الروائيون المصريون الشباب… “دُفعة” جديدة من “الأصوات” الطازجة

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

«رمّان» تُفرد المساحة التالية، لتقديم بعض أحدث الوجوه في الرواية المصرية، خمسة أصوات شابة، لكل منهم تجربته وبصمته، ولكل منهم وجهة نظره في الكتابة وأهدافه ودوافعه وزاوية نظر مختلفة يطل منها على الكتابة الأدبية.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

10/09/2020

تصوير: اسماء الغول

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

أحمد مجدي همام

يختلف كثيرون إزاء مسألة تصنيف الكتّاب والروائيين إلى أجيال ومدارس، فبعض الكتّاب يرفضون أن يوضعوا ضمن مجموعة وينادون بذاتية الأدب والفن. لكن هذا لا ينفي أن العالم كله يلجأ للتصنيف وفق نظرية المجايلة، فظهر في الأدب الإسباني ما يسمى بـ (جيل 1914) ثم (جيل 1928)، وظهر في الأدب الألماني جيل (جماعة 1947)، وفي مصر هناك (جيل الستينات)، وفي الولايات المتحدة الأمريكية هناك (جيل البيت) أو الجيل الضائع أو المهزوم..

وفي السنوات القليلة الماضية برزت دُفعة جديدة من الروائيين المصريين. أصوات سردية طازجة، تقدم تجربتها السردية بعد سنوات الثورات والاضطرابات السياسية في مصر، والتي بدأت في 2011 وامتدت إلى 2013 قبل أن تستقر الأوضاع نسبيًا في 2014 مع استقرار النظام السياسي.

يحرص الكتّاب الشباب في مصر على تقديم ألوان مختلفة من الرواية، سواء لجهة الموضوع، أو لجهة التقنية، لا يكتفون بالشكل الكلاسيكي، يلاعبون الرواية ويتعاملون معها بوصفها مغامرة قد تنتهي في مكان بعيد عن النهاية الآمنة والشكل الرائج.

كل المواضيع مطروحة للتناول، دون سقف، الذاتي والعام والتقاطعات بينهما، الأشكال المستقرة والتجارب السردية الأفانغاردية. المشهد السردي الشبابي في مصر يطرح موسم حصاد جديد عامر بالواعدين الموهوبين.

«رمّان» تُفرد المساحة التالية، لتقديم بعض أحدث الوجوه في الرواية المصرية، خمسة أصوات شابة، لكل منهم تجربته وبصمته، ولكل منهم وجهة نظره في الكتابة وأهدافه ودوافعه وزاوية نظر مختلفة يطل منها على الكتابة الأدبية.

 

«وُلِدتُ لأكتب»… جيلان صلاح
روائية مصرية، من أعمالها “بوجارت.. اعزف لي لحنًا كلاسيكيًا”، (دار ضمة، 2019).

لماذا أكتب؟ لا أعرف. هناك أسباب كثيرة وجيهة تدفعني للكتابة، وأخرى أكثر وجاهة تشدني للتوقف. لكن الأمر يبدو اختياريًا في نظر الكل إلا أنا. أنا ولدت لأكتب، وجدت نفسي أمسك بالقلم وأعبر عما بداخلي منذ كنت طفلة في الابتدائي تهيم بليوناردو دي كابريو والأفلام الأمريكية. كبرتُ ووجدت نفسي أختنق كل يوم؛ في الوظيفة، في الجلسات العائلية، مع الصديقات أو حتى على القهاوي مع أصدقاء كتاب مثلي، ووجدتُ أن الحل الوحيد للمقاومة هو بالكتابة وحدها. 

لا أعتبر أن لكوني كاتبة في مصر أي أهمية، فهنا يجب أن تحقق مبيعات ضخمة حتى يعترف بك المحيطون، أو تجد لكتابتك نوعًا من المجد، أنا أكتب عن المهمشين والمنسيين والعابرين وغالبًا تقابلني تعليقات تسألني عن مبيعات كتابي في معرض الكتاب، فلا أرد. لأنني لا أكتب سوى للتواصل المبهم غير المرئي مع أشخاص لا يشبهونني ولكنهم وجدوا في كتاباتي ما يشبههم، إنه نفس ما شعرت به وأنا أقرأ “سبوتنيك الحبيبة” لهاروكي موراكامي أو “مكتب البريد” لتشارلز بوكوفسكي، لا يمكنني أن أكون هذين الرجلين، لكنهما يعرفان ما أشعر به فعلًا، ويفهمانه أكثر من صديقتي التي أشرب معها كوب لاتيه كل يوم.

كتبتُ روايتي الأولى “بوجارت اعزف لي لحنًا كلاسيكيًا” وأنا أرى أمامي عالمًا مألوفًا يتآكل، وآخر يصعد للسماء، كنت في لحظة بين اليأس والرجاء، ليس معي أي شيء سوى كتابتي ونفسي، متاع في حجم حبة الجوز في مواجهة نجاحات قريباتي في عالم الزواج والثراء والوظائف المرموقة. كتبتها بطريقة سرد قد تبدو كلاسيكية، وإن كانت مسحة التجريب عندي في تعدد الرواة، وتداخل الراوي، فلا تعرف أيهم يتكلم، حاولتُ بها أن أدفع الغضب الكامن في حلقي، والمتصاعد من معدتي على هيئة حموضة حارقة ليصبح بركانًا من الحمض، يجرف في طريقه ثوابت كل من يقرأوها. والغريب، أن روايتي الثانية التي لم ترَ النور بعد خرجت أهدأ، أقل هزًا للثوابت. وإن كانت أكثر تجريبية.

كتبتُ كثيرًا عن بشر عرفتهم أو رأيتهم أو حتى حادثتهم ذات مرة في حفل ممل أو قادني حظي العاثر لرؤيتهم في أسوأ لحظات ضعفهم، كتاباتي دائمًا عن البشر، تفاعلهم مع بعضهم البعض، ما قد يحدث من احتكاك هذه الطاقة بأخرى. انفجارات؟ عابرات للقارات؟ لا شيء على الإطلاق. وفي خضم بحثي عن الأرواح، كنت أشبه بالموت في رواية “سارق الكتب” لماركوس زوساك، أضع هذه الأرواح في عباءة على كتفي وأرحل، لا أعرف كيف سأعبر عنها؟ كيف أعبر عن روح عصفور، أو شخص تم قهره من أقرب الناس إليه حتى انفجر جسده بآلامه ومات؟ وقتها لن أختار السرد التقليدي أو التجريبي، لن أختار تعدد الرواة أو الحكاءين، بل ستختارني الحكاية وتجبرني على الاستمرار.

«يبكي الرجل.. أمّا أنا فأكتب»… أحمد الصادق
روائي مصري، من أعماله “رحلة داخل فوهة الماسورة”، (الكتب خان، 2019).

 السؤال عن الكتابة يتطلب نصًا أدبيًا، لا أعني بالضرورة نصًا قصصيًا أو روائيًا، في قالب نثري أو شعري، ولكني أعني “نصًا جميلًا”؛ فلو أننا سألنا الموسيقِي عن الموسيقى، سيعرض علينا موسيقاه، وإن سألنا الصائغ عن الألماس، سيبرز لنا جوهرة، وإذ سألنا الخباز عن الخبز، سيقدم لنا رغيفًا شهيًا، صابحًا لا معطوبًا، ستُعرض علينا الأشياء في أبهى صورها، سيعزف الموسيقي أجمل مقطوعاته، وسيتباهى الصائغ بأروع جواهره، وهذا هو الحال مع الكتابة، إنها العمل الذي يأبى ألّا يُقدَّم في صورة جميلة، مهما كانت المادة المكتوبة: قصة، رواية، شعر، مقالة، فكر، خبر، إعلان عن منتج… فلو أن أي من تلك المواد الكتابية قُدِّمت إلينا بشكل لا يليق بجلال الكتابة، فلن يستمر في قراءته أحد.

والجمال ها هنا، في هذا المقام، جمال نسبي، كما هو الحال مع الأعمال الفنية، فالكتابة باعتبارها أحد أفرع الفنون، لا يحدها أسقف أو حوائط، فليس هناك أية قيود أو قوانين، سوى “الاستمتاع” أثناء القراءة، فإن ضمنت استمتاع عشرة قراء، نصفهم قراء عاديون، ونصفهم الآخر قراء متمرسون ومثقفون وكتاب، كعينة عادلة نستطيع أن نعتمد عليها، إذن فأنت كاتب ناجح في أغلب الظن. ليس عليك أن تُقدِّم خلال كتاباتك حكمة ما، أو إسقاط سياسي أو ديني أو تاريخي أو إنساني، ليس من مسؤوليتك ككاتب أن تعرض علينا خلاصة الفكر الإنساني ومعاناة الخلائق عبر الأزمان في صيغة عمل أدبي أو جمالي، كي تكون كاتبًا عظيمًا؛ فبالرغم من أن هذه المحاور هي من مقومات الكتابة الناجحة، إلا أنها ليست المعيار الأهم، فكل شيء يسقط، إن افتقدت كتابتك “المتعة والإثارة”… هكذا أتعامل مع الكتابة.

 أكتب لأنني لا أستطيع التعبير عما بجوفي، سوى بالكتابة.. يبكي الرجل العادي إن تأثر بشيء ما، أما أنا، فأكتب. وبالنسبة لي، ككاتب، تكون أعظم الأوقات “أثناء الكتابة”، بينما أتعسها لحظة كتابة كلمة “النهاية”، لقد انتهت الكتابة / انتهت المتعة؛ ولذلك فالكاتب دائما ما يسعى لكتابة المزيد، إنه لا يأبه كثيرا وهو مستغرق في الكتابة بالمرحلة التي تليها، من نشر وتوزيع وبيع وشهرة، إنما يعيش من أجل لحظات الكتابة نفسها، إنها لحظات من السعادة القصوى التي تطغى على نشوة تلقي قراءات الناس للعمل، والكتابة عنه. ربما هي سعادة وقتية، أما سعادة الكتابة، فدائمة… نعم، أكتب من أجل تحقيق السعادة، وأستمتع بالكتابة.

 الكُتَّاب نوعان: أصحاب الخط الواحد، ومحبي التجريب والتجديد. النوع الأول كاتب يلتزم بنوع أدبي وحيد، يكتب مثلا أدبًا واقعيًا، فتكون كل أعماله واقعية، إنه المضمار الذي يعلم أسراره، يملك مفاتيحه، إنه عالمه الذي ألِفه واعتاد عليه، يخاف أن يهجره، أو حتى أن يستكشف العوالم الأخرى التي تحيط به، وهي العوالم التي يحب دائمًا أن يقتحمها أصحاب التجديد والتجريب، وأنا واحد منهم؛ فكتبت قصص قصيرة مختلفة الألوان، وقصص قصيرة جدًا، قصص كوميدية، وأخرى سوداوية، رواية واقعية، وأخرى فلسفية، وأخرى اكتشفت متأخرًا في مراحل كتابتها أنني أكتب رواية من أدب الخيال العلمي، كنت قد أنجزت ثلثها دون أن أنتبه إلى ذلك.. وأسعى لتجربة كتابة الرواية التاريخية، النفسية، أدب الرعب، الفانتازيا، الديستوبيا… إلى آخره من العوالم الممكنة، وغير الممكنة. 

وأما عما أفضله في الكتابة، سأحاول تلخيص الأمر في فقرة، فأقول: أمتِعني بخيالك وأدبك. اكتب ما يحلو لك واجعلني أفهم ما أقرأ، أقتنع وأستمتع به. لا ضير في متعة عقلية خفيفة، ولكن لا تضع لي ألغازًا ولوغاريتمات. اجعل كتابتك مثيرة، شيقة، جذابة، آسرة. استغل كل أبطالك في صنع الحبكة، ولا تخلق مزيدًا منهم دون داع. ضع نفسك مكان البطل وفكر في جميع الاحتمالات الممكنة. اخلق الإثارة والتشويق من قلب الغموض، وضع بطلك في معضلة حقيقية، تكاد لا تستطيع أنت ككاتب، وخالق للحكايات، أن تحلها، ولا تتوقع مني كقارئ كيف ستجول في مخيلتي الواسعة الطريقة التي سيجرؤ الكاتب على التفكير فيها لحلها… ومع ذلك تحلها، بحنكة بالغة، وإبداع متفرد، وتزيدني متعة وإثارة!

«الأبجدية.. نوتتي»… مارك أمجد
روائي مصري، من أعماله “البطريركية”، (منشورات الربيع).

لماذا أردتُ أن أصير روائيًا؟ سؤال يعيش فنانون كِبار حيواتهم ولا يصلون لإجابة مُرضية حوله، لكن سأخبرك بفرضية كوّنتها في أولى سنوات الجامعة، حينما كنتُ مُتذبذبًا بين الأدب والسينما. رأيتُ وقتها أن المرء إذا ظهر لديه أي حِسّ مُرهف تجاه أي فن، فهذا يعني أنه قادر على ممارسة فنون أخرى. لن أقول خُذْ شارلي شابلن كمِثال، بل أقصد أن بيكاسو كان بإمكانه أيضًا أن يؤلف قصة قصيرة أو مقطوعة موسيقية، لكنه لو فعل، ربما لم يكن ليصبح “بيكاسو” الذي نعرفه. وهنا تتمفصِل حياة المرء منّا، إذا أراد أن يحترف شيئًا، عليه أولًا أن يتحرّى نفسه وأدواته الذهنية والإبداعية، ثم يقرر إن كانت تؤهله ليصير كاتبًا أو راقصًا أو طاهيًا حتى. في مرحلة ما اعتقدتُ أنه يمكنني التعبير عن موقفي من الحياة بالتصوير الفوتوجرافي، لكن في مرحلة أخرى تبيّن لي أن الأبجدية المُكوّنة من ثمانية وعشرين حرفًا ستصير نوتتي، للأبد، ربما. تخيل أن تلك الأحرف التي صيغ بها عدد لا يُحصى من الكتب على مرّ العصور، يمكنك أن تخلق منها سيمفونيتك الخاصة.

الكتابة امرأة حيزبون تضنّ عليّ بالصراحة، فهي تارة تطلب لهو العاشق، وتارة تفرض تهذُّب الابن. لكن الأكيد أن كل حرف تحفره بعرقك في مسودتك، يُطبع كوشم على جسدك مدى الدهر. وأنا أشفق على المُهتمّين، قراءً كانوا أو كُتّابًا، الذين ينظرون لصنعة الحكاية على أنها مجرد تفريغ شُحنات أو خواطر عابرة. في رأيي ليس هناك في الفن الفعّال ما يُعرف بالإلهام. هذه هي المفاجأة التي تنتظر فقط المحظوظين! في الأصل هناك فكرة تحوم، مَنبعها كِتاب أو فيلم أو لوحة تعرّضنا لأي منهم، وكان مُشعًا لدرجة أنه أحرق جزءًا من أدمغتنا. ولتعويض هذا الجزء المُحترق علينا إنتاج شيء ما، نُلهي به ذلك الشبح المُتشبث بأسنانه في ذاكرتنا. تبقى الفكرة وتختمر وتجذب كمغناطيس مُتوحش كل تفصيلة حولها، من حياتنا، من آلامنا وآلام الآخرين، من شذرات قيلت في جلسة سمر أو اعتراف، كي تصير في النهاية مسخًا قادرًا على ابتلاع خالقه ومن بَعده كل قُراء العمل.

يستغرب كثيرون حينما أذكر في حديثي كلمة “روتين” ويتساءلون إن كان الفنان مسموح له أن ينتهج “المواظبة” مثل كاهن أرثوذكسي يوم الأحد. لكن للحقيقة، ماذا يربح الفنان لو ملكَ مواهب العالم أجمع وافتقر لجُهد في حجم حبّة خردل. الروتين هو مَن صنع نجيب محفوظ وفرنسيس فورد كوبولا ومحمد علي كلاي. 

سر أخير، طوال يومي أعتبر نفسي أشياء عدة إلا أن أكون كاتبًا. أعيش حيوات أخرى لأعزب يُجري تصليحات في شقته الموحشة، لمُغرَم طائش يطارد جميلة، لشغّيل صغير في مؤسسة كبرى. أريد أن أخرج من بوتقة “الأديب” طالما أني لا أجلس أمام “الكيبوورد”. إذا أردتُ أن ألمسهم في كُتبي، يتوجب عليّ أولًا ألا أكفّ عن الطنين حول هواجسهم، وربما “فضفضتهم” إذا واتتني الفرصة واختلستُها. الأمر بالضبط يُشبه ذلك الممسوس المهووس في رواية “العطر” لباتريك زوسكيند، حين جال في ضيعات باريس يمتص من أجساد ضحاياه روائحهن الشخصية، حتى صنع بالأخير عطره الخاص. خلاصة القول علينا أن ننغمس بالكامل، حتى متى نضحنا تركنا بُقعًا مُشبّعة.

«أرى القصص خلف كل شيء»… نورا ناجي
روائية مصرية، من أعمالها “أطياف كاميليا”، (الشروق).

عندما يسألني أحد عن الكتابة، أستعيد لحظة بعينها، لحظة انتهائي من نص صغير جداً، مجرد مشهد بدا في خيالي وكأنه كادر، أم تلتقط صورة سيلفي لها ولطفلتها، الكادر ضيق عليهما، لا يظهر ما حولهما، لا يظهر مثلاً القدم المنتفخة والراقدة باسترخاء مستفز على السجادة بجوارهما، لا يظهر الشقة الصغيرة نصف الفارغة، والإضاءة الخافتة، والاغتراب الكبير الذي تغوص فيه الأم، الهوة الكبيرة بينهما وبين الأب، بدا وكأن الكادر الضيق، ينقذها مما حولها، يبعدها، يحد مكانها الحقيقي والأهم، وشعرت بأن هذه الأم ستقدر في لحظة قريبة على الهرب من الحياة الراكدة خارج الكادر.

انتهيت من الكتابة وثمّة إحساس بالخفة يسيطر عليّ، طبعت النص وارتديت ملابسي، قفزت على السلالم متجهة إلى ورشة الكتابة الأسبوعية. على ناصية الشارع توقفت لحظة، الحقيقة أنني كلما شعرت باللا جدوى، أو اليأس أو الكفر بما أفعل، أستعيد هذه اللحظة، المناخ من حولي، الهواء اللطيف على وجهي، وارتعاشة فمي بابتسامة ربما لم يلحظها المارة لكني شعرت بها واسعة وحية. لم أكن أمشي، كنت أطفو على أسفلت الشارع، أطير، تنفسي أعمق، بصري حاد وسمعي ثاقب، بدت الألوان من حولي أغنى، وكل التفاصيل، كل العناصر، كل شيء، من الأكياس البلاستيكية الملقاة على الأرصفة، إلى لافتات المحلات وعمدان النور، أكثر بهاءّ.

الكتابة هي ما تبقيني على قيد الحياة، أقولها فيضحك عليّ الجميع، أو يعاتبوني لأنني لم أذكر أسباباً أخرى، مثل ابنتي وأحبائي وأصدقائي، الحقيقة أنني بلا كتابة لا شيء، كل الأحباء إلى زوال، لكنهم باقون للأبد في كتاباتي، كل شيء ينتهي في الواقع، أما في الخيال، فيمكنني الاحتفاظ به للأبد.

أحياناً، أشعر بمجسات تخرج من جسمي، تتلمس كل ما حولي، تخزنه في خلاياي، ربما حتى تنفصل روحي عني، وتذهب لتأمل مشهد بعيد، لمتابعة تفاصيل لا يمكن أن أعرفها، أشعر أحياناً بعد الانتهاء من نص أنني كنت في غيبوبة كتابية، لا أذكر كيف كتبت هذا ومتى ولماذا، تنعشني السعادة ويتلبسني نفس الشعور بالخفة.

 أضع في الكتابة مشاعري تجاه الموجودات، رؤيتي حتى للذرات الصغيرة التي يتكوّن منها هذا العالم. أرى القصص خلف كل شيء، ترتيب أصص الزرع في الشرفات، الكراسي المصفوفة على الجانبين أمام البنايات استعداداً لاستقبال المعزين، رجل يجر دراجته، يبكي وهو يتحدث في هاتفه، أحياناً من كلمة تخرج عفواً، أو مكالمة تليفونية يجريها الجالس خلفي في القطار.

الحياة واسعة جداً، وفي كل لحظة هناك قصة تُكتب، شعرت وكأن مهمتي هي رصد القصص، تجميعها، التهامها ربما، خلطها بأجزاء من روحي، بعض من مشاعري، أكسجين شهيقي، والعرق النابت على جلدي، ثم إخراجها من جديد.

تجعلني الكتابة قادرة على منح المزيد من المحبة، تريني القبح، لأتمكن من الامتنان أكثر للجمال، تمنحني السلام لأتصالح مع نفسي ومع العالم، وتعلمني أن لا أبيض ولا أسود، فقط درجات من الرمادي. يبدو أنني أكتب لأعيش الحياة كما يجب أن تكون.

«الحاجة إلى كتابتها أمر خارج عن إرادتي»… محمد عبدالله سامي
روائي مصري، من أعماله “درب الإمبابي”، (المحروسة، 2019).

متى بدأ الأمر؟! 

ما بين جملتين؛ الأولى “انت حكّاء كويس جدا لازم تبتدي تكتب بشكل احترافي”، والثانية “عمري ما تخيلتك تكتب روايات أبدا”، بدأ الأمر.

شك رهيب، وخوف من الممكن، ومن هالة الأدب، ومن عظمة من قاموا به قبلًا، هل يجب أن أبدأ؟ إن بدأت دون داعي فقد أكون تجرأت على الكتابة. وإن لم أبدأ رغم وجود داعي فأكون قد خذلت نفسي. وبالتالي كان الأمر كله معلقًا بانتظار الداعي، وجاء الداعي في هيئة قصة. قصة ظلت تتشكل وتتحور وتتشخصن حتى صارت الحاجة إلى كتابتها أمر خارج عن إرادتي، لم يعد بوسعي إلا أن أكتبها، فبدأت.

التجربة الأولى للكتابة دائمًا ما تكون -أو كانت على الأقل بالنسبة لي- مليئة بالشك والتجريب والمسودات الممزقة، بجانب قدر لا يستهان به من الدرس والبحث والقراءة والتطبيق المسلي جدًا، تجربة ثرية حقًا، فيها الشغف بالحكاية دائمًا هو الداعم على الاستمرار.

وبذكر الموهبة، أو لعلنا نطلق عليها الشرارة التي يبدأ على إثرها الكاتب في إنتاجه الأدبي، فهي أمر نسبي وموضع حيرة كبيرة بالنسبة لي، أعني أن اقتناع الشخص بأنه صاحب موهبة هو أمر جلل، يحتاج لقدر من اليقين لا أملكه كاملًا في هذه اللحظة، وقد أقضي فترة أطول في البحث عن دليل دامغ يقر لي أنا شخصيًا درجتها، أو وجودها من الأساس، ولكن على صعيد آخر، أظن أن هذا الصراع لا يجب أن يأخذ أكبر من كونه صراع داخلي للكاتب، وأن يستمر هو في الكتابة بحثًا منه عن نفسه وبصمته أو على الأقل عن صوته الخاص الذي قد يعطيه جزء من الصورة الذي يبحث عنها.

أما بالنسبة لتصنيفات أنواع الرواية، وميل الكُتّاب أو انتمائهم لنوع بعينه فضلًا عن نوع آخر، هو أمر وليد التجربة الذاتية لكل كاتب. فمن وجهة نظري إن المحرك الرئيسي لتلك المعضلة هي الحكاية ذاتها، أو بمعنى آخر نوع الحكاية التي تستحوذ على اهتمامه أو تستفز رؤيته ليبدأ في العمل عليها.

فعلى سبيل المثال، تجربتي الأولى، “درب الإمبابي”، يمكن تصنيفها كأدب واقعي، ربما تميل بشكل ما إلى الغرابة، لكنها ما زالت تنتمي للواقعية، وهذا ما شدني فيها وحملني على البدء في كتابتها. هذا لا يعني بالضرورة أن كل ما هو قادم سيكون في هذا الاتجاه، ولا يعني تمسكي بهذا النوع. ما أعنيه أنني قد أُغرم في أي لحظة بحكاية مغايرة تمامًا لنوع الرواية الأولى، قد أقع في حكاية ذاتية، أو حكايات تاريخية مثلما حدث معي في بعض القصص من مجموعتي القصصية التي على وشك الصدور خلال أيام، “نابليون والقرد”.

غاية الأمر أن الكاتب في بداية الطريق يمتلك رفاهية التجريب، ولا أعني التجريب أي تقديم أعمال تجريبية أو غير مكتملة، بل أعني أنه يمكن أن يطلق العنان تمامًا لميوله في تجريب كل أنواع القصص التي قد تستحوذ على اهتمامه أو تستفز موهبته، ويستمتع بوقته.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع