1. في الاقتصاد السياسي للهيمنة
ساد تعبير “الاقتصاد السياسي” (political economy) عند بداية تطوّر ما درجت تسميته لاحقاً “علم الاقتصاد” (economics)، حيث أشارت التسمية الأصلية إلى دراسة الشؤون الاقتصادية في علاقتها بسياسة الحكومة وقراراتها، أي ما غدا يُشار إليه وفق التسمية الجديدة بتعبير “الاقتصاد الكلّي” (macroeconomics) لتمييزه عن “الاقتصاد الجزئي” (microeconomics) الذي يهتم بتسيير المنشآت. وقد أخذت التسمية الجديدة تسود منذ أواخر القرن التاسع عشر في مرحلة تاريخية شهدت ذروة الإيمان بأن شتى الأمور الاجتماعية يمكن إدراكها وحلّها علمياً على غرار الأمور الطبيعية. كما أفصحت التسمية عن رغبة في تحييد التحليل الاقتصادي عن النقد الاجتماعي الجذري الذي صاغه كارل ماركس في مؤلفه الكبير الذي صدر جزؤه الأول في عام 1867، والمقصود بالطبع كتاب “الرأسمال” (أو “رأس المال” كما عُرف بالترجمة العربية الرائجة) الذي حمل عنواناً فرعياً هو “نقد الاقتصاد السياسي”.
لم يكن قصد ماركس من عنوانه الفرعي نقد تعبير “الاقتصاد السياسي” بحد ذاته، بل نقد نظريات الاقتصاد السياسي الشائعة في زمنه. والحال أن الاقتصاديين التقدميين والماركسيين يتميزون اليوم بمواصلة استخدامهم للتعبير الأصلي، فيتحدثون عن “الاقتصاد السياسي” بينما يتحدث عن “علم الاقتصاد” زاعمو فصل الاقتصاد عن السياسية، ولاسيما أصحاب النظرة التكنوقراطية الذين يدّعون الاعتلاء فوق الصراعات الاجتماعية والسياسية وينادون بأسطورة حكم “الخبراء”. فيدحض التقدميون والماركسيون هذا الادّعاء على أنه تضليلي، شأنه في ذلك شأن سائر عناصر الأيديولوجيا البرجوازية التي تجهد لطمس الفروقات الطبقية والإيهام بحرصها على “المصلحة العامة” أو “الوطنية”.
هذا وثمة قول مأثور لفلاديمير لينين، مؤسس الدولة البلشفية، في معرِض ردّه في عام 1922 على اقتراح دعا إلى التمييز بين “مكتب سياسي” و”مكتب اقتصادي” في قيادة الدولة، عندما أكّد: “إن السياسة هي اقتصاد مركّز”. وقد عنى بقوله هذا أن الأمور الاقتصادية سياسية بامتياز وأن السياسة هي خلاصة الاقتصاد إذ ترتهن به وتتحكّم بمصيره. هذه الفكرة الديالكتيكية (من حيث إشارتها إلى التواصل النوعي بين ظاهرتين تبدوان وكأن بينهما حاجزاً مُحكماً) في وصف السياسة تُحيلنا بدورها إلى فكرة ديالكتيكية أخرى أكثر شهرة بكثير، هي التي عبّر عنها في القرن التاسع عشر المنظّر العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز في مؤلفه المعروف “عن الحرب”، حيث وصف الحرب بأنها “مواصلة للسياسة بوسائل أخرى”. وهكذا تكتمل لدينا معادلة طريفة وعميقة المغزى: “إن الحرب مواصلة للسياسة التي هي اقتصاد مركّز.”
فلننظر في أمر الصهيونية على ضوء هذه المعادلة. تقتضي السياسة الصهيونية بطبيعتها مواصلة حربية، مثل أي مشروع استعماري يرمي إلى الاستيلاء على أراضي شعب آخر. فالحرب في حال الصهيونية ليست خياراً بين خيارات أخرى، بل هي مكوّن عضوي لا يتحقق المشروع الصهيوني بدونه. حتى أن الحرب ليست مرحلة عابرة في تحقيق هذا المشروع، بل هي مكوّن دائم إذ تقوم الصهيونية بصورة مستديمة على فرض هيمنتها بقوة السلاح على أرض فلسطين السليبة وعلى شعبها. فالحرب إذاً ملازمة للصهيونية بالضرورة، ولذا لا سبيل إلى سلام حقيقي ودائم على أرض فلسطين سوى بإنهاء المشروع الصهيوني بوصفه مشروعاً يقتضي صيانة دائمة لدولة استعمار استيطاني وتمييز عنصري.
فلنُدخل الآن العامل الاقتصادي في المعادلة: إن السياسة الصهيونية تكثيفٌ للاقتصاد الإسرائيلي بمعنى أن هذا الأخير هو مسخّر من حيث الأساس لخدمة المشروع الصهيوني. وكما وصفها وصفاً صائباً، ومنذ زمن طويل، يساريون يهود إسرائيليون مناهضون للصهيونية، فإن الدولة الصهيونية “جيش لديه دولة” بدل أن تكون “دولة لديها جيش”. وبالتالي فإن المجمّع الصناعي-العسكري-الأمني هو للدولة الصهيونية بمثابة العمود الفقري الذي تلتفّ كافة النشاطات الأخرى حوله ويتفرّع منه معظمها. هكذا تكتمل المعادلة الخاصة بالصهيونية في أنها مشروع سياسي تُشكّل الحرب امتداداً طبيعياً له، ويُسخّر الاقتصاد لخدمة جوهره الحربي.
2. في الاقتصاد السياسي للتحرّر
قام مشروع التحرّر الفلسطيني كما تجسّد إثر الهزيمة العربية في عام 1967 على غاية مزدوجة هي تحرير الأرض وتحرير الإنسان. وقد تبنّت غالبية فصائل المقاومة الفلسطينية المسلّحة التي تطوّرت بعد الهزيمة، تبنّت المبدأ القائل إن تحرير الأرض شرطٌ لتحرير الإنسان. أي أن هذه الفصائل نادت بتأجيل “تحرير الإنسان”، بما في ذلك تحرّر العمّال من الاستغلال الرأسمالي وتحرّر النساء من الاضطهاد الذكوري، إلى أجل بعيد يشترط بلوغه “تحرير الأرض” أولاً، بمعنى القضاء على الدولة الصهيونية.
من هذا المنظور، فإن المعادلة المذكورة أعلاه تتجلّى في صدد التحرّر الفلسطيني على النحو التالي: إن الحرب، أي المقاومة المسلّحة، استمرار طبيعي لسياسة التحرّر بمعناه الضيق المحصور بالأرض دون سواها، وتقتضي هذه السياسة بالتالي اقتصاداً مسخّراً لغرضها الأساسي. أما تبعات هذا المنظور فهي أن المقاومة الفلسطينية المسلّحة سعت وراء الحصول على المال، “عصب الحرب”، من أي مصدر أتى، مع القبول بالشرط الملازم لأي تمويل توفّره أنظمة استبدادية، ألا وهو السكوت عن طبيعتها الاستبدادية، بل ومدحها مع المساهمة في إيهام الناس بأنها حريصة على تحرير فلسطين وعلى مصير شعبها.
وقد أثبتت التجربة التاريخية عقم منظور “الأرض قبل الإنسان” هذا، إذ قاد إلى الارتهان بأنظمة استبدادية ما لبثت، على اختلافها، أن طعنت المقاومة الفلسطينية في ظهرها. وكانت النتيجة في نهاية المطاف إخفاقاً في تحرير الأرض تحريراً فعلياً، مع تحوّل كبرى منظمات المقاومة المسلحة إلى جهاز أمني تابع للاحتلال الصهيوني، يرعى مجتمعاً فلسطينياً تشوبه عيوب الاستغلال الطبقي والاضطهاد الجنسي والقهر السياسي تحت إشراف سلطة بالغة الفساد، بينما ساد في قسم آخر من أرض فلسطين مشروعٌ سياسي يقتصر على “تحرير الأرض” دون سواها وينبذ بشدة “تحرّر الإنسان” بمعنيي التحرّر الطبقي والجنسي، متذرّعاً بالدين على غرار سائر أنظمة التزمّت الديني.
ويبلغ التباين أقصاه بين هذا الإخفاق التاريخي والنجاحات الباهرة التي أنجزتها حركات التحرّر التي اعتنت بالجمع بين كفاح تحرير الأرض ونضالات التحرّر الطبقي والتحرّر الجنسي، بما أتاح لها تعبئة طاقات الشعب بأعلى المستويات، وأعظمها في التاريخ الكفاح البطولي الذي خاضته حركة التحرّر الوطني الفيتنامية ضد الاستعمار الفرنسي ومن بعده الاحتلال الأمريكي.
هذا ونظراً لصعوبة التحرّر الفلسطيني الفائقة، من حيث إنه يواجه عدواً استيطانياً يفوق الشعب الفلسطيني عدداً على أرضه التاريخية ضمن “الخط الأخضر” (الحدود السابقة لحرب 1967)، ويعادله عدداً لو أخذنا كافة الأراضي الواقعة بين البحر والنهر في الحسبان، فضلاً عن التفوّق العظيم الذي يحوز عليه هذا العدو بالقدرات العسكرية (مهما ادّعت بعض جماعات المقاومة الفلسطينية وهي تنسخ تقاليد الفخر العنترية التي اشتهرت بها الأنظمة القومية العربية قبل هزيمتها، ومنها على سبيل المثال صواريخ “الظافر” و”القاهر” التي وعدت مصر الناصرية أنها سوف تحرّر بها فلسطين)، نظراً لكل ما سبق ذكره لا بدّ للتحرّر الفلسطيني، أكثر من أي كفاح آخر ضد نير أجنبي، من أن يعوّض عن ضعفه العسكري النسبي بتفوّق معنوي يتيح له تحقيق غايتين أساسيتين: تعبئة قصوى لكافة طاقات الشعب الفلسطيني، وشقّ صفوف المجتمع الإسرائيلي بسلخ أكبر عدد ممكن من أفراده عن الصهيونية وكسبهم إلى تأييد مشروع تعايش سلمي على أساس المساواة السياسية والاجتماعية.
وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، لا بدّ لمشروع التحرّر الفلسطيني من أن يسعى وراء “تحرير الإنسان” على المستويين الطبقي والجنسي بأعلى درجة ممكنة قبل تحرير الأرض ومن أجل تحريرها، بمعنى أنه لا بدّ من أن يتحرّر المجتمع الفلسطيني ويحقق قدراً عالياً من المساواة بشتى أوجهها داخل صفوفه قبل أن يحرّر أرضه وكي يستطيع تحريرها وإنجاز المساواة بين العرب واليهود عليها. لذا ينبغي على معادلة التحرّر الفلسطيني أن تغلّب السياسة، أي سياسة التحرّر بكافة أصنافه بما فيها التحرّر الطبقي والتحرّر الجنسي، على الحرب (الكفاح المسلّح)، التي لا بدّ من أن تعود بالتالي إلى نصابها بوصفها “مواصلة للسياسة بوسائل أخرى” حسبما تقتضي الحاجة الدفاعية والسياسية، بدل جعل الحرب مبدأً أولياً دائماً ورئيسياً من منطلق التوهّم بالقدرة على تحرير الأرض بالقوة.
فلا بدّ إذاً من استراتيجية سياسية تحرّرية للكفاح الفلسطيني تقوم على تشخيص موازين القوى وسُبُل تغييرها من خلال إنجاز تعبئة قصوى لطاقات الشعب الفلسطيني، بنسائه ورجاله، وتوفير شروط صموده الاقتصادية. وهذا يقتضي إزاحة السلطتين الاضطهاديتين اللتين قامتا في الضفة الغربية وقطاع غزة وإحلال قيادة وطنية تحرّرية موحّدة محلّهما. هذا أيضاً شرطٌ لا بدّ منه للتمكّن من شق المجتمع اليهودي الإسرائيلي، وتصعيد الضغط على الدولة الصهيونية من خلال حملة “المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات”، وتوسيع دائرة نبذ العدوانية الإسرائيلية والتعاطف مع الشعب الفلسطيني داخل الدول الداعمة للمشروع الصهيوني بغية قطع امدادات هذه الدول لآلة الحرب الصهيونية.
يستند هذا النص إلى ملاحظات ختامية أُلقيت يوم 2/10/2021 في الجلسة الأخيرة من المؤتمر السنوي الذي ينظمه “معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان” في جامعة بيرزيت. كان عنوان المؤتمر لسنة 2021 “الاقتصاد السياسي للهيمنة والتحرر في فلسطين”. وسوف يُنشر هذا النص مع سائر المساهمات التي جرى تقديمها في المؤتمر في كتاب سوف يصدر في صيف 2022.