فِي ظل أزمة الاحتجاجات في أميركا على خلفية قتل الشرطة للإفريقي أميركي جورج فلويد، عادَ سؤال السواد والبياض إلى الواجهة مُجددًا، وكيف يمكننا أن «نتضامن» بشكلٍ صحيح، وكيف يمكننا أن نتحدث عن قضية شائكة مثل هذه دون أن نتسبب في إساءة غير مقصودة أو كيف حتى يمكن لشخص من داخل الوسط نفسه، أن يتحدث أو أن يكتب دون أن يسيء إلى عرقهِ، وهو في الأصل يحمل نيةً طيبة.
في عام 1784، نُشِرت مقالة في الدورية الشهرية لبرلين (Berlinische Monatsschrift) تحت سؤال «ما التنوير؟»، حينّها ردّ إيمانويل كانط بمقالة مُعرِّفًا التنوير: «خروج الإنسان من حالة عدم النضج التي فرضها على ذاته (أي) عدم القدرة على استخدام عقله دون إرشاد وتوجيه من الآخرين […] لذلك فشعار التنوير سيصير: فلتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك»، وفي أثناء المقالة، يدفع كانط «القِلَّة» للتفكير بذاتها لتحرير نفسها من حالة عدم النضج ولنشر روح الاحترام العقلاني، واصفًا إياها الباب الأول نحو الحُريّة، ويؤكد كانط أنه لا طريق إلى التنوير إلا عبر حُرية العقل التي تسمح للمرء باستخدام عقله في مُخاطبة الجمهور. هذه الحُرية العقلية التي يتحدث عنها كانط، تكون بمعزل عن الأغلال على العقل، وأكبر هذه الأغلال، غُلّ اللغة، فكيف ستكون لديك حُرية العقل إذا كانت لغتك التي تستخدمها خاضعة لنظام هَيمنة مثلًا من الآخر؟ أو لُغة مُسْتعمَرة أو حتى لغة المُستعْمِر التي شكّل بها صورتك لديه والطريقة التي يُعرفّك بها؟
بقي البشر في المُستعمرات الأوروبية لقرونٍ يُحاربون الاستعمار بقوة السلاح والسلاح فقط، ولكنهم لم يتمكنوا من فعل ما يريدون تحقيقه، وهو الوصول إلى درجة المُسْتعمِر، وليس الوصول هنا اقتداءً، وإنما حالة يتمكنون فيها من الوقوف له ندًا بند، ولكن تلك الجهود لم تُسفِر إلا عن قوة عسكرية قدرت في بعض الأحيان على إخراج الغريب من البلاد تاركًا وراءه إرثًا من الفساد والخراب والاستعمار الثقافي الذي يحتاج عملًا جهيدًا للتخلّص منه. ولكن ما حَصل فِي القرن المَاضي، قلب المَوازين إلى حدٍ ما، فمع تفجّر حركة الحقوق المدنية في الولايات المُتحدّة الأميركية، وبداية حروب التحرير في الدول الإفريقية، ونشاط المُفكرين والكُتّاب من المُستعمَرات في المدن المتروبولية، خصوصًا في أقسام الدراسات المناطقية، والدخول في الوسط الذي يسمح لهم بالقراءة والتفكير باللغة الجديدة وإنتاج المعرفة أولًا عن أنفسهم (الوعي بالذات)، ثُم عن المُستعمِر/المُستشرِق/المُضطَهِد/المُهيْمِن، متبوعة لاحقًا بكثير من الثورات الصغيرة والكبيرة للأقليات في العالم أجمعْ.
من بين أهم حركات التُحرر وأكثرها دراسة، هي حركة الحقوق المدنية للأفارقة الأميركيين في الولايات المُتحدّة، حيث شهدت هذه الحركة عملية تطور تاريخية فِي عدة ميادين، أهمها: النظام اللغوي، وانطلقت مِن الخضوع للنكران ثم المُساءلة ثم المُساومة ثم المقاومة إلى أن حقّقت ما حققّت من انتصارات كثيرة، وما زالت حتى يومنا هذا. يقع جُل تَركيزي في هذه المقالة على أهمية اللغة بنظامها فِي عملية استيعاب وتشكيل الهُويّة الخاصة فرديًا ومُجتمعيًا، فدائمًا كانت اللغة «حلبة بنيوية تحدث فيها صراعات، تُبنى هويات وأخرى تُفكّك، تُصقل تركيبات جَديدة، وتُقوّى القائمة، وتُهدم الأخرى».
في ورقتها الشهيرة «Playing in the Dark» حاولت توني موريسون تناول إشكالات استخدام اللغة أو الكتابة داخلها أو حتى القراءة فيها، حين لا تكون هذه اللغة نفسها تُعطي اعتبارًا أو وجودًا للآخر بوصفهِ إنسانًا قويمًا أي بمعنى آخر «لغة قمعيّة».
ولا تكون استخدامات هذه اللغة القمعية فقط في إطارِ إهانة الآخر، بل قد تكون في إطار مديحهِ، ولكنها ما تفتأ تقع في فخ الصور النمطية والألفاظ العنصرية. فمثلًا، تتحدث موريسون عن الروائية الفرنسية ماري كاردينال، والتي ولدت في الجزائر، وكتبت سيرتها الذاتية (The Words to Say It) وتحدثت عن قيمة «السواد»، وكيف أن استماعها مثلًا لمغنٍ مثل لويس أرمسترونغ قد يدخلها في نوبة ما نوعٍ ما. في هذا السياق بالذات ترد موريسون بأن كاردينال كانت تعمل على رمسنة Romanticizing للسواد (القيمة العنصرية)، بدلًا من شيطنة الفعل (الفعل العنصري)، وأنها كذلك كانت تعمل على تشويه الأبيض، بدلًا من إعادة تعريفه.
هذه الرَمسنة للأسود أو ما هو ليس أبيض، ليس وليد فترة مُعينة، بل توجد مثل هذه الصور عن العرب والسود والشرق وأي رمزية لونية على أنها إشارات إلى شيء روحاني وغريب ومؤثر. وغيرها، وهي ذات الصورة التي يحملها الأبيض عن الشرق الغريب والمثير للدهشة والمليء بالسحر والروحانية، وما فعلته هوليوود أيضًا في تصويرها لبعض الأفلام مثل علاء الدين، بما يبدو ظاهرًا أنه جميل، ولكنه تثبيتٌ للصور النمطيّة عند صاحِب الخِطاب المُهمين أولًا، ثم تثبيت له فِي عقل الأقلية المضطهدة، حيث تبدأ بتصديق ما يُقال عنها، وتعتبره جزءًا من هُويتها.
نقلت موريسون هذا الخوف لديها إلى عالمي القراءة والكتابة، فهي تدرك أهمية الكلمة، وأهمية أن تكتب لجمهور ليس أبيض. جمهور اعتاد أن يكتب له الأبيض. كل كاتب حين يهم في أحد نصوصهِ، فهو يُفكّر بقارئ افتراضي، وليس شرطًا أن يكون التفكير مُباشرًا، ولكن يوجد قارئ افتراضي، يُكتب له النصْ. لسنين عديدة من العبودية، كان القارئ الافتراضي، هو القارئ المسيحي البروتستانتي أو الكاثوليكي الأبيض. حتى عندما كَتب ذوي البشرة السوداء، لم يكن سهلًا عليهم الهرب من هيمنة اللغة، وكتبوا لقارئ افتراضي أبيض.
يرتبط الوعي اللغوي ارتباطًا وثيقًا بالوعي بعملية «إنهاء الاستعمار» Decolonialization، وكان مالكوم إكس من أول من أطلق اسم «الاستعمار الداخلي» على حياة ذوي البشرة السوداء في الولايات المُتحدّة، ودعا في حياتهِ إلى وجود هذا النوع من الهجرة الثقافية الذهنية إلى إفريقيا، حتى تتحرر أذهانهم من الأبيض، وحتى يصير لهم مكانهم ومكانتهم الخاصة كونهم بشرًا، لا ملحقات. نشهد هذا التحول في السيرة الذاتية لمالكوم إكس، فهو في أول حياتهِ كان يطلق على نفسه لفظ «نيغر»، وهي التسمية التي أطلقها عليه الأبيض للإهانة وللتقليل من قدرهِ، وعندما صار واعيًا لهذه اللعبة اللغوية، صار يطلق على نفسه وعلى أصدقائه الآخرين لفظ «الأسود» كضدٍ للأبيض، وطالبَ حتى بقومية منفصلة للسود، ولكن مع تطور وعيه بعملية إنهاء الاستعمار، صار يقول: «نُعلن عن حقّنا على هذه الأرض لنكون رِجالًا… لنكون بشرًا… أن نُحتَرمَ مثل باقي البشر، أن نحصل على حقوقنا مثل باقي البشر في هذا المُجتمع… على هذه الأرض… وهذا ما نسعى نحن إلى تحقيقه اليوم… بأيّ وسيلة ممكنة»، وفي هذه المرحلة الأخيرة من حياتهِ، صار ينادي رفاقه ونفسه بلقب الأفارقة الأميركان (كان أول من استخدم اللقب حسب كثير من المصادر)، أي أنهم جزء من نسيج هذا المجتمع، وتعريفهم لأنفسهم ذاتيًا، وليس ردة فعل، وأنهم سيطالبون بحقوقهم الدستوريّة، ومحاربتهم ستكون للمؤسسة التي تخضعهم وتحاربهم سواء عبر الأنظمة الأكاديمية أو الشرطية أو الحكومية وهلّم جرًّا.
نكاد نرى كلام مالكوم إكس عن التعليم في حياتهِ وعن اللغة وأثرها والخطاب حاضرين قوة في كتابات توني موريسون، وحتى لو لم يكن موجودًا ضمن المراجع، فهو مجود بالأثر وبالتناص التاريخي والثقافي.
تُشير موريسون أنها حينما كتب روايتها الأولى «العين الأكثر زرقة، فإنها كتبتها لأنها أرادت قراءتها، وهي نصيحتها للجيل الجديد عن الكتابة، أن تكتب نصًّا أنت تريد قراءته. هذه اللحظة عندها، عندما صارت واعية أن الخطاب الحالي لا يعبّر عنها بل يضهدها ويجعلها هامشية، هي ذاتها لحظة الوعي المالكومية، وهي ليست حِكرًا على جماعة دون أخرى، فهي اللحظة التي يعي فيها المُضطهَد أنه مُعاصِرٌ لزمن الخِطاب الذي يكتب ضدّه (Coeval)، ويصير فيها عنصرًا فاعلًا في إنتاج المعرفة عن نفسهِ، وعن مُضطهِدهِ ، وهي اللحظة نفسها التي لا يعود استخدام اللغة فيه عفويًا، بل حذرًا ودقيقًا، ويتطلبُ من المرءِ «تعلم كيفية مناورة اللغة بطرقٍ تُحرّرها من توظيفها شبه المتوقع دائمًا والكسول أحيانًا والشرير في بعض الأوقات»، ولا تتوقف النصيحة هنا، بل دعت موريسون إلى اليقظة في القراءة والكتابة وفي استخدام اللغة، لأنه وبالنسبة لها عَملية الكتابة تبدأ من وعي الشخص بالقراءة، أي بوعي الكاتب بوجود قارئ افتراضيّ (كما أشرنا أعلاه)، وحينها عليك أن تكون حريصًا في كتابتك. ما تقوله موريسون هُنا أن الكِتابة والقراءة صنوان لا يفترقان، بمعنى أن الوعي بالإنتاج يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوعي بالتلقّي، فلا تكون مُمارسة الكِتابة/الحديث سهلة وهذا لأنها ممارستهما تنطوي على الحذر والاستعداد لكل مزية يمكن مساءلتها، حيث أن الاستخدام السهل للغة أحيانًا وبساطتها في خيال الكاتب قد يؤديان إلى تخريب المُخيّلة، بأمور غير مقصودة.
وتصر في كتابها أن على الكاتِب أن يسعى جاهدًا لاستخدام المخيلة في إنتاج عملٍ يدعو إلى إعادة قراءتهِ عبر استخدامهِ للغة مرنة وطيّعة، لغة تضع مساحة متوسطة بين الكاتِب والقارئ، باعتبار القارئ عنصر فاعِل في عملية الفهم.
عملت الدول في القرنين الماضيين على تجريم العبودية ووضع قوانين لمحاربتها، قوانين عامّة، ولكن العنف والعنصرية المؤسساتية والمُجتمعية واللغوية (خصوصًا في الولايات المتحدة) بحاجة إلى كثير من العمل، وكثير من الجديّة. يشير هارون خارم في دراسته عن الاستعمار الداخلي للسود: «ما زالت فلسفة تفوّق البِيض وتأثيرها على الأميركان والمدارس العامة قائمة وتُعبِّئ الأطفال بقيم ثقافية وقومية وطنية وأنظمة سياسية واقتصادية ولغوية ودينية تعكس التقاليد الأميركية الأنغلو-بروتستانتيّة»، وهو ما يؤكّد أنّ الحرب ضد العنصرية في ميدان اللغة ما زالت مُستعّرة، إلى أن يتم تحييدها مائة بالمائة، ليصير فيها مُتسعًّا متساويًا للجميع، ويقع على كاهلنا نحن في العالم العربي أن نعمل أيضًا على تحييد لغتنا ضد العنصرية المدفونة في تفاصيل استخدامها الغائبة عنا.