ينطلق المفكر العربي عزمي بشارة من مُقدّمة كتابه «الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مُقارنة» واضعًا الأسس والتعريفات، ضابطًا إياها[1]، ليعرف القارئ أو المتخصص لحظة اطّلاعهِ على الكتاب، كيف تُصاغ المفاهيم، ولتغييب أي شكل من أشكال السيولة عن المُصطلحات والمفاهيم، وبالتالي يكون العمل مثمرًا، أكثر منه جدليًا، كما جرت عادة الكتابة عنده أصلاً، في التأصيل للمفاهيم من فكرة الانطلاق إلى رحاب النظرية ونقدها وبناء جديد عليها. يُحدد الكاتب مكونات ثلاثة ضرورية للديمقراطية المُعاصرة، والتي لا تقوم قائمة للديمقراطية بدونها: 1- المُشاركة السياسية لكافة المواطنين مع ضمان المساواة في التعامل والحق في تقرير المصير. 2- حكم القانون بتحديد السلطات التشريعية والتنفيذية وذلك لمنع تعسّف القانون، وإخضاعهِ للعملية الديمقراطية. 3- ضمان الحقوق السياسية والحريات المدنية الناتجة عن المكون الثاني، كي لا يكون المكون الأول شكليًا. يخوض بعدها المؤلف في تحديد باقي التعريفات، وذلك عبر المرور التاريخي للأدبيات السابقة ومناقشتها، وإبداء أوجه النقص أو الإضافة فيها.
ثمةَ سؤال مُتكرر في العلوم الاجتماعية والإنسانية دائمًا: ما الذي يأتي أولًا، النظرية للظاهرة؟ أم الظاهرة ثم التنظير لها؟ هل النظرية تصنع الظاهرة؟ أم أنها فقط تُمارس في رسوخها أو استمرارها؟ بهذه الطريقة يبدأ عزمي بشارة كِتابه، محاولًا تبيين أن النظريات الغربية في هذا المجال، والمسُتقاة أولًا من التجربة الغربية، والتي وضعت أيضًا لترسيخ الأنظمة الديمقراطية، فهي خاصّة بالغرب، وإن كان بعض نقاطها يمكن تعميمها عربيًا، فإنه يستحيل تعميم النظرية بشكل كامل، ليس فقط فيما يخص الانتقال الديمقراطي، وإنما فيما يخص التحديث والدولة وغيرها من المفاهيم الأخرى في العلوم الاجتماعية والتي ينطبق عليها الأمر نفسه. يبني بشارة ذلك في محاولة منه لتوضيح أنّ ما ينجح هناك لن ينجح هنا دائمًا، وليس مرد ذلك إلى فقدان العرب/المشرق لإرادة التغيير، وإنما فقط لأسباب الاختلاف البنيوي بين هذه المجتمعات، وبالتالي يجب أن تكون طرق تناول الحلول مناسبة للمشاكل في المنطقة واللغة والعرقية والديّن أيضًا. يأتي نقد بشارة هُنا موجهًّا لمن يقولون أن الديمقراطية ابنة أوروبا، وابنة سياقها التاريخي، وإنه لا يمكن «إعادة خلقها» مرة أخرى في أماكن وسياقات أخرى، وأيضًا، يرمي بالنقد لمن يقولون بوجود شروط نشوء مَوضوعية، وهي المُستقاة من التجربة الأوروبية/الأميركية، وبالتالي، فإن غياب هذه الشروط، يعني عدم وجود إمكانية للديمقراطية، فيردّ عليهم بوجود فصلٍ بين: «الشروط التاريخية لنشوء الظاهرة […] وشروط إعادة إنتاجها»[2].
وفيما يخص الأبحاث الغربية غير المتخصصة عربيًا، فلا يدعو بشارة إلى القطيعة معها إطلاقًا، بل يدعو إلى البناء منها وعليها، ولكن مع دراسة نظرية وتطبيقية خاصة في المنطقة من داخل المنطقة نفسها، وأن يكون التعامل معها على أساس محليتها لا على أساس دوليتها أو غربنتها. يقترب عزمي بشارة هُنا إلى من كلام الفيلسوف الألماني يوهان فابيان في كتابه Time and Order، والذي كتب فيه ناقدًا لاتجاهات دراسة الشعوب خارج أوروبا وأميركا، حيث كانوا يرون أن يجب أخذ مسافة «مكانية» من المَدروس، ليكونوا موضوعيين، ولكنه قدّم متغيرًا آخر يتعامل بهِ هذا الدراس، إذ يرى الغربي أنه في «زمانية أخرى» غير زمانية الشعوب المدروسة، فهو متقدّم وداخل التاريخ، بينما الآخر، فهو خارج التاريخ أصلًا[3]، وبالتالي، تكون مُمارسة الكتابة عنه أشبه بالتلقين، حتى لو كانت خاطئة، فهو من يكتب عنك ويشرح إليك، ويعطيك فرضيات عن نفسك لتقرأها وتصدّقها، ثم لاحقًا تؤمن بها. هذا الأمر انتهى سواء بالنسبة لفابيان أو بشارة وكثير من الباحثين والعلماء مثل إدوارد سَعيد وإيفلين سلطاني، حيث دخلت الشعوب الأخرى إلى الوسط، وهي لم تغادره أصلًا، وصارت قادرة على إنتاج المعرفة عن نفسها في السياق الزماني نفسه، بحيث يصيرون هُم والآخر Coeval كما أوضح فابيان، أي بمعنى أن زمن الخطاب واحد، وأن الأنا والآخر معاصريْن.
من هذه النقطة، يلجُ بشارة إلى متن الكِتاب داعيًا الكُتّاب والباحثين إلى الغوص في دراسات الانتقال والتحول الديمقراطي في المنطقة العربية منطلقين من قناعة بأنه بالإمكان الإسهام في تطوير العلوم الاجتماعية بشكل يتناسب مع العالم العربي، وألّا يسلموا بالدراسات التي تحاول المواءمة أو فرض وجهات نظرها عليها من الخارج، وأن يكون بحثهم عابرًا للتخصص، وألّا يُفصل بين دراسة هذا الموضوع، ودراسة مواضيع أخرى مُهمّة تؤثر عليها مثل بناء الأمة وشرعية الدولة ودور الجيش ودور القبيلة والقرابة وتشكل الهويّات وغيرها، إذ «لا يُفترض أن ترتبط دراسات الانتقال بإدارة الظهر لهذه الشؤون»[4]، وبالتالي، فإن الدراسة الخاصة التي تنطلق من المنطقة عن المنطقة، ستحمل مفاهيمًا ومصطلحات وتعريفات جديدة تنبثق من واقعها، لا من واقع آخر مُغاير، خصوصًا في صيرورات نشوء الديمقراطية، مثل الإقطاع ورأس المال والتقليد والحداثة، لأن البنى الواصفة لهذه المصطلحات، لم تكن أو ليست قائمة في المُجتمعات العربية على النحو ذاته في المجتمعات الغربية، ولا حتى ملكية الأرض أو علاقة الفلاحين بالملّاك أو بشكل السلطة المركزيّة، وعليهِ، فإن تطبيقه خارج سياقه يكون «مُضللًا»[5]، وهنا يصف بشارة مشاكل تطبيق نظريات نشوء الديمقراطيّة وأصولها عند بارغنتون مور، مثلًا وليس حصرًا.
يُشير بشارة إلى أن جذور دراسات الانتقال بدأت ردًّا كنقدٍ جدليّ لنظريات التحديث، خصوصًا أن الأخيرة تضع شروطًا «بنيوية» للديمقراطية، وهو ما يدعوه لاحقًا ولمرات عدة للتفريق بين ثلاث مفاهيم تبدو واحدة في ظاهرها، ولكن مع الدراسات أثبت تمايزها عن بعضها البعض، وهي «أسباب نشوء الديمقراطية» و«أسباب رسوخ الديمقراطية وديمومتها» و«أسباب وأشكال الانتقال الديمقراطي من السلطويّة».
يحاول التحديثيون دائمًا احتكار الميدان من التخصص الواحد، لشرح وتعريف أمور كثيرة لا يمكن حصرها، وتطبيق نظريات وتعميمها، في حين أنه لا يمكن تعميم أي شيء منها إلا البديهيات. مثلًا، يُعامل دانيال ليرنر المنطقة العربية كاملة مع إيران وتركيا على أنها كلها قطعة واحِدة ويريد تطبيق نظرية التحديث عليها دون اختلاف، بل أنه يرى أن رزمة «الحداثة الغربية»، من موقع كونيتها، وأن ما نجح عندهم سينجح في أي مكان في العالم، دون تفريقه لشكل تدرج هذا التحديث، أو منطق انطلاقهِ، سواء كان اقتصاديًا، أو عسكريًا (من الخارج) أو حتى داخليًا (من أعلى)[6].
تتوقف محاولة فرض نظرية التحديث عن وضع الشروط، بوضعهم نظرية تشبه نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما في حتميتها، أي أن مسار التحديث دائمًا يُفضي إلى الديمقراطي، وذلك من وجهة نظرهم لازدياد نسبة التعليم، والوعي العام بالإصلاحات والتحديث، وتطور علاقة الإنسان القروي مع أخيه إلى النموذج المديني القائم على «التقمص العاطفي»، والانتقال من نموذج العائلة المُمتدة إلى العائلة النواة، والتوجهات الفردية بدلًا من الجماعاتية، وانخراط الفردي في الرأي العام، وغيرها، ولكننا نعيش الآن في عصرٍ، يفند جزء كبيرًا من هذه الأمور، إذ صار الرأي العام سائلًا، وصار الفرد من قريته الصغيرة، يشارك العالم رأيه و«تقمصه» العاطفي، للدرجة التي صار صعبًا على البشر التمييز بين الرأي الحقيقي والزائف، وصار الإنسان مُقحمًا في الفردانيّة، حتى في ظل المُجتمعات «المُحدّثة». وبالإضافة إلى ذلك، سعت كثير من الأنظمة السلطويّة في القرن الماضي إلى استخدام سياسات التحديث واللبرلة الاقتصادية، وفتحت الجامعات، وأقرت التحديث العلمي فرضًا، وحسّنت المدارس، وأجازت الشركات، وغيرها، ولكن وحسب مقاربة التحديث، فإن هذا يؤدي إلى إصلاحات أخرى تنتهي بالتحول الديمقراطي، ولكنهم لم يضعوا في الحسبان، أن كثير من الدول السلطوية (الشمولية) وغيرها من الدول الريعية، استخدمت وسائل التحديث ذاتها في تعبئة المُجتمعات، وتعزيز أو ترسيخ سلطويتها، عبر الأنظمة المتأصلة والمؤسسات المتنوعة والتطور التكنولوجي الشديد سواء في المراقبة أو في المعاقبة.
يُشدد بشارة على أن السياسة الحديثة مشوبة بالكثير من اللاعقلانية والأسطرة، فما قد يبدأ بوصفهِ تحديثًا، قد ينتهي به بنتائج غير محمودة مثل تذرر الأفراد بدلًا من الفردانية والتضعضع بدلًا من الهوية والأشكال البطريركية «الجديدة» بدلًا من الأشكال الملكية السابقة أو حتى ميلاد كيانات هجينة بين القديم والجديد، بالاعتماد على شكل أو اتجاه التحديث المفروض. ونرى هنا نقد واضح لمقاربة التحديث في طريقها نحو الديمقراطي، ويضع الحداثة كمنتج للتحديث (وليسا الأمر نفسه)، فالحداثة لحظة بداية التحديث تولد مع نقيضها، ولا تقدم بديلًا لأي نظام بقدرِ ما تولدِ حلولًا قد تساعد أو لا تساعد.
يوجه بشارة سهام النقد إلى خلط الباحثين بين المفاهيم الثلاثة أعلاه، خصوصًا مع سيمور مارتن ليبسيت عام 1959 في ربطهِ بين النظرية التحديث والدراسات الديمقراطية[7]، حيث يخلط ليبسيت بين الشروط التاريخية لنشوء الظاهرة وشروط إعادة إنتاجها، ولم يكن الخلط عشوائيًا، بل كان واعيًا، بتأكيده على أن مُتطلبات ترسيخ الديمقراطية هي الشروط المسبقة المطلوبة لنشوئها أيضًا. يوضح بشارة أن هذا الربط الخاطئ، من وجهةِ نظرهِ، كان المنشأ النظري لدراسات الانتقال[8]، على خلاف مع الآراء التي تقول إن روستو كان من بدأها بمقالتهِ عام 1970[9].
أشار بشارة مراتٍ عدّة إلى أن أسباب نشوء ورسوخ بحوث استقرار الديمقراطية كانت بسبب الخطر الشيوعي ودراسة استقرار النظام الديمقراطي في الدول الغربية، خوفًا من سقوطها بسبب التعبئة والاستقطاب الأيدلوجي، سواء في الغرب نفسه أو في الدول الموالية له.
ينتقد الكاتب تعريف ليبسيت الديمقراطية، إذ يتناولها الأخير فقط في إطارها الوظيفي الشكلاني أحيانًا والبنيوي في أحيانٍ أخرى بوصفها طريقة للتداول السلمي للسلطة فقط، وبهذا فإن أهلية الناخب تقتصر على الانتخاب. يرى بشارة بأن ما يذهب إليه ليبسيت يعد تحديدًا اختزالي للديمقراطية، تحديد «لا يفرد مكانًا للحريات في متن التعريف»[10]. ومثل ليبسيت، يأتي جوزيف شومبيتر بشروط لنجاح الديمقراطية، إلا أن هذه الشروط في مُجملها لا تتعلق بالشعب نفسه بقدر ما تتعلق بالنخبة الثقافية واحدها والمؤسسات والبيروقراطية، وهي بالتالي تُحيّد الجمهور عن السياسة، وجعل هذا الشكل: «حكم قلة من السياسيين تداول السلطة فيما بينها»[11].
لا ينفي بشارة علاقة التطور والتمدين والتحديث والقدرة على إقامة نظام ديمقراطي بالكامل، فكما أشار ليبسيت في بياناته الكُميّة حول هذه المسألة، ولكن نقده، بأن السياقات تختلف بالاعتماد على الشكل الإثني أو الطائفي أو بما له علاقة بسياسات الهوية في بلدٍ ما، ونوعية التعليم، وشكل الأنظمة السابقة (التاريخ) في تحديد واقع ومستقبل أثر التحديث في البلد المدروس. وكما أشار الكتاب لاحقًا، قد تكون نوعية التعليم في بلدٍ ما قوية وممتازة للغاية، ولكن لا توجد مساحة للشعوب أن تعبر عن رأيها بسبب المراقبة الشديدة، والتحكم العالي من الدولة في كل مناحي الحياة عند المواطنين مثل الصين.
ينتقل بعدها بشارة إلى مقاربات الرسوخ المبنية على تحسن أو رفاه الوضع الاقتصادي، إذ يوضح ليرنر وليبسيت أن ارتفاع مستوى المعيشة يزيد من احتمالية المحافظة على الديمقراطية[12]، وهو ما يتفق مع المؤلف، وما تؤكده الإحصائيات الكمية (باستثناء الدول الريعية). ويشير آدم شيفورسكي أن نشوء الديمقراطية «بغض النظر عن أسباب نشوئها، فستكون أكثر ديمومة في حالة النمو الاقتصادي»[13]، ولكن يضيف في أن تحسن الوضع الاقتصاديّ في دولةٍ ما، لا يساعد الديمقراطية فقط، لأن الدكتاتوريات وإن نشأت في ظل رخاء اقتصاديّ ودول متطورة فإنها تنزع إلى الصمود لفترات أطول، ويوضح بشارة أن هذا النمو الاقتصادي يُترجم في مؤسسات دولة قويّة وناجعة ومستوى اقتصادي عالٍ يُسهم في بقاء أي نظام بغض النظر عن شكلهِ[14].
يناقش بشارة في هذا الموضوع الديمقراطية الجديدة، والتي تنشأ بعد حُكم سُلطويّ، فإنها تكون في وضعية حساسة وهشّة إذا لم تحقق على المنظور القريب أو البعيد أي نموٍ اقتصادي، لأن هناك توقعات شديدة مقترنة بالديمقراطية، وتكون المعارضة جاهزة لمهاجمتها زعمًا بأنها لم تحقق ما أقيمت لأجله، وهو ما قد يؤدي إلى عملية انتكاس، وعودة للسلطوية. يجادل بشارة هنا بأن القيادات السلطوية في هذا الإطار تحظى «بدعم أكبر وتتعرض لاحتجاج أقل في حالة الأداء الاقتصادي الجيد»، مُشيرًا إلى أن الأنظمة الديمقراطية، خصوصًا عندما تكون في بدايتها، تكون فرصتها في البقاء ضعيفة إذا لم تتوفر معها أدوات أخرى، إذا لا يمكنها كبت الأصوات أو قمع الاحتجاجات أو المظاهرات إطلاقًا، وبالتالي، فإن الديمقراطيات الجديدة في الغالب تحمل سبب فشلها أو وأدها في واحد من أهم أهدافها.
وعند الحديث عن الشروط الضرورية للديمقراطية، وحتى مع وجودها، فإن بشارة يؤكد على أهمية إرادة الفاعلين السياسيين في تحقيق القيم الديمقراطية، وحتى إن جادل البعض بأنها كافية للنشوء، فهي قطعًا غير كافية للرسوخ والحفاظ على النظام الديمقراطي، وبالتالي فإن الإرادة الحقّة لتحقيق الديمقراطية عند الفاعلين السياسيين من أهم أحجار أساس في عملية الانتقال للديمقراطية.
أما في حديثهِ عن كسب الصفة «الشرعية» للنظام، فيسلط بشارة الضوء إلى حاجة كل الأنظمة إلى شكل من أشكالها للاستمرار، وأن الديمقراطية، خصوصًا الوليدة منها، تحتاج إلى الشرعية أكثر من غيرها، وإلى فقد تسقط في فخ المعارضة أو المشاكل مع البُنى والأنظمة القديمة التي تحاول الإطاحة بها، إذا ما شعرت بأنها تتعارض ومصالحها، خصوصًا طبقات رجال الأعمال وجنرالات الجيش وقادة الأجهزة الأمنية أو رجال الدولة أو أصحاب المَصلحة. أشرنا سابقًا أن الديمقراطيات الجديدة تكون دائمًا في خطر الانقلاب عليها، وهي بشكل خاص «لا يمكنها تعويض غياب الشرعية بالعنف ولو مؤقتًّا»[15]، وهو ما يتطلب من الفاعلين السياسيين الديمقراطيين في ذلك الوقت القيام بمجموعة من التسويّات[16]، حسب ليبسيت، مع القوى القديمة لتحافظ على شرعيتها، ولتأخذ فرصتها في إقناع الناس بأنها الأكثر ملاءمة من غيرها في تحقيق تطلعاتهم.
في هذا الموضوع بالذات، يدلل بشارة، وعبر تعرضه للأدبيات السابقة وتاريخ الديمقراطيات القديمة والحديثة، إلى أن عملية الانتقال أو التحول الديمقراطي فيها، لم يكن بين ليلة وضحاها، بل حصلَ على شكل مساومات بين الأنظمة الملكية والبنى القديمة في الدولة، وبشكل تدريجي، تمكنّ الفاعلون السياسيون من فرض وترسيخ الديمقراطية وعلى مدار عددٍ من العقود أو السنين أحيانًا، وهو ما ينتقد به مرة أخرى المنظرين السياسيين والفاعلين السياسيين الذين يسعون إلى تطبيق الديمقراطي بشكلها النهائي في إحدى الدول على الدول العربية، وعند فشل ذلك، يتذرعون بأن العرب ليسوا جاهزين للديمقراطية وأن الديمقراطية تؤدي إلى الاقتتال وغيرهِ. لا يترك بشارة فرصة في الكتاب إلا ويستغلها للتأكيد على موضوع تدرج الديمقراطية، والفصل بين التجارب، والتمايز في التنظير لكل تجربة على حدا، وهي نقاط، وإن صارت بديهية في نقطةٍ ما، إلا أنه يجب التأكيد عليها دائمًا، خصوصًا في وجهِ من ربطوا نشوء التيارات الدينية المتطرفة عربيًا بمظاهر التحول الديمقراطي -زعمًا-، ويتناسون أن مثل هذه الكيانات والتيارات نشأت في ظل الحركة التحديثية أو «العلمنة» الكاذبة التي اتخذها الدول العربية، ولكنها لم تخدم فعليًا سواء طبقات بعينها، وتركت البقية يعيشون في فقرٍ مُدقع وبيروقراطيات مُهترئة، وبالتالي، يكون السبب الحقيقي لتكوّن التطرف، هو الاستبداد نفسهِ، إذ أنه أصلًا لم يُعطِ الديمقراطية فرصتها، ولم يسعَ يومًا إلى بناء ثقافة سياسية دنيوية مُشتركة لجميع الأحزاب والقوى السياسية -حسب تعبير ليبسيت-، وبالتالي، لم تقم فرصة لبناء شرعية نظام ديمقراطي أصلًا[17].
في شرحهِ لأسس شرعية النظام الديمقراطي في عددٍ من الدول مثل الولايات المُتحدة والسويد وبريطانيا، يتناول بشارة أن التدرج في التحول، لم يعنِ أبدًا السلمية، ويضيف بأن التدرج نفسه لا يكفي لتفسير الشرعية في تلك الدول، بل ربط الأمر بالعمق التاريخي لنشوء الأنظمة فيها وتزامن نشوء الهويات القومية والتي «باتت مرتبطة بهذا النظام ورموزهِ»، ويؤكّد الكاتب أيضًا أن ارتباط نشوء الديمقراطية بالهوية القومية الحديثة من خلال الصراع مع دول أخرى، فإن هذا يساعد على رسوخ النظام الديمقراطي حتى لو تعرّض لعددٍ من الهزّات. وفي هذا الإطار يمكن للقارئ أن يسأل نفسه سؤالًا، هل شرط وجود عداوة مع دول أخرى؟ ماذا عن الهويات العابرة؟ ماذا عن بناء الديانة المدنية؟ لماذا الهوية القومية؟ ولماذا فرّق هنا تحديدًا بين الهوية القومية والهوية الوطنيّة؟ يوضح طبعًا بشارة الفرق بين الاثنين وأهميتهما في بناء النظام الديمقراطي ورسوخهِ.[18]
في السياق نفسهِ، وفي أثناء تفكيكه لمشكلة البُنى القديمة في السياق العربي، يتحدث بشارة عن تخويف تلك البنى للناس من خطر الإسلاميين، واستخدام السلطوية للقضاء على الديمقراطية لأنها ستكون الوسيلة التي سيستخدمونها في الوصول إلى الحُكم وبعدها فرض آرائهم، وهو بالمناسبة ما يشير إلى مفارقة غريبة، حيث إنهم فعلوا الأمر نفسه عندما تصالحوا من الأنظمة العسكرية، وهُنا يدعو بشارة أولًا إلى مراجعة مقاربة الديمقراطية «ليس بوصفها مسألة انتخابات ومشاركة سياسية فحسب، والحرية ليس بوصفها شرطًا لتوفير انتخابات نزيهة وكفى […] بل باعتبار الحريات المدنية مساويةً للحقوق السياسية في متن تعريف الديمقراطية»[19]. ويتطرق أيضًا هُنا إلى مشاكل تعريف الهويات المتفرقة في داخل الدولة الواحدة، وكيف تتحول التعددية بدلًا من شكل من أشكال التقابل، إلى شرخٍ كبير يهدد أي ديمقراطية وليدة، وكيفية استعمال الأطراف لهذه التعددية في خلق سياسيات هوية «تحول الانقسام في كل قضية مهما كانت صغيرة إلى “نحن” و”هم”»[20]، وفي هذا إشارة من بشارة إلى أن ما يحصل مع الإسلاميين، ليست مشكلة الإسلاميين وحدهم، بل مشكلة مُتجذّرة عند الأطياف السياسية التي تحوّل «التعددية» إلى شرخ ثقافي واجتماعي -وسياسي طبعًا- يستخدم في إقصاء الآخر، كما حصل في مِصر، والجزائر وألمانيا النازية، وإسبانيا وغيرها.
يُكرر بشارة في الفصل الثالث ملاحظاته الأولى عبر التدرج في عملية الانتقال، شارحًا وناقدًا عناصر التدريج من وجهة نظريات التحديث، مُبتدئًا بشروط روبرت دال السبعة لبناء نظام التعددية السياسية، إذ يؤكد دال صعوبة تحول ديمقراطي دون وجود تقاليد تسامح تجاه المعارضة وتوزيع المركزية، وبالتالي يقول بإنه يستحيل أن تتحول السلطويات إلى ديمقراطيات مُباشرة دون المرور بمرحلة مُختلطة شبه سلطوية أو مختلطة شبه ديمقراطية، ولكن ما حصل بعد أعوام من نشره لكتابه، تحولت اليونان والبرتغال وإسبانيا من سلطويات إلى ديمقراطيات، دون مرحلة وسطى، وهو ما يقود إلى إحدى أهم فرضيات كتاب بشارة المُتكررة «ما ينطبق على نشوء الديمقراطيات الأولى لا ينطبق على نشوئها في المرحلة المعاصرة»[21]، ومن هنا، يبني بشارة على كلام جوزيبي دي بالما حول صناعة الديمقراطية، ويدعو إلى استخدام مُصطلح «تبني الديمقراطي وليس نشوئها»، بمعنى أن تعلم كل دولة حسب سياقها التاريخي والاجتماعي والسياسي إلى نسختها الخاصة من الديمقراطية، بدلًا من الالتزام بالديمقراطيات الغربية بوصفها نموذجًا وذلك لاختلاف الظروف الموضوعية، وأن «الظروف الفريدة ليست هي ذاتها الظروف الضرورية المطلوبة»[22].
يستمر بعدها بشارة في نقد مقاربات فشل الانتقال إلى الديمقراطية بوصفها حالة طبيعية أو نمط حياة، مع أنها لم تكن كذلك في كل أماكن نشوئها[23] أو نقد ربط نجاحها بعناصر ثابتة، مثل نوع المُستعمر السابق للدولة (بريطانيا/فرنسا/هولندا/إسبانيا)، ويؤكد بشارة على ضرورة التمهل في تسمية العلاقات، فوجود علاقة ظاهرية بين أمرين لا يعني وجود علاقة سببية بينهما. كما ينتقد الكاتب الربط بين الأديان والانتقال الديمقراطي، بوصفها عائقًا، لأن هذا يُغيّب حقيقة أن سلوك البشر لا تحدده نصوص الديانات وإنما أنماط ممارسة التدين والتي تتشابه في الأديان كافّة، «والتي تساهم في بلورتها أمور عوامل عدة، منها البنى الاجتماعية والأعراف الموروثة وطبيعة نظام الحكم السائد، والعقيدة أيضًا، والمذهب»[24]. من هنا يدعو بشارة مرة أخرى وبالاعتماد على التجربة الروسيّة وحركة الإصلاحات فيها بضرورة التمييز في عملية تكييف الديمقراطية في كل بلدٍ على حدا، حيث تعتمد كل واحدة منها على تاريخ طويل من إجراءات العلمنة وشكلها وتطبيق العلمانية، وأن احتمال نجاح الديمقراطية أو فشلها يعتمد بدرجة كبيرة على «خيارات القادة والجامعات السياسية وسلوكهم وقراراتهم»[25]، ولذلك، فكما ظهرت تسميات خاصة في التحول الروسي، يشير بشارة إلى أن النظريات الاجتماعية لا تمكن الباحثين دومًا من وضع قائدة يمكن التنبؤ بها، وعليهِ، فإن وضع أي استثناء بما يخص القاعدة العربية حول التوقع والتحول الديمقراطي، هو استثناء لقاعدة لا وجود لها أصلًا، أي أنه لا يجب التصديق باستثناءاتهم، لأن التنبؤ في هذا الميدان يكاد يكون شبه مستحيل.
في الفصلين الأخيرين من القسم الأول يتناول بشارة موضوع البرجوازية والرأسمالية والديمقراطية ونقد مقاربات التحديث المبنية عليها، فهو يستهل الفصل الرابع بنفي مور لتلازم الرأسمالية والديمقراطية، وأن الرأسمالية أيضًا لا تتعارض مع العبودية، ولم يكن يخطر لماركس أن تتحول الرأسمالية إلى الديمقراطية مع الحق العام في الاقتراع، وأن تتحول الشيوعية الدكتاتورية[26]. يؤكد مور أن العبودية أيضًا ساهمت في تطور الرأسمالية الصناعية في الولايات المُتحدّة، وهو ما شكّل عقبة لاحقًا في الطريق إلى الديمقراطيّة. في هذا السياق يُشير بشارة إلى قصور نموذج مور في تفسير كل شيء بالاقتصاد دون إيلاء الدولة الحديثة أو أشكال التحديث أي اهتمام، وهو ما يستغله بشارة لإعادة النقد لنموذج روبرت دال في الربط بين لبرلة الاقتصاد واقتصاد السوق، وبداية الإصلاحات والانطلاق نحو الديمقراطية، مُستعينًا بالنموذج الصينيّ والسُوريّ، وذلك لإحكامها القبضة السياسة والأمن والاقتصاد والمجالات الأخرى[27]. بالإضافة إلى ما سبق، يشير بشارة إلى مسألة غاية في الأهمية وهي أن العامل الحاسم في التحديث داخل الدولة، على أي مستوى كان، ليس التحديث نفسه، وإنما نمط التحديث ودولة فيه وفي الاقتصاد وليس الرأسمالية بل كيفية نشوء الرأسمالية وطبيعة نشاطها[28]. وبهذا يخلص عدم صلاحية التعميم في الربط بين الرأسمالية كشرط أساسي لنشوء الديمقراطية، مُشيرًا إلى أن الدول التي نشأت فيها الرأسمالية نتيجة لعمليات لبرلة الاقتصاد تحت نظام سلطويّ، لم تكن فيها الرأسمالية هي الحامل للأفكار الديمقراطيّة، وإنما القوى المُتضررة من اللبرلة مثلما حصل في سُوريا ومصر وتونس[29].
وفي نقد الربط بين البرجوازية والديمقراطية، يوضح بشارة إلى أن الأخيرة كانت الأقدر من بين كل الأنظمة على عقد تسويات بين الطبقات، دافعة بالطبقة البرجوازية حصرًا للتخلي عن جزء من امتيازاتها مقابل الحفاظ على طبقتها، إذ نظّمت الديمقراطية إدارة الفجوة الطبقية عبر البرلمان والنقابات وغيرها من المؤسسات عبر الاعتراف بالحقوق الاجتماعية من جهة وفرض الضرائب التصاعدية من جهة أخرى. وخلافًا للتوقعات الحتمية للتاريخ عند الشيوعيّة، لم يؤدِّ الاستقطاب الصناعي إلى وجود طبقتين، طبقة تملك كل شيء وطبقة لا تملك أي شيء وإنما إلى وجود فئات كبيرة من الخبراء والفنيين والمديرين والطبقات الوسطى المرتبطة بالقطاعات الإنتاجية والخدمية، وفئات واسعة من المثقفين والفنانين والأدباء والصحافيين المرتبطين بتطور مؤسسات الدولة والمؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية، وزيادة حجم الجمهور المستهلك لإنتاجهم، وكان هذا ناجمًا عن التطور العلمي والإداري[30].
في الفصل الأخير يضع بشارة على بساط النقد التحديث وشروطه البنيوية للتحول الديمقراطية، ويرى أن تحول على يد بعض الباحثين من أمثال هنتنغتون إلى أيديولوجيا تبريرية للدول السلطوية أو الدكتاتورية في طريقها نحو التنمية وتحقيق التطور الاقتصادي والصناعِي، ويشير إلى أن التحديث لا يكون بالضرورة متوازيًا، فقد يتأخر التحديث السياسي على الاقتصادي، وقد يكون هناك واحدًا دون الآخر. فدول مثل سنغافورة، رغم تطورها الشديد، إلا أنها ليست ديمقراطية، وبالتالي، فإن دعم هذا النماذج لتحقيقها النظرة الاقتصادية الغربية قد ينطوي على تنظيرٍ للدكتاتوريات عمومًا تحت دواعي «التقدّم».
وفي حديثهِ عند عودة جاذبية النموذج الغربي في اللبرلة والدمقرطة، يركّز بشارة أن ذلك مردّه نشوء «طبقات وسطى جديدة وفئات جديدة من التكنوقراط والمتعلمين غير المؤدلجين»[31]، وظهروا أولئك مع «تفاقم أزمة الأنظمة السلطوية العربية منذ السبعينيات بتحولها من قوة تحديثية إلى عائق أمام التحديث»[32]، وبعدها ظهرت مشاكل التحديث من الأعلى، عندما استخدمت الأنظمة العربية شعارات التحديث والعلمنة والغربنة في قمع الآخر، وقتل المعارضين وتخريب البنى الاجتماعية وتفكيك المُجتمع، والانتقال من الفردنة إلى تذرر الفرد، وهو ما أدّى إلى ردة فعل عكسية عند المُجتمعات قائمة على الانكفاء على الذات والعودة الجذور «المتخيلة» مثل بروز التيارات الإسلامية وغيرها، ولكن ما يفشل في معالجته الباحثون أن مثل هذا الانكفاء ليس أصيلًا، بل هو من نتائج التحديث المتأخر نفسه، أو كما يقول مصطفى حجازي، تتمثل ردة فعل المقموع مع التحديث في الانغلاق على الذات (العودة إلى الأصول)، ولكن يتناسى المُجتمع أو الفرد لحظتها أن كل ما فعله ليس إلا ردة فعل، وردة الفعل تكون فعلًا تحديثيًا صَرِفًا في هذه الحالة.
يُختم القسم الأول من الكتاب بنقد منظري التبعية للتحديث ولإيمانه الحتميّ في أن «منتهى صيرورة التحديث في البلدان النامية هو نموذج شبيه بالدول الغربية»[33]، وقالوا إن انفتاح الاقتصاد ينتج دائمًا مَركزًا وهامشًا. مركزًا يُحافظ على الهامش في مكانه ليستمر تدفق البضائع إلى ذلك السوق المٌستهلك، وهامشًا وظيفته الاستهلاك وتصدير المواد الخام إلى المركز، وركزّ منظرو التبعية على أن ما يُنتج التخلف ليس الإقطاع أو التقاليد أو غيرها، بل التبعية[34].
يخلص بشارة إلى أن الديمقراطية، ومهما كانت أسباب الرغبة فيها، قد صارت حُلمًا عند الشعوب المُستعبدة سواء من عدو خارجيّ أو مستبد داخلي، لأنها الوحيدة القادرة على تحقيق الحُريّة، وينبه إلى أن انتهاء الحكم السلطوي لا يعني بالضرورة انتقالًا ديمقراطيًا، وذلك لأن هناك شروط كثيرة: أن تكون الديمقراطية خيار الفاعلين السياسيين الرئيسيين، وألّا يتدخل الجيش وألّا يأخذ موقفًا مُناهضًا للانتقال الديمقراطية، وتوفير شروط الانتقال وترسيخه، وذلك عبر المساومات وعددٍ من الأمور الأخرى[35].
هوامش