خلال سنتي 1938 و1939 تطورت فكرة في أوساط رجال أعمال أوروبيين بيض في بوتسوانا حول استقدام عائلات يهودية من بعض البلدان الأوروبية التي يتعرض فيها اليهود إلى اضطهاد، للعمل في الأراضي الزراعية الشاسعة غير المُستغلة هناك. لم تكن الفكرة وليدة نزعة إنسانية أو أخلاقية للمساعدة في إنقاذ اليهود بل كانت مدفوعة بأهداف اقتصادية بحتة، إذ كان التفكير يحوم حول استقطاب اليهود المستثمرين وأصحاب الكفاءة الزراعية والشباب والقادرين على الإنفاق على أنفسهم فقط.
المُثير والمُلفت في هذا المشروع الذي لم يُكتب له النجاح أن عدد العائلات اليهودية التي اقترح استقدامها لم يزد على المائتين. ومع ذلك رفض المندوب السامي البريطاني، وليام كلارك، في جنوب افريقيا الفكرة، والذي كانت بوتسوانا تتبع لإدارته. وكان المسوغ الأساسي لرفض المندوب السامي يقوم على أن هذا العدد سوف يعني تغييرا كبيرا في ديموغرافية الأقلية البيضاء في المنطقة المُستهدفة في بوتسوانا (مقاطعة تاتي)، وقد تهدد هذه “الكثرة” اليهودية سمة سيطرة البيض البريطانيين في المقاطعة. في حالة بوتسوانا لم يكن مطروحا إقامة “وطن قومي” كما في حالات أخرى، لكن أهميتها تنبع من الرفض الشديد لها برغم قلة العدد المُقترح استقدامه، وفي مقدار العنصرية البيضاء ضد اليهود، وتفيد في عقد مقارنات مهمة بما كان يحدث في فلسطين في الزمن نفسه.
في تلك السنوات أي ثلاثينيات القرن الماضي، وللمقارنة، كان هناك مندوب سامي بريطاني آخر وفي بلد بعيد عن بوتسوانا، في فلسطين، اسمه هربرت صاموئيل كان قد قضى ما يقارب عشرين سنة منهمكا في زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، التي استقبلت في ثلاث سنوات فقط بين 1933 و1936 أكثر من 174,000 يهودي. وحتى عندما أصدرت بريطانيا ما عُرف بـ “الكتاب الأبيض” سنة 1939 لتهدئة العرب والفلسطينيين وضمان وقوفهم معها ضد المانيا وتركيا عقب اندلاع الحرب العالمية الثانية واعتبره البعض “تنازلا” كبيرا من بريطانيا لأنه فرض قيودا على الهجرة اليهودية، فإن تلك القيود كانت تنص على السماح لـ 75 ألف يهودي للهجرة إلى فلسطين خلال السنوات الخمس التي تلت إصدار الكتاب الأبيض. ويُذكر أيضا هنا أنه في نفس تلك السنة كانت الحركة الصهيونية قد عقدت الاتفاق الشهير مع الحكم النازي في ألمانيا (هعفاراه) والذي قضى بالسماح لهجرة 50 ألف يهودي إلى فلسطين ومعهم مائة مليون دولار من ثرواتهم. ويُذكر أيضا انه برغم قيود الكتاب الأبيض المُفترضة فإن عشرات الألوف من اليهود تمكنوا من الهجرة سرا إلى فلسطين من خلال جهود المنظمات الصهيونية في تلك الفترة. كانت لندن إذن تستمع لمعارضة البريطانيين البيض في مستعمراتها الجنوب افريقية إزاء هجرة مجرد عشرات من العائلات اليهودية خشية تغيير الميزان الديموغرافي للأقلية البيضاء هناك، وفي نفس الوقت تسهر على ضمان هجرة مئات الألوف منهم إلى فلسطين، مُحتقرة شعبها الأصلي وغير عابئة بمصيره ومستقبله.
في تلك السنوات كانت بوتسوانا، ومثل بقية البلدان الأفريقية الجنوبية، تقع تحت حكم التاج البريطاني. وكانت البلد الأكبر والأهم في منظومة “الكومنولث” البريطانية في المنطقة هي جنوب افريقيا والتي تمتعت بنوع من الحكم الذاتي في إطار الكومنولث، بما في ذلك السيطرة على اقتصادها. آنذاك وبحسب دستور ووفق عليه سنة 1906 كانت جنوب أفريقيا تنظر إلى بقية البلدان المجاورة (بوتسوانا، وليسوثو، وسويزلاند) بكونها تابعة لها ويجب أن تُضم إليها في وقت من الأوقات. وللضغط على بوتسوانا للخضوع لفكرة الانضمام هذه، فرضت جنوب افريقيا (المحكومة من الأقلية البيضاء – الافريكانرز) مقاطعة اقتصادية على بوتسوانا وخاصة على تصدير الماشية لسوقها، وهي السوق الأكبر والأهم بالنسبة لبوتسوانا ذات الاقتصاد المُنهك. والمفارقة هنا كمنت في أن الاقتصاد في البلدين كان محكوما بأقليات بيضاء مُتنافسة، بينما الغالبية السوداء سواء في بوتسوانا او جنوب افريقيا لم يكن لها أدنى مساهمة في إدارة بلدانها سواء اقتصاديا ام سياسيا. كانت الوظيفة الأساس التي “خُصصت” للأغلبية السوداء هو اشتغالها كمصدر للعمالة الرخيصة في مزارع ومصانع البيض.
على ذلك، كانت فكرة استقدام اليهود إلى بوتسوانا فكرة البيض أنفسهم، بهدف تقوية اقتصادهم وتمكينهم من البلاد، أي بوتسوانا، وأريد استجلابهم إلى منطقتين على وجه التحديد هما إقليمي تاتي وتولي بلوك، وكلاهما كان قد تم “تطهيره عرقيا” من السود المحليين. وكما كان الحال في جنوب افريقيا وروديسيا، حُشر السود في بوتسوانا في معازل سكانية مزدحمة خاصة بهم، وحُظر عليهم السكن في مناطق البيض، وخاصة في الإقليميين المذكورين الذين كانا خاضعين تحديدا لشركات بريطانية أو افراد وملاك بريطانيين. المهم هنا هو ملاحظة ان قرارا ديموغرافيا كبيراً بشأن البلد مثل جلب مهاجرين يهود من أوروبا كان قرارا أوروبيا أيضا، ولم يُستشر فيه اهل البلاد الأصليين وزعمائهم.
من منظور أوسع، لم يكن يهود شرق أوروبا مُرحب بهم في جنوب افريقيا عموما، ليس فقط في أوساط البيض وهو الأمر المُتوقع، ولكن أيضا من قبل الجالية اليهودية نفسها المستقرة في البلاد والثرية. وسواء في أوساط البيض او أوساط الجالية اليهودية المُترسخة، كانت النظرة العامة ترى أن أولئك اليهود الذين قد يهاجروا من الدول الأوروبية الشرقية فقراء وغير نافعين وغير قابلين للاندماج، وانهم بالاجمال سوف يلوثون “الحضارة الأوروبية في جنوب افريقيا”. وكان الحزب القومي، الممثل للافريكانز البيض من الهولنديين والألمان المان والمعارض للحكومة التي يسيطر عليها الإنكليز، هو رأس الحربة ضد قدوم اليهود. وقد تأثر الحزب بالدعاية النازية خاصة مع صعود هتلر وتبنى موقفها ضد اليهود، وضد هجرتهم إلى جنوب افريقيا، رغم أن أعداد اليهود المهاجرين إليها لم تتعد العشرات في كل عام او المئات في أحسن الأحوال. وبسبب هذه العدائية لليهود في جنوب أفريقيا فقد كان توجيههم إلى بوتسوانا يشكل في نظر بيضها الأمر الأكثر قبولاً.
ظهرت فكرة استقدام مهاجرين يهود إلى بوتسوانا في فبراير 1938 عندما قُدمت اقتراحات إلى المفوض البريطاني المقيم في بوتسوانا، آردن كلارك، بهذا الصدد وتسكينهم في مقاطعة تولي بلوك. وكانت هذه المقترحات تُقدم بتنسيق مع الجمعية الصهيونية في جوهانسبرغ في جنوب افريقيا، والتي اقترحت شراء أراض كل المقاطعة لهذا الغرض. اشترط كلارك ان لا يكون القادمون فقراء وأن يُضمن بأن الأراضي التي سوف يقطنونها سوف تُطور بشكل ملائم. بيد أن الأمر برمته كان لا بد كان لا بد من استشارة المندوب السامي البريطاني في جنوب افريقيا بشأنه وهو الذي لم يتحمس للفكرة كون الأراضي المقترحة لا تصلح لليهود، وبأنها صالحة لتربية الماشية فقط، هذا فضلا عن اعتراضه على العدد “الكبير” المُقترح، كما أشير اعلاه. وعلى الضد من هذه الفكرة جادل مؤيدو الاستقدام بأن الأرض زارعية واليهود سوف يستثمرونها بخبراتهم “المشهودة” والتي تدفعهم للهجرة إلى فلسطين لزراعتها، وانهم سوف يحولون المقاطعة البوتسوانية إلى أرض تدر لبنا وعسلا! كما تعهد أصحاب الفكرة بالحصول على تمويل لها من لجنة صاموئيل روتشايلد في بريطانيا، وكذلك بتعليم وتدريب المهاجرين اليهود على الزراعة والتواؤم مع المنطقة. وعلى العموم فقد تمكنت فكرتهم في نهاية المطاف من ضمان قبول مشروط من قبل المفوض السامي البريطاني في جنوب افريقيا.
وإثر ذلك القبول ازداد حماس اردن كلارك المفوض المقيم في بوتسوانا، وباشر اتصالاته ليس فقط في تولي بلوك، بل وأيضا في المنطقة الثانية، تاتي، التي تخضع لسيطرة تامة لشركة بريطانية (اسمها أيضا شركة تاتي)، وتعمل على استثمار أراضيها. في البداية لم يرحب مدير هذه الشركة بفكرة قدوم يهود إلى المنطقة التي يسيطر عليها، وحامت حول مواقفه شكوك العداء لليهود، خاصة وانه لم يستشر مجلس إدارة الشركة في لندن. وما لبثت فكرة الاستقدام إلى مقاطعة تاتي أن فشلت بعد تراجع المندوب السامي في جنوب افريقيا عن موقفه عندما أخبر بأن عدد العائلات التي يتم الحديث عنه قد يصل إلى المائتين وبمعدل أربعة أفراد للعائلة الواحدة، بما يعني كما أشير أعلاه، إلى احتمال اختلال التركيبة السكانية للأقلية البيضاء في تلك المقاطعة. خلال المفاوضات والتداول حول الفكرة والإعداد، كان مجلس إدارة شركة تاتي في لندن قد استحسن فكرة وجود عدد محدود من العائلات اليهودية (عشر عائلات فقط) لاستصلاح واستغلال 35 هكتار من المنطقة، لكن هذا العدد لم يقنع أصحاب الفكرة على الارض. تحولت الجهود بعد ذلك إلى المنطقة الثاني، تولي بلوك، خاصة وان أراضيها كانت مملوكة من قبل افراد او شركات صغيرة ويمكن اقناعهم بالفكرة، وبسبب المعرفة المسبقة برغبتهم في بيع أراضيهم. وفرت منطقة تولي بلوك مليون هكتار غير مُستغل واعتقد ان بإمكانها ببساطة استيعاب خمسين عائلة يهودية لزراعتها واستثمارها، وعلى ذلك فلم تظهر في الأفق صعوبات واعتراضات قوية على مشروع إقامة مستوطنة يهودية صغيرة هناك.
والمثير في تفصيلات المفاوضات والاستشارات “العابرة للحدود والحكومات” ان رئيسي جنوب افريقيا وروديسيا بالإضافة إلى سياسيي وبيروقراطي لندن انخرطوا في النقاش حول السماح ل “عشر عائلات” يهودية بالقدوم إلى منطقة تالي. وعندما وافقت هذه الأطراف على هذا “العدد” ارفقت الموافقة بشرطين: أن تكون هذه العائلات مؤهلة وقادرة على كسب معيشتها، وان تمتلك رأس المال المناسب. بعد هذه الموافقة تواصلت “شركة تاتي”، الحاكم الفعلي للمنطقة، مع مجلس المندوبين اليهود في جوهانسبرغ للتباحث حول الأرض ومساحتها ومكانها وبعض التفاصيل الأخرى. كان تاريخ هذه الاتصالات شهر آب (أغسطس) 1939، وفي الشهر التالي اندلعت الحرب العالمية الثانية وتوقفت كل تلك الجهود فشل “المشروع”، وكانت رياح الهجرة بعشرات الآلاف قد حُسمت بإتجاه فلسطين التي لم يكن هناك من يُدافع عنها دبلوماسيا وسياسيا كما كان ينبغي في وجه الجبروت الكولونيالي البريطاني والصهيوني.