال بمضيف بِنس على قناة “فوكس نيوز”، قناة الأخبار الكاذبة بامتياز، الذي وصف مشروع القانون بأنه “اشتراكي”.
وقد علّق مقال نيوزويك قائلاً إن هذا الاتهام “يخطئ الهدف بشكل عجيب. فلقد أمّمت الحكومة الأمريكية فعليا قطاعي البنوك والرهن العقاري، وكان ذلك تحت إدارة محافظة تنتمي إلى الحزب الجمهوري.” ثم تابع المقال يؤكّد على المفارقة: “لدى التاريخ روح النكتة، إذ إن الرجل الذي وضع أسس العالم الذي يحكمه أوباما الآن هو جورج دبليو بوش، الذي تحرّك لإنقاذ القطاع المالي في الخريف الماضي بضخّ 700 مليار دولار. فقد أنهى بوش عصر ريغان، والآن يمضي أوباما قدماً بعكسه سياسة بيل كلينتون في إنهاء الدولة المتضخّمة.”
كان ذلك الوهم مستنداً إلى خلط بين استعارة براغماتية ومؤقتة من وصفات الكينزية – لو استخدمنا عبارة ذي سبكتاتور – وبين تغيير جذري وطويل المدى في السياسات الاقتصادية والاجتماعية. هذا ولم تستمرّ الاستعارة طويلاً آنذاك، كما لم يكن ممكناً أن يفوت غانِش، محرّر فايننشال تايمز، الذي كتب:
نحن في المراحل المبكّرة لأحد المنعطفات التاريخية المتعاقبة في الفكر الاقتصادي. وربّما يكون الأكثر حدّة منذ أزمات أوبك النفطية التي رفعت من شأن دعاة السوق الحرّ في السبعينات. قد يشير القرّاء إلى انهيار 2008 الذي عقبه صدور سيرة لجون مينارد كينز تعلن “عودة المعلّم”. وقد تبيّن أنها كانت لحظة عابرة. فلم يمضِ وقت طويل حتى عادت سياسات التقشّف الحكومي في عموم العالم الغربي. وفي الولايات المتحدة، رأينا حركة “حزب الشاي”، وتعطيل الرئيس أوباما من قبل مجلس نواب يهيمن عليه الجمهوريون، وهجوم خليفته على الدولة الإدارية.
“تبدو الأمور مختلفة هذه المرّة”، أضاف غانِش. لكنّ هذا الشعور ذاته مكرّر، وقد ورد آخر مثال عنه قبل اندلاع الجائحة بقليل عندما بشّر (بعد كثيرين) جوزيف ستيغلِز، كبير الاقتصاديين السابق لدى البنك الدولي، بـ”نهاية النيوليبرالية”. وقد عنى هو أيضاً أن الأمور باتت مختلفة عندما أكّد أنه “إذا لم تُفلح الأزمة المالية لعام 2008 في جعلنا ندرك أن أسواقاً غير منظّمة لا تصلُح، فإن الأزمة المناخية سوف تُفلح بالتأكيد: لا نبالغ إذا قلنا إن النيوليبرالية تُنذر بإنهاء حضارتنا”.
ومن غير المستغرب بالتالي أن أزمة كوفيد-19 بحدّتها العالية، وإن كانت أهميتها التاريخية أقل بكثير من الأزمة المناخية، قد تسبّبت بظهور العديد من التصريحات الجديدة التي تنعي النيوليبرالية – لكنّها جميعاً، يا للأسف، إعلانات وفاة سابقة لأوانها. وقد اختلط الأمر على أحد أنصار النيوليبرالية المتحمّسين في مقالٍ له في مجلة الأعمال فوربس، حيث ظنّها إعلانات عن وفاة الرأسمالية واشتكى من أن “المثقفين اليساريين مبتهجون”، ولامهم على ما أعتقد أنه شماتة. بيد أنه أقرّ بأن نقد اليسار للنيوليبرالية (الرأسمالية باختصار، حسب فهمه) قد أحرز مزيداً من المصداقية على مرّ السنين، فدعا زملاءه النيوليبراليين إلى “يقظة مضاعفة”:
نجح المناهضون للرأسمالية قبل اثني عشر عاماً في تصوير الأزمة المالية تصويراً خاطئاً وكأنها أزمة الرأسمالية. هذه السردية الزائفة القائلة إن الأزمة المالية نتجت عن فشل السوق وسياسات رفع القيود الاقتصادية قد ترسّخت بقوة في أذهان الناس عموماً. والآن يبذل المثقفون اليساريون قصارى جهدهم من أجل تغيير صورة أزمة الكورونا تبريراً لدعواتهم من أجل دولة عظيمة القوة. ومن سوء الحظ أن فرصهم في النجاح هي حقاً عالية للغاية.
هل كان هذا النيوليبرالي المتحمّس مفرطاً في تشاؤمه بشأن حلول “الدولة عظيمة القوة”؟ ليس تماماً في نظر ديفيد هارفي الذي ختم مقالة مطوّلة له صدرت على موقع جاكوبِن، بتاريخ 20/3، بتوقّع مفاجئ في قتامته – ليس توقّع حلول دولة رفاهية اشتراكية، بل حلول دولة ترامبية عملاقة:
ينتقل عبء الخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية إلى الولايات المتحدة، وهنا تكمن السخرية القصوى: فالسياسات الوحيدة التي سوف تكون ناجعة على المستويين السياسي والاقتصادي هي سياسات أكثر اشتراكية من أي شيء اقترحه برني ساندرز، وبرامج الإنقاذ هذه سوف تبدأ تحت رعاية دونالد ترامب، على الأرجح وراء قناع “اجعل أمريكا عظيمة مرّة أخرى”. وكل الجمهوريين اللذين عارضوا بشدّة خطة إنقاذ عام 2008 سيضطرون إما لبلع كلامهم أو تحدّي ترامب. وإذا كان هذا الأخير ذكياً، سيلغي الانتخابات متحججاً بحالة الطوارئ ويعلن بداية رئاسة امبراطورية من أجل إنقاذ الرأسمالية والعالم من “الشغب والثورة”.
وبعد اسبوع تبع كوستاس لبافيتساس خطى هارفي في مناقضة التفاؤل اليساري غير المبرّر، ولو بسيناريو أقل ترويعاً وبدون أوهام حول نهاية وشيكة للنيوليبرالية:
نُحّيت جانباً وبسرعة تعاويذ الأيديولوجيا النيوليبرالية التي كانت سائدة في العقود الأربعة الماضية، وظهرت الدولة كناظم للاقتصاد تحوز على قوة هائلة. فلم يكن من الصعب على العديدين في صفوف اليسار أن يرحّبوا بإجراءات الدولة هذه، ظنّاً منهم أنها تشير إلى “عودة الكينزية” وفناء النيوليبرالية النهائي. لكنّه من التهوّر أن يصل أحدٌ إلى مثل هذه الاستنتاجات.
فمن جهة، كانت الدولة القومية دائماً في قلب الرأسمالية النيوليبرالية، تضمن السلطة الطبقية لكتلة الشركات والمؤسسات المالية المهيمنة من خلال تدخّلات انتقائية في اللحظات الحرجة. علاوة على ذلك، جاءت هذه التدخّلات مصحوبة بتدابير سلطوية قوية وحجر الناس داخل منازلهم بالجملة وإغلاق مدن عظمى… فعلى سبيل المثال، قد ينتج عن القوة الهائلة التي تسفر عنها الدولة وقدرتها على التدخّل في الاقتصاد والمجتمع نمطٌ أكثر سلطوية من الرأسمالية المنضبطة، تكون فيه مصالح كتلة الشركات والمؤسسات المالية هي الاعتبار الأعلى.
نقف مرّة أخرى في مواجهة القطبين المتضادين اللذين يشكّلهما التفاؤل والتشاؤم، اليوتوبيا وعكسها الديستوبيا، اللذين طالما تأرجح اليسار الجذري بينهما. وفي الحقيقة، فإن ذلك التأرجح ناجمٌ بصورة رئيسية عن اسقاط ميول فردية و/أو جماعية على المستقبل، ميول تتأرجح بدورها بحسب التجارب السياسية المتغيّرة. هكذا تحوّل المزاج في صفوف اليسار الأمريكي تحوّلاً كبيراً بالتأكيد بين عشية “الثلاثاء الكبير” (3/3) وغداته، في أعقاب ضمان بايدن للفوز في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، مثلما تغيّر المزاج في صفوف اليسار البريطاني بين عشية يوم 12/12/2019 وغداته في أعقاب ظفر بوريس جونسون الانتخابي.
يبقى أن اليوتوبيا والديستوبيا مكوّنتان مفيدتان لرؤية العالم اليسارية من حيث إنهما تحافظان على قطبي الجذب المغناطيسيين اللذين يشكّلهما التشاؤم والتفاؤل، الحذر والإرادوية، القلق من عودة الماضي الفاشستي، من جهة، والأمل بمستقبل ديمقراطي واشتراكي حقاً، من الجهة الأخرى، وهما القطبان اللذان يحفزان اولئك الساعين وراء تغيير العالم لجعله أفضل وأكثر عدالة. لكنّ النقطة التي يستقرّ عليها المؤشر في العالم الحقيقي وفي نهاية المطاف، على المسافة الطويلة الفاصلة بين اليوتوبيا والديستوبيا، لا تحدّدها الظروف الموضوعية. فهذه الأخيرة لا تشكّل سوى المعطيات التي تتحرّك ضمنها الصراعات الطبقية والتقاطعية. فما يحدّد التحولات الرئيسية في مجال السياسات الحكومية هو في المقام الأول الصراع الاجتماعي في سياق الظروف القائمة.
وهنا تحديداً مكمن الخطأ في قول ميلتون فريدمان. فعندما تقع الأزمة، لا ترتهن “الإجراءات التي يتم اتخاذها بالأفكار المتداولة في حينها”. طبعاً، لا شكّ في أن الصراع حول افكار مترجمة الى مقترحات سياسية ملموسة هو أمر هام. ولا شكّ في أن التدابير الاقتصادية والسياسية التي يجري تطبيقها في نهاية المطاف مرتبطة بالأفكار التي تسود – ليس في المجتمع عموماً، بل وسط الجماعة الاجتماعية التي تسيّر دفة الحكم. غير أن التشابه بين التحوّل من الإجماع الكينزي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية إلى النيوليبرالية وبين ما دعاه توماس كون “تحوّل النموذج الفكري” ينتهي عند هذه النقطة. فخلافاً للثورات العلمية التي هي محصّلة تقدّم في المعرفة، ليست تحوّلات النماذج الفكرية الاقتصادية نتاجاً لقرار فكري جماعي ما، أكان نظرياً أو براغماتياً وحسب.
فكما كتب ارنست ماندل سنة 1980، في مستهلّ العصر النيوليبرالي، في كتابه الموجات الطويلة في التطور الرأسمالي:
إن التحوّل في الاقتصاد الأكاديمي نحو الثورة المضادة المعادية للكينزية لم يكن اعترافاً متأخراً بالمخاطر طويلة الأجل للتضخم النقدي الدائم. فهذه المخاوف كانت معروفة تماماً لمدّة طويلة قبل فقدان الكينزية لهيمنتها بين المستشارين الاقتصاديين للحكومات البرجوازية والإصلاحية. ولم يكن ذلك التحوّل حتى نتيجة لتسارع التضخم الذي لا مناص منه… كان في جوهره نتاجاً لتحوّل أساسي في أولويات الطبقة الرأسمالية في الصراع الطبقي.
إن “الثورة المضادة المعادية للكينزية” التي قادها أتباع المدرسة النقدية في حقل الاقتصاد الأكاديمي ليست سوى التعبير الأيديولوجي عن هذا التغيّر في الأولويات. فبدون استعادة طويلة الأمد للبطالة الهيكلية المزمنة، وبدون استعادة “الشعور الشخصي بالمسؤولية ” (أي بدون تخفيضات حادة في الضمان الاجتماعي والخدمات الاجتماعية)، وبدون سياسات تقشّفية معمّمة (أي تجميد أو تخفيض المداخيل الحقيقية)، لن تكون هناك استعادة حادة وسريعة لمعدّل الربح: هذه هي الحكمة الاقتصادية الجديدة. ليس فيها الكثير مما هو “علمي”، بل فيها الكثير مما يتوافق مع مصالح الطبقة الرأسمالية الآنية وبعيدة المدى، مهما تحجّجت بالعلم الموضوعي.
ما سمح بتحوّل النموذج الفكري في اتجاه النيوليبرالية هو التدهور المطّرد في موازين القوى الطبقية في البلدان الغربية خلال السبعينات، مع ارتفاع البطالة منذ ركود سنوات 75-1973 والهجمات التي قادها بنجاح رونالد ريغان ومارغريت تاتشر على الحركة العمالية في بداية الثمانينات. فإن الدرجة التي بلغها تطبيق “الثورة المضادة المعادية للكينزية” في هذا البلد أو ذاك منذ ذلك الحين لا تعتمد على فروقات فكرية، بل على موازين القوى الاجتماعية في كل بلد. لتبيان ذلك في ضوء مثال الصحة العامة المناسب للظروف الراهنة، تكفي مقارنة بريطانيا وفرنسا، وهما بلدان يتساوى فيهما تقريباً عدد السكان والناتج المحلّي الإجمالي.
إن التكاليف الصحية متشابهة في كلا البلدين، بعيدة عن التكاليف الباهظة التي تضخّم الإنفاق الصحي الأمريكي. فإذا أخذنا كمؤشر متوسط تعويضات الأطباء السنوية، وجدناها تعادل حالياً (بالدولار ألأمريكي) 108 آلاف دولار في فرنسا، و138 ألف دولار في بريطانيا (مقارنة مع 313 ألف دولار في الولايات المتحدة). ويحصل الممرّضون المتخصّصون في فرنسا والمملكة المتحدة على رواتب سنوية متساوية في المتوسط. هذا وقد جرى انتقاد الحكومات النيوليبرالية المتعاقبة في فرنسا لمحاولتها تحويل جزء من الإنفاق الصحي إلى المرضى، ومع ذلك تظل فرنسا في وضع أفضل بكثير من المملكة المتحدة فيما يتعلق بالصحة العامة.
فوفقاً لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تراوح الإنفاق الصحي من قبل الحكومة والضمان الإلزامي خلال العقد الماضي بين %8.5 و%9.5 من الناتج المحلّي الإجمالي في فرنسا بمقابل %6.9 و%7.8 في بريطانيا. ومن عام 2010 إلى عام 2017، خصّصت فرنسا في كل عام 0.6 إلى 0.7 ٪ من ناتجها المحلّي الإجمالي للاستثمار (تكوين رأس المال الإجمالي) في نظام الرعاية الصحية، مقابل %0.3 إلى %0.4 في المملكة المتحدة. لذلك، ليس من المستغرب أن يكون عدد المستشفيات في عام 2017 أكثر من 3000 في فرنسا بمقابل أقل من 2000 مستشفى في المملكة المتحدة، وقد بلغ إجمالي عدد أسرّة المستشفيات حوالي 400،000 في فرنسا مقارنة بما يناهز 168،000 في المملكة المتحدة. هذا الرقم الأخير استمرّ في الانخفاض في المملكة المتحدة على مدى العقد الماضي في ظل حكومات بقيادة حزب المحافظين. أما عدد الأطباء فقد كان أكثر من 211،000 في فرنسا عام 2017 مقابل 185،700 في المملكة المتحدة. وكان هناك 10.8 ممرّضين ممارسين لكل ألف نسمة في فرنسا مقارنة بـ 7.8 في بريطانيا.
تُظهر هذه الأرقام كم كانت حملة “بريكسيت” التي قادها بوريس جونسون منافقة ومخادعة في استخدام “هيئة الخدمات الصحية الوطنية” (NHS) كحجة مركزية، وإلقاء اللوم هكذا على الاتحاد الأوروبي فيما يتعلّق بحالة النظام الصحي البريطاني الرديئة. بيد أن الاختلاف في حال الصحة العامة في فرنسا والمملكة المتحدة لا يرجع إلى اختلافات أيديولوجية بين الحكام على جانبي القناة. بل إن المقاومة الاجتماعية الأكبر بكثير في فرنسا، ولا شيء سواها، هي ما منع الحكومات الفرنسية المتعاقبة من المضي قدماً على الطريق النيوليبرالي.
أما في المملكة المتحدة، فحيث لم يكن بالإمكان خصخصة المرافق العامة بالجملة لأسباب انتخابية أو اقتصادية – مثلما تمكّن المحافظون من فعله في قطاعي المواصلات والطاقة – تم اللجوء إلى أساليب مختلفة، قوبلت بمقاومة محدودة جداّ. في مجال الصحة العامة، جرى تخفيض الإنفاق العام مع حثّ الشرائح الأغنى من السكان على الخروج من نظام الصحة العامة نحو مناهج صحية خاصة، من أجل الدفع بشكل تدريجي نحو نظام صحي ذات مستويين على غرار ما هو قائم في الولايات المتحدة. وفي مجال التعليم العالي، جرت خصخصة الطرُق الإدارية من خلال التعويض عن التمويل العام بزيادة كبيرة في الرسوم الدراسية، بما أدّى إلى خلق جيل يدخل سوق العمل مثقلاً بالديون كما هي الحال في الولايات المتحدة.
كذلك فإن نتائج الأزمة الاقتصادية الحالية المتعلقة بالجائحة ستُحدّدها في كل بلد موازين القوى الاجتماعية المحلية في سياق الموازين العالمية. والنتيجة الأكثر ترجيحاً لن تكون أحد البديلين المتضادين القائمين على تخلّ تلقائي “ما بعد كينزي” عن النيوليبرالية أو “دولة ترامبية عملاقة”. بل الأرجح هو أن تحاول الحكومات النيوليبرالية تحميل عبء المديونية الهائلة التي يجري تكبّدها حاليا على كاهل العمال، مثلما فعلت في أعقاب الركود الكبير خلال العقد المنصرم، بما سوف يؤدّي الى انخفاض قدرة الناس الشرائية وتراجع ميلهم للإنفاق، وبالتالي دفع العالم إلى تفاقم كبير للركود طويل المدى، حذّر منه المؤرخ آدم توز.
وقد خلص توز إلى القول بحق: “من المنطقي أن ندعو بدلاً من ذلك إلى حكومة أكثر نشاطاً ورؤية لقيادة الاقتصاد نحو الخروج من الأزمة. لكن السؤال بالطبع هو الشكل الذي سيتخذه ذلك والقوى السياسية التي ستتحكم به”. هذا هو السؤال بالفعل. ومع حيواتنا المهشّمة بفعل الأزمة المزدوجة الجارية واحتمال استمرار الأزمة الاقتصادية لفترة أطول بكثير من عمر الجائحة، فإن الصراع سوف يدور بسرعة حول تحديد من سوف يدفع ثمن الكلفة البشرية والاقتصادية العظيمة للأزمة: أولئك المسؤولون في المقام الأول عن تضخّم تلك الكلفة من خلال عقود طويلة من التفكيك النيوليبرالي لقطاع الصحة العام ودولة الرفاهية وتقديم الأرباح المالية على أي اعتبار آخر، أم بقية الناس، أي غالبية السكان العظمى؟
يمكننا أن نتوقع بثقة أن النيوليبراليين سوف يُجمعون على زيادة الإنفاق العام على الصحة، مع تأكّدهم من إفادة أصدقائهم من الرأسماليين العاملين في هذا القطاع. سيقومون بذلك ليس نتيجة تحوّل مفاجئ في قناعاتهم نحو الإيمان بفضائل دولة الرفاهية، أو لأنهم حريصون على الجمهور، بل لأنهم يخشون العواقب الاقتصادية لجائحة جديدة أو لجولة ثانية من الجائحة الراهنة. المشكلة هي أنهم سيميلون بشكل طبيعي إلى القيام بذلك على حساب مرافق اخرى من المصلحة العامة كالتعليم ومعاشات التقاعد وتعويضات البطالة، وإلى جعل المأجورين يدفعون – من خلال اجراءات مثل تجميد الأجور وحتى تخفيضها – كلفة إعادة الاقتصاد إلى العمل كالمعتاد.
لذلك فإن النضال الأكثر إلحاحاً هو لمنعهم من القيام بذلك بذات الطريقة التي وقف بها العمال الفرنسيون ضد هجوم حكوماتهم النيوليبرالية على مداخيلهم ومناهج تقاعدهم في عامي 1995 و2019، أي باللجوء إلى الإضراب العام أو التهديد به. وستكون هذه المعركة حاسمة في تمهيد الطريق لهزيمة النيوليبراليين على أيدي قوى اجتماعية وسياسية كتلك التي وقفت وراء الحركة النقابية في فرنسا، وحزب العمال في المملكة المتحدة، وحملة ساندرز في الولايات المتحدة. عندها فقط سيحدث إنهاء دائم للنيوليبرالية.
هذا المقال صدر أولاً باللغة الإنكليزية بتاريخ 24/4/2020 على موقع مجلة New Politics حيث توجد روابط المراجع التي استند إليها. وقد نقله إلى العربية أمجد صاحب بمعونة ديغول عديلي، وقام جلبير الأشقر بمراجعة الترجمة.