يرتبط مصطلح الواقعية السحرية في أذهان القُراء العرب بمؤلفات الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، على اعتبار أنه أبرز الممثلين لهذا التيار. والمصطلح عموماً يبدو شديد الالتباس في جمعه لمتناقضتين واضحتين. لكن لسببٍ ما تستطيع رواية «طائر الليل البذيء» للمؤلف التشيلي خوسيه دونوسو أن تعبّر عن روح هذا التيّار أوضح تعبير.
تقوم الرواية، الصادرة بترجمتها العربية عن دار المدى في 2017، على حكاية ذات بنية مكتملة، لكن بين نقطتي البداية والنهاية متاهة معقدة تضيّع القارئ مراتٍ كثيرة وتُفقده خيوط القصة. فالكتلة الأكبر من النص تشبه في قوامها الهذيان، لكنه هذيان جماعي، كما لو أن الجميع يتكلم ويرد على الجميع. لذلك لا بد على القارئ أن يبذل جهداً لنسب كل هذيان إلى صاحبه وفصل الوقائع عن خيالات الأشخاص حول أفعال وأقوال كانوا يرغبون بفعلها.
تبدأ الرواية بتصوير واقع الحياة اليومية في «بيت عذراء التجسد» وهو منزلٌ متداعٍ للرياضات الروحية، تقطنه راهبات ونزيلات مسنات ينتظرن موتهن وخمس يتيمات صغيرات. فيما تُروى الوقائع على لسان راوٍ غامض يُلقب بالـ”موديتو” أي الأخرس، والذي يبدو بأنه القائم على تسيّر شؤون النسوة في المنزل، لكن هيئته ورمزيته تتكشّف شيئاً فشيئاً مع تقدم أحداث الرواية.
تعود ملكية المنزل إلى إمرأة موسورة تدعى إينيس وزوجها خيرونيمو، الذي يجسد في الرواية نموذج السلطة البطريركية التي تنشد الكمال والقوة، بحيث يمكن القول تقريباً، أن خيرونيمو هو الرجل الوحيد المكتمل في الرواية مقابل حشدٍ من النساء، ورجالٍ فقدوا قدراتهم الجنسية، ومسوخٍ بهوية جنسية مضطربة. إينس التي فشلت في إنجاب طفل، تبدأ مساعيها لتطويب المنزل في روما، على اعتبار أن تحويله إلى مَعلمٍ مقدس قد يحفظ للأسرة اسمها من الزوال.
تتجلى الخصوصية الحقيقية لهذا العمل الأدبي بأخذه تقنية توظيف الأسطورة الشعبية في مسار الحبك إلى مستوى شديد التعقيد. فإينيس تبحث عن معجزة تتجلى في منزلها وتُنقذه من الهدم، لكنها ذاتها جزءٌ من تلك المعجزة أو تلك الأسطورة، أو إحدى تجلياتها. فالقاطنات المُسنات يرددن في البيت حكاية سيد إقطاعي كان له تسعة أبناء ذكور وابنة أثيرة واحدة تربيها مربية عجوز. ذات عام تنهال مصائب كثيرة على الفلاحين العاملين في أراضيه كما لو أن لعنةً حلت بهم، وتنتشر شائعة بأن طائر الجونجون -وهو طائر خرافي من التراث التشيلي له رأس إنسان- يحوم فوق أراضي الفلاحين ناشراً المصائب، وأن لهذا الطائر وجه ابنة الإقطاعي الجميلة، فيما تلحق به كلبة صفراء تغطي أطرافها الثآليل تماماً كالمربية العجوز. الشائعات التي تصل إلى الأب تجبره على التصّرف، فيبادر إلى قتل المربية العجوز وإلقاء جثتها في البحر، فيما يختار أن يبني ديراً ويحبس فيه ابنته مدى الحياة.
يتخذ المؤلف من هذه القصة البسيطة منطلقاً لبناء عالم سحري وغامض قوامه العلاقة بين الشابات والعجائز، كمعادلات للشباب والكهولة والموت والحياة. بحيث تكون إينيس نفسها امتداداً لتلك الحكاية، وتكون الفتاة في القصة جدتها، أو تكون هي ذاتها في زمنٍ ومكانٍ آخرين. أما منزل عذراء التجسد فهو امتدادٌ مُتخيلٌ أو واقعي لذلك الدير في القصة الشعبية.
هاجس الجنس طاغٍ في النص، وتحديداً فيما يتعلق بالتعبيرات عن الرغبة أو الخوف من فقدان المقدرات الجنسية، بحيث يتضمن العمل الكثير من المشاهد الماجنة لمسوخٍ يشتركون في حفلات جنس جماعية أو عجائز تشتهي رجالاً وسيمين أصغر سناً. ذروة الحكاية أو عقدتها الأساسية تتجلى في مشهد جنسي، بين إينيس وزوجها خيرونيمو، ومربيتها العجوز بيتا وأومبرتو مساعد خيرونيمو، بحيث لا يعرف تماماً من ضاجع من. هي احتمالات مختلفة لاتصال جسدي بين هؤلاء الشخصيات الأربع، بحيث لا يبدو مهماً التدقيق في الحقائق، لأن النتيجة تبقى واحدة، فثمرة هذا الاتصال تكون جنيناً مسخاً.
لمتناقضات: الشابة/العجوز في النص ما يعادلها على المقلب الآخر، فخيرونيمو رمز الذكورة والثراء والسلطة، يُنجب مسخاً، ويقرر ألا يستسلم إلى ذلك باعتباره هزيمة، فيشيد مدينةً كاملة قاطنيها بأكملهم من المسوخ، كي يمسي فيها القبح، المقبول والسائد كنسقٍ طبيعي للجسد البشري. لكن الأدوار تنقلب ويبحث خيرونيمو عن القبول والرضا في هذا العالم بتحويل نفسه إلى مسخ.
في هذا العالم المضطرب كله تكون هوية الأخرس «موديتو» الأكثر تعقيداً في النص، فهو فعلياً بقايا الموظف أومبرتو كاتب الحكاية وراويها، الذي تضاءل شيئاً فشيئاً مع تقدم صفحات العمل. وأمبرتو نقيض خيرونيمو؛ فهو هامشيٌ، فقيرٌ، ومفتقرٌ إلى الجاذبية، لا ينفك يبحث عن المكانة. بحيث يصبح موديتو أومبرتو نصف رجل، أو عجوزاً سادسة، أو ببساطة عشرون مئة المتبقية من كيانٍ ما.
هذا ويضع الكاتب القارئ وجهاً لوجه أمام رمزية المرأة العجوز، والعجوز هنا ليست دائماً الجدّة الضعيفة المُحبة أو القديسة، بل هي أيضاً العجوز الشريرة في قصص الأطفال، هي الساحرة ذات الظهر المنحني والعيون الضيقة والأيدي المُتغضنة. لا يكفي هنا القول بأن لغة العمل الأدبي وصفية، بل هي تفصيلية، ومتدفقة عبر تداعٍ حر مستمر، بحيث يمكن الجزم بأن الكاتب مثلاً لم يترك تفصيلاً جسدياً أو نفسياً مرتبطاً بمظهر العجائز أو رمزيتهن، دون أن يذكره، كما لو أنه يضع قاموساً للأوصاف والطبائع التي تُستدعى إلى الذهن حينما تُلفظ كلمة «عجوز».
تبدو شخصيات العمل أحياناً مجردة إلى درجة كبيرة؛ العجوز، الساحرة، الذكر، الثري، المُهمش، المسخ. ودونوسو لا يقوم بإدخال تفاصيل من أفعالها وحياتها اليومية إلا بالحد اليسير الكافي لتقديم بعض التوضيحات ولإراحة القارئ من جرعة الخيال المكثفة بإعادته إلى ما يشبه الواقع. لكن مقابل هذا التبسيط الظاهري تبقى شخوص العمل شديدة التعقيد. فإيريس مثلاً –إحدى اليتيمات- تتجلى في النص كرمزٍ للخصوبة. هي الباحثة عن اللذة –نصف المعتوهة- التي تضاجع جميع رجال الحي ظناً منها أنهم رجلٌ واحد. حتى تسمح لهم بالاقتراب منها، كان على الرجال أن يرتدوا قناعاً ضخماً مصنوعاً من الورق، وهي أُغرمت بهذا الرأس الضخم دون تدري أن الأجساد وراءه تتبدل يوماً بعد آخر.
النص بهذا المعنى مُثقلٌ بشحنات بصرية عالية. فخوسيه دونوسو لا يضع حدوداً أمام مخيلته، ولا يُخضعها لمعايير الصح والخطأ، الصحي والمريض، العنيف والمسالم. نقرأ مثلاً كيف تُرضع إيريس إمرأة عجوز، تحملها، وتقمطها، وتغيّر لها لباسها، لأنها تريد التظاهر بأنها لعبتها، أو ابنها الذي تحبل به. ونشاهد كيف تنقب العجائز إحدى باحات المنزل باحثات في حطام تماثيل القديسين عن أصابع وعيون ومزق عباءات مهترئة يَصنعنَ منها قديساً خاصاً بهن، وأكثر تشبّهاً بهن.
يبرز التكرار أيضاً كإحدى السمات المميزة للغة التي كُتب فيها النص، فهذا القوام الهذياني للجمل القصيرة المُعادة، يمنح للنص هويته، لكنه وفي ذات الوقت يهدد أحياناً بإضعافه وتشتيت انتباه القارئ. كما لو أن خوسيه دونوسو يمسي في بعض اللحظات أسير أسلوبه الخاص في الكتابة، بحيث يبيت غير قادرٍ عن الخروج منه، حتى وإن أدى ذلك للمخاطرة بفقدان المعنى وكسر إيقاع النص.
رغم هذا الإيحاء بالتكرار، يبقى هناك مقاطع نثرية متفردة وصادمة في قدرتها على كشف عوالم الشخصيات. في أحد المقاطع يكتب دونوسو مثلاً عن العادات الليلية للخادمات المُسنات: “ترى العجائز مُنشغلات، فهن يُخرجن من تحت أسرتهن ومن علبهن الصغيرة الأظافر والمخاط والخيوط المنسولة والقيء والقطن الملطخ بدم الدورات الشهرية لمخدوماتهن، الذي رحن يجمعنه، وينشغلن في الظلمة ليعملن من تلك التفاهات شيئاً شبيهاً بصورة سالبة، لا تعود فقط للمخدومين الذين سرقن منهم التفاهات، بل لكل العالم”.
يحاول خوسيه دونوسو عبر كتابه هذا الانتصار لجميع الكائنات المُهمشة، فهو يعكس هواجسها، وصراعاتها الصغيرة، ويُعبّر بأفضل صورة مُمكنة عن نتائج كل تلك الممارسات العنيفة من التهميش بعد أن تتكدس في أرواح وعقول هؤلاء، متحولة إلى قوة تدميرية عظيمة. فهو يقول بأحسن طريقة ممكنة ماذا يعني أن يعيش المرء على هامش الهامش.