الراوي والروائي والآخرون

Still Life with French novels and glass with a rose - Vincent van Gogh

أنور حامد

روائي من فلسطين

مرة أخرى أشدد على أن هذا لا يعني بالضرورة أن كل روائي يخلق شخصيات مقنعة. هو يحاول، وقد ينجح وقد لا ينجح. أنا أطالب باعتماد مرجع موضوعي عادل في محاكمة الشخصية وتجنب التعسف والاستعجال في الحكم عليها، هذا كل ما هنالك.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

06/09/2020

تصوير: اسماء الغول

أنور حامد

روائي من فلسطين

أنور حامد

في رواية “مصائر، كونشيرتو الهولوكوست والنكبة” للفلسطيني ربعي المدهون الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية التي اعتاد المهتمون العرب تسميتها “بوكر العربية”، نجد أن ملامح البطل تشبه في تفاصيلها الشخصية المؤلف، فالبطل صحفي فلسطيني يقيم في بريطانيا، يدخل فلسطين بجواز سفر بريطاني، كما تعود ربعي أن يفعل. أن يختلط الأمر على بعض القراء فهذا عادي ولا يلفت الانتباه، أما أن يحاكم عدد ليس قليلاً من كتاب ونقاد المؤلف على ما تفوهت به أو فعلته إحدى شخصياته فهذا ملفت للانتباه. حصل شيء أكثر غرابة مع روايته الأخرى “السيدة من تل أبيب”، فقد انسحبت ناقدة معروفة من لجنة البوكر احتجاجا على مديح إحدى شخصياته لحاكم عربي.

والحالة هذه، حين يكون اسم بطل رواية مطابقا لاسم المؤلف، كما في حال الكاتب الأردني الراحل غالب هلسا، فأي إرباك يسببه هذا للقراء بل ولبعض النقاد؟ يحصل هذا لأن هناك خلطا بين الشخصية الروائية، ما تقوله وتفعله، وبين المؤلف، خاصة إذا كان يعتمد تقنية “الراوي المشارك” في السرد، عندها يميل بعض القراء، بل والنقاد، ويا للغرابة، لأخذ الموضوع مسلماً به: ما تتفوه به الشخصية وما تفعله يعبر بشكل مباشر عن المؤلف. يحدث هذا أحياناً حين لا تكون هناك أي ملامح مشتركة بين المؤلف والشخصية. يعتقد البعض أن وجود شخصية إسرائيلية في رواية هو “تطبيع”، كما لو أن الروائي استضاف الشخصية، التي قد تكون جندياً أو مستوطناً، على فنجان قهوة في رام الله.

إذن هناك شبه تسليم أن المؤلف يحرك شخصياته كالدمى وفق قناعاته الأخلاقية أو الأيديولوجية، أو في الحالات الأكثر حساسية حين تكون للشخصية ملامح تشبهه، فهذا دليل أمام هذا النمط من القراء والنقاد، على أن ما يحصل هنا يمثل بحرفيته ليس فقط رؤية الكاتب بل مسلكه الشخصي.

هناك أساسيات في النقد الأدبي يجب أن تكون مسلماً بها أمام الجميع، من القارئ البسيط إلى الناقد المختص.

العمل الروائي هو عمل تخيلي، ويجب أن يعامل كذلك، وتعامل شخصياته كشخصيات خيالية، مهما شابهت ملامحها ملامح شخصيات حقيقية. الكاتب الأردني الراحل غالب هلسا، كما أسلفت، يعير شخصيات بعض رواياته اسمه الشخصي. لكن هذا تفصيل تقني هو حق للكاتب، يستخدمه لإيصال فكرة أو تأثيث مشهد أو دعم الحبكة، ولا يعني أنه شخصياً مسؤول أخلاقياً عن سلوك شخصيته التي تحمل اسمه.

مرة أخرى، العمل الروائي هو عمل تخيلي مهما تشابه مع الواقع ويجب أن يحاكم كذلك في كل شيء. ليس من حقك كقارئ أو ناقد أن تسقط عليه اعتبارات سياسية ولا حتى معرفية. من اعتراضات الناقد وليد أبو بكر على رواية ربعي المدهون المذكورة آنفا هو أن المسافة بين مدينتين في الرواية أقل (أو أكثر، لا أذكر بالضبط) منه في الواقع. الروائي نجيب محفوظ يصف الأحياء الشعبية المصرية في رواياته بدقة شديدة يجعلها تصلح مرجعاً موسوعياً، وهذا خياره المتسق مع ملامح سرده، لكن الحقيقة أن الروائي غير ملزم بذلك. الرواية ليست محاكاة حصرية  دقيقة للواقع، فهناك الأدب الروائي الغرائبي مثلاً، كيف تحاكمه هنا؟ وهناك الخيال العلمي. هل ستحاكمه معتمداً الواقع بأدق تفاصيله مرجعاً؟ أذكر أن كاتباً فلسطينيا كتب في أحد مقالاته أن شرلوك هولمز (شخصية المغامرات البريطانية) لا تقيم ولم تقم يوماً في الشقة المذكورة في العنوان المذكور في الروايات في العاصمة البريطانية، وهذا تصور صادم في الحقيقة.

إذن هل الروائي حر بشكل مطلق، وليس هناك من مرجع لتقييم مدى “مصداقية” عمله الروائي؟ هل هناك شيء اسمه “المصداقية” في النقد الروائي أصلاً؟ نعم، وبكل تأكيد. المصداقية السردية هي مبدأ أساسي في تقييم العمل، لكن ماذا تعني تحديداً؟  

لنبدأ من الأساسيات.

أولاً، الرواية كما أسلفنا هي عمل تخيلي ويجب أن يعامل كذلك على كل المستويات، ليس مقبولاً استخدام أي مرجع من خارج العمل لمحاكمة مضمونه أو شخصياته. 

ما يحق لنا محاكمته كقراء ونقاد هو مدى انسجام عناصر العمل وفقاً لقوانينه الداخلية، وحتى هنا يجب أن نكون في غاية الحذر ولا نستعجل الأحكام. قد يكون الروائي مباشراً، وقد لا يكون، فمطلوب من القارئ والناقد أن يبذل جهداً قبل أن يخلص إلى أحكام على العمل.

لا أحبذ استخدام أمثلة من تجربتي الشخصية كروائي، لن يحصل هذا كثيراً، لكن هناك مثال صارخ أرى من المفيد استخدامه هنا، بالحد الأقصى من الموضوعية المهنة.

في رواية “والتيه والزيتون” هناك شخصية هامشية: فتاة محجبة ترتدي الجلباب. هذه شخصية تستحق أن تكون الشخصية الرئيسية في رواية، لكنها في تلك الرواية كانت شخصية هامشية، مع ذلك كانت من أكثر الشخصيات التي أثارت جدلاً. والسبب: وجدها الكثير من القراء والنقاد غير مقنعة. وقد لا تكون مقنعة سردياً، أنا كمؤلف الرواية وخالق الشخصية لست في موقع يؤهلني للحكم الموضوعي، لكن لو كانت غير مقنعة فعلاً فلن يكون ذلك للأسباب التي ذكرها القراء والنقاد.

ما يعرفه القراء عن هذه الشخصية الهامشية أنها من قلنسوة (إحدى بلدات المثلث)، وأنها ناشطة نسوية. سلوكها في المشهد اليتيم الذي ظهرت فيه والذي أثار الجدل كان مصمماً لاستفزاز التفكير أصلاً: الفتاة ناشطة نسوية وفي نفس الوقت محجبة وترتدي الجلباب، وفوق ذلك، رفضت مصافحة البطل لأنها لا تصافح الرجال. حتى الآن المشهد عليه علامات استفهام: ناشطة نسوية ترتدي الجلباب والحجاب؟ لكن هناك صدمة أكبر للقارئ والناقد: في نهاية المشهد شربت بيرة مع الشخصية الأخرى، في مشهد معقد سردياً. المشهد صممم ليثير الأسئلة والتفكير مع كثير من الغموض والحيرة: امرأة تعيش صراعاً بين تربيتها والأخلاقيات التي غرست فيها على مدى سنين طويلة، والشخصية المتمردة على كثير من الأساسيات الاجتماعية التي تشكلت ملامحها في وقت لاحق. هذا الصراع ينتج بالضرورة سلوكاً مرتبكاً، أحياناً غامضاً وغير مفهوم ومتناقضاً. ما حصل، من القراء والنقاد على حد سواء لم يكن محاكمة المشهد فنياً: هل نجح المؤلف في تصوير هذا الارتباك والازدواجية في الشخصية أم لا؟ بل حاكموا الكاتب أخلاقياً: كيف تجرؤ على جعل فتاة محجبة ترتدي الجلباب تشرب البيرة؟ وبناء على ذلك تعرض المشهد لهجوم أخلاقي بالدرجة الأولى، ولم يكن اعتراضاً نقدياً يمس مصداقية تصوير المشهد ومدى إقناعه.

إذن الخلط بين “منطق المشهد” “منطق الشخصية” “منطق السرد” من جهة ومنطق القارئ/الناقد من جهة أخرى غير مقبول نقدياً ويربك العملية النقدية. فالمطلوب التأمل في ملامح الشخصية وسلوكها وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام: قد تكون الشخصية هشة، ركيكة البنيان، غير مقنعة الملامح، ولكن هذه توصيفات فنية، نقدية، ولا علاقة لها بمدى مشابهة الشخصية للملامح التي في مخيلتك كقارئ أو ناقد عن مثيلتها في الواقع. المؤلف في النهاية يفترض أن يمتلك تجارب متنوعة وثرية قبل أن يقدم على كتابة رواية، مع أن هذا لا ينطبق على جميع الحالات في الواقع،  وهو، إن امتلك ذلك، ربما يرى ملامح للشخصيات أنت كقارئ عادي أو ناقد معارفه النقدية جيدة على المستوى الأكاديمي بينما معارفه الإنسانية ليست على درجة كبيرة من الثراء يفترض أن تتمهلوا قبل إطلاق الأحكام على الشخصيات الروائية ومدى مصداقيتها وإقناعها.

مرة أخرى أشدد على أن هذا لا يعني بالضرورة أن كل روائي يخلق شخصيات مقنعة. هو يحاول، وقد ينجح وقد لا ينجح. أنا أطالب باعتماد مرجع موضوعي عادل في محاكمة الشخصية وتجنب التعسف والاستعجال في الحكم عليها، هذا كل ما هنالك.

الكاتب: أنور حامد

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع