«بين الجنّة والأرض» لنجوى نجّار… سينما الاكتشافات المختلفة

نديم جرجوره

ناقد سينمائي من لبنان

في جديدها هذا، تُثابر نجوى نجّار في الحفر داخل أروقة الذاكرة والراهن الفلسطينيين، وتتوغّل في أعماق الروح والذات، بحثاً عن مغيَّب أو مبطّن. في هذا، تستعين بلغة سينمائية مبسّطة، تبدو أحياناً كأنّها لعبة فنية في مزج الوثائقي بالروائي، والاكتفاء، بجعل التبسيط ركيزة قصّة ومرويات وتفكيكٍ وتوثيق،

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

10/08/2020

تصوير: اسماء الغول

نديم جرجوره

ناقد سينمائي من لبنان

نديم جرجوره

خلال 19 عاماً، أنجزت الفلسطينية نجوى نجّار 3 أفلام روائية طويلة. التفاوت السينمائي بينها حاضرٌ، لكن الهمّ الفلسطيني ثابتٌ، وتناوله السينمائي التأمّلي (التفكيكي أحياناً)، بأشكالٍ درامية وجمالية مختلفة، ثابتٌ بدوره. القصص كثيرة. المسائل عديدة. فلسطين المحتلّة مُقيمة في تفاصيل العيش اليوميّ لناسها. الاحتلال الإسرائيليّ يظهر في الأفلام الـ3 تلك مُواربة أحياناً، فالأهمّ بالنسبة إلى نجّار كامنٌ في تبيان السردية الفلسطينية، ومناقشتها. لن تُسرف المخرجة في نقد المحليّ، لأنّها معنيّةٌ بتوثيق حكاياتٍ وتساؤلات، وبجعل الصورة السينمائية انعكاساً وأرشفة وتوثيقاً.

فهي، في أفلامها تلك، تُفكِّك شيئاً من المحليّ الفلسطينيّ (“المرّ والرمان”، 2010)، وتعاين التداخل العربي الفلسطيني، وإنْ عبر تشكيل فريق العمل (“عيون الحرامية”، 2014)، وتتجوّل في ذاكرةٍ فلسطينية، بعضها مخبّأ وغير معروف، وبعضها الآخر مكشوفٌ أمام عدستها (“بين الجنّة والأرض”، 2019).

***

المقارنة النقدية بين الأفلام الـ3 غير هادفة إلى أوصافٍ جامدة، ولا إلى تحديد الأفضل أو الأسوأ أو العادي، وهذه تعابير غير نقدية أساساً. الرغبة فيها نابعةٌ من مسار تبنيه نجوى نجّار فيلماً تلو آخر، بهدوء وتأمّل ومثابرة. تسعى إلى فلسطين، لكن الفلسطينيين، كأفراد، حاضرون فهم الأساس والجوهر. تلتقط نبض بلدٍ مُعطّل ومجتمع مضطرب وحياة قاسية، فتكشف الفعل الجُرمي الإسرائيلي من دون التغاضي عن الخلل الفلسطيني في ثقافة عيش وسلوك. تريد لأفلامها أنْ تعكس وقائع، فتضع الكاميرا في قلب النبض، وتُسجِّل واقعاً يتكامل مع قصص شفهية، بعضها غير موثّق. ذلك أنّ الجوانب أساسية كالمتن، والهوامش ضرورية كالجوهر.

تجربة العمل مع فنانين عرب، في “عيون الحرامية” (المصري خالد أبو النجا والجزائرية سعاد ماسي)، اختبار للمشترك بين العرب، الذي يُفترض به أن يتوطّد أكثر فأكثر. ذهابها بعيداً في أحوال اجتماعٍ فلسطيني، في “المرّ والرمان”، تدريبٌ على النبش في المبطّن والمغمور وغير المتداول، كما في لمحات من “بين الجنّة والأرض”. جديدها هذا منبثقٌ من تغييبٍ يعتاد المحتلّ الإسرائيلي ممارسته كي يطمس السردية الفلسطينية. تُضيف قصّة حبّ وزواج معطّلين، فتكون معاملات الطلاق درباً إلى كشفِ بعض المُغيّب، وإلى إظهار شيءٍ من حكاياتٍ وتفاصيل.

***

أوصافٌ عديدة يُمكن سوقها إزاء “بين الجنّة والأرض”. فرغم أنّ القصّة الأصلية منبثقة من رغبة زوجين في الطلاق، إلاّ أنّ شيئاً رومانسياً يتفتّق من العلاقة بينهما، في تلك الرحلة التي يُفترض بها أنْ تُلبّي مطلبهما (الطلاق)، أو مطلب الزوجة تحديداً. والرحلة، إنْ يصحّ التعبير، تقود الزوجين إلى الناصرة، لإتمام معاملة تبدو عادية، قبل انكشاف واقعٍ يتمثّل بأنّ سرّاً مخبّأ يحول دون إتمام معاملة الطلاق، وما على الزوجين إلاّ كشفه لتحقيق المبتغى. بسبب هذا، تتحوّل الرحلة إلى سيرٍ في جغرافيا محتلّة، وإلى سبر بعض تاريخٍ مغيَّب، وإلى مقاربة تأمّلية لاجتماعٍ مرتبك، وإلى نبشٍ في ذاكرة محاصرة براهنٍ مثقل باضطرابات ونزاعات. 

في مقابل هذا كلّه، يمتلك النصّ السينمائي بعض التشويق، المُطعَّم بشيء من تحقيق بوليسي مُخفَّف، فالزوج مُطالب بكشف حقيقة والده، المستشهد في لبنان قبل سنين مديدة، وعلاقته بامرأة يهودية، “ربما” تكون والدته.

لكنّ الأساسيّ في الرحلة معقودٌ على اكتشاف الذات وروحها، وعلى التنقيب في خفايا علاقات مغيّبة بين أركان العائلة الواحدة أحياناً. كأنّ “بين الجنّة والأرض” يسأل عن المُباح في العلاقات بين الناس، وأبرز تلك العلاقات كامنٌ في العائليّ والزوجيّ. ففي جانب منه، يكشف الفيلم فداحة الأسرار المخفيّة، ومدى سطوتها السلبيّة اللاحقة، التي لا بُدّ أنْ تظهر يوماً، فتُطيح بأفكار ومشاعر، وتصنع أفكاراً ومشاعر ربما تكون نقيض الأولى، ما يُسبِّب خراباً في الذات والروح والنظرة إلى الحياة والتفاصيل. ومع أنّ نجوى نجّار غير متوغّلة كثيراً في أعماق تلك المسألة، فإنّ ملامح هذه الأخيرة تتوضّح بين حينٍ وآخر، في مسارٍ حكائيّ يتصاعد في تأزّمه الدرامي، قبل بلوغ مرتبة صفاء ذاتي وإنْ معلّق قليلاً، فالمعرفة تغسل ارتباكات واضطرابات، لكنّها -في الوقت نفسه، أو لاحقاً ربما- تُضيف ارتباكات واضطرابات.

هذا الأساسيّ لن يحول دون تنبّه إلى ما تبغيه نجوى نجّار من تلك الرحلة: اكتشاف المخبّأ (أيضاً) من فلسطين، في حياة فلسطينيين كثيرين. فالعثور على بلدة إيكريت، وما لها من تاريخ وحكايات، جزءٌ من رغبة سينمائية لدى نجّار في التقاط نبض ذاتها الشخصية عند معرفتها بتلك البلدة، وفي تصوير شيء من تلك البلدة وتاريخها وحكاياتها، في إطار الاكتشافات التي تعيشها الشخصيتين الأساسيتين.

***

القصّة تبدو عادية للغاية: سلمى (منى حوا) تريد الطلاق من تامر (فراس نصار). هما متزوّجان منذ أعوام عديدة، لكن عطباً ما يُعطّل الزواج، فتُقرّر المرأة طلاقاً تبتغيه رغم حبٍّ يحضر فيها إزاء تامر، وهذا ينكشف في إحدى لحظات الصفاء بينهما، أثناء بحثهما عن حقيقةٍ تؤجِّل الطلاق، فيُصبح التأجيل (القانوني ظاهرياً، فعلى تامر تقديم المستندات الكاملة عن عائلته كي يحصل الطلاق) أشبه باغتسالٍ يتحقّق في الجغرافيا والعلاقة والروح والبلد والعلاقات.

رغم هذا، يُشكِّل التمدّد الدرامي صوب عناوين أخرى نوعاً من عائقٍ لتفعيل النواة الأصلية للحكاية، من دون أنْ يحول العائق دون إكمال الرحلة للخارطة التي تريد نجوى نجّار رسمها في “بين الجنّة والأرض”، الفائز بـ”جائزة نجيب محفوظ لأفضل سيناريو”، في عرضه الدولي الأول في مسابقة الدورة الـ41 (20 ـ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) لـ”مهرجان القاهرة السينمائي الدولي”. تفاصيل جانبية تحدث أثناء رحلة البحث عن حقيقة العلاقة القديمة بين والد تامر والمرأة اليهودية. تفاصيل تتشعّب أحياناً، لكنّها تتمكّن في لحظة ما من أنْ تجمع فتاتها ضمن سياق الاغتسال الروحي والفكري للزوجين معاً.

في جديدها هذا، تُثابر نجوى نجّار في الحفر داخل أروقة الذاكرة والراهن الفلسطينيين، وتتوغّل في أعماق الروح والذات، بحثاً عن مغيَّب أو مبطّن. في هذا، تستعين بلغة سينمائية مبسّطة، تبدو أحياناً كأنّها لعبة فنية في مزج الوثائقي بالروائي، والاكتفاء، بجعل التبسيط ركيزة قصّة ومرويات وتفكيكٍ وتوثيق، يتّخذ (التوثيق) سمات روائية سردية غالباً. لعبة تُبقي فلسطين والفلسطينيين في واجهة المشهد السينمائيّ، من دون أنْ تتخلّى عن مفرداتها الفنية.

الكاتب: نديم جرجوره

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع