قبل الغرور، وقبل الطباعة، لنتكلّم عن التجارة. لنقل إنكَ وإنّكِ صاحبا محمص، وأنا صاحب مقهى. وقد أتيتماني بخليط من البن المحمّص على الطريقة التي تدّعيان أنّها الأنسب للقهوة التي أقدّمها للزبائن. فقمت وأعددت فنجاناً منها فكانت النتيجة مرضية، على الأقل لمستوى المقهى وزبائنه، وكـرّرت العملية في ثلاثة أو أربعة فناجين فكانت النتائج تتكرّر بنفس درجة الرضى، فعرضت عليكما العرض التالي: “ادفعا لي مبلغاً مساهماً قدره كلفة مئتين وخمسين فنجان قهوة وأصنع القهوة من البن الذي تحمّصانه وسأعرض شعار محمصكما على كل شيء في المحل. في المقابل ستحصلان على مئتين وخمسين فنجان قهوة تبيعانها بمعرفتكما لتغطية المبلغ الذي دفعتماه. ولكن لأول ألف فنجان لن تكون لكما نسبة على المبيعات، وستحصلان على ذلك في الفنجان الأول بعد الألف وهكذا، آخذين بعين الاعتبار بأنّني أعطيتكما سلفاً مئتين وخمسين فنجاناً من الفناجين الألف الأولى”.
أولاً ستبصقون بوجهي وثانياً ستقومون بفضح تعاملي عند بقية المحامص. فأنا أولاً بهذا العرض رفضت دفع ثمن إنتاجكما، ثانياً فرضت عليكما مهنة ليست لكما، فليس من واجبات المحمص بيع فناجين القهوة الجاهزة.
ولكن دعنا من الافتراضات الواقعية ولنستمر بهذا الخيال، فلا متعة بالواقع عندما نتخيله دون مبالغة. لنقل إنّكما فخوران كثيراً بهذا البن ووافقتما على العرض معتبرين أنَّ كلفة مئتين وخمسين فنجاناً لن تكون كبيرة بل على العكس ستكون مجدية إن قمتما ببيع مئة منها فقط بسعر البيع، وهذا بالمقابل سيضيف لكما مهارة جديدة لم تفكّرا بها من قبل وهي إدارة المقاهي والتعامل مع الزبائن، فتغطيان المبلغ الذي دفعتماه وتربحان فوقه أيضاً. وبمقابل هذا الجهد تنشران صيتاً أوسع لإنتاجكما.
فماذا ستفعلان لو فاجأتكما بأنّني طلبت مبلغاً يساوي أو يُقارب سعر البيع للمئتين وخمسين فنجاناً وليس سعر الكلفة؟ ستعترضان عليها لسبب بسيط، وهو أنّ هذه صفقة خاسرة وأنَّ كلفة فنجان القهوة أقل بكثير من سعره ما يعني أنّني أربح على ظهركما وأنتما بالنهاية تقومان بهذا العمل للربح أيضاً وليس فقط لشغفكما به، فأقول لكما: “أنتما تحسبان الكلفة للفنجان فقط لكن مصاريف المقهى أكثر من ذلك بكثير فلدي الإيجار والفواتير والضرائب والرواتب، ما يعني أنَّ الموضوع كلفته أكثر من كميتيّ البن والماء في الفنجان. كما أنَّ عدد شاربي القهوة في تراجع عن السنوات السابقة، إنَّ سوق القهوة يموت”.
أقلُّ ما يمكن أن تجيباني به هو أنّني صاحب مقهى فاشل لا أستطيع استقدام الزبائن وعليّ تغيير مهنتي فهذا أشرف لي من الضياع في غياهب مهنة لا زبائن لها.
منطق التجارة البسيط هذا ينطبق على معظم المهن باستثناء سوق الكتب والفن البصري، فحتى في تجربتي في الدوبلاج كانت أوّل تجربة لي مجانية والثانية دُفِعَ لي فيها أقل من القيمة المُعتادة لكن لم يطلب أحدٌ منّي الدفع مقابل تسجيل صوتي وتركيبه على وثائقي أجنبي.
في مجالي الكتب والفن البصري تقوم دور النشر والمعارض التجارية بأخذ المال من الفنّان والفنّانة مقابل نشر الكتاب أو عرض الأعمال الفنية ويأخذان، إن كانا محظوظين، نسبة على المبيعات الهدف منها إعادة النقود التي دفعها أو دفعتها. في حالة الكتب يأخذ الكاتب أو الكاتبة عدداً ضخماً من النسخ من الطبعة الأولى مقابل لا شيء من سعر النسخ الباقية أو نسبة ضئيلة تصل إلى 10% فقط ممّا يعني أنَّ الكاتب ليس شريك ربحٍ ولا شريك خسارة بل هو خاسر لوحده فحسب، لأنّه في معظم الحالات يكون قد دفع ثمناً لهذه النسخ يساوي سعر بيعها والتي قد تُغطي كلفة طباعة الطبعة الأولى من الكتاب.
بالعودة إلى مثالنا السابق نرى أنّ صاحبي المحمص عندما وافقا على دفع ذلك المبلغ إلى صاحب المقهى فإنّهما دخلا في تلك الصفقة ظانّين أنّهما يشاركانه في العملية لكن عندما اكتشفا أنّه في الواقع عن سعر البيع وليس سعر الكلفة وجدا نفسيهما على طرفٍ نقيضٍ لصاحب المقهى. لكن هذا السيناريو الخيالي في عالم التجارة يحصل فعلاً في عالم الكتب، أيّ أنَّ الكاتب والكاتبة يدفعان فعلاً تلك المبالغ مقابل النشر. ولكن لماذا؟
في الغرب تُسمّى دور النشر التي تقوم بالطباعة مقابل المال بـ Vanity Press أي طباعة الغرور أو طباعة الفخر، وهذا النموذج يختلف تماماً عن النشر الذاتي. ففي النشر الذاتي يتعامل الكاتب مع المطبعة بشكلٍ مباشر محتفظاً لنفسه بكامل الحقوق على الكتاب، ممّا يعني أنّها حالة كاتب يسعى لاستقلالية تامّة لاسمه وكتبه، بل حتى أنَّ بعض الكُتّاب يذهبون لتأسيس دور نشر صغيرة فقط لينشروا لأنفسهم، ممّا يُسهّل في ما بعد عملية التوزيع والمشاركة في معارض الكتاب والترشيح للجوائز. أمّا ناشر الغرور فهي دار نشر كاملة تقوم بتوظيف مدققين ومصممين وليسوا معنيين بالمشهد الثقافي ويملكون حقوق الكتاب ويملكون حقوق التقرير فيه وحق إعادة طباعته في طبعات ثانية فوق النقود التي أخذوها من الكاتب أو الكاتبة.
بالطبع لن يفهم هؤلاء الناشرين الأذى الذي يسببونه للأدب في نموذجهم هذا، فنظريات موت المؤلف وغربته عن نصّه وانفصال الكاتب عن النص يرمونها عرض الحائط عندما يعطون عدداً ضخماً (قد يصل إلى 300 نسخة) إلى الكاتب ليتصرّف بها. وكأنّ إمكانية بيع وتخزين هذا العدد الكبير من الكتب هي ضمن قدرة كل كاتب وكاتبة، ناهيك عن المبلغ الذي دُفِع مقابل هذه النسخ (في بعض الدور قد يصل إلى 2400 دولار). والحجج التي يقدمونها للكاتب لا تختلف عمّا ذكرته سابقاً على لسان صاحب المقهى.
إنَّ الناشر الذي يبحث عن الكاتب الغني صاحب المال والمساحة التخزينية أو صاحب القدرة على التسويق الذاتي (كأن يكون لديه كثيرٌ من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي) لديه معايير مختلفة لقبول نص للنشر، هذا الناشر ليس معنياً بمشهد القراءة وسوق القُرّاء، فهو لا يسعى لتأمين الكتب للقُرّاء. فهذا لهم حادثٌ عرضيّ يأتي ضمن سوق النشر. بل العرض والطلب موجّه إلى مكان آخر، إنّهم يعرضون سلعة لطلبٍ مختلف، إنّهم يعرضون النشر نفسه كسلعة لمن يفوق غروره وماله مَنْطقيّ التجارة والنظريات النقدية في الأدب.
أملك خليطاً من شعوريّ الإعجاب والقرف من ذاك الذكي الذي استطاع أن يطوّع الغرور لسلعة يبيعها ويتاجر بها لكنّه سبّب أذىً كبيراً لعامود الثقافة وقلبها وهو الكتب وصناعة النشر. ليس سوى شيطان ذاك الذي يفهم النفس البشرية بهذا الشكل ويبيع نفسها لنفسها ويقنعها أنّها هي من طلبت ذلك.